}
عروض

"منارات لتضليل الوقت".. المرأة والحبّ والذاتية قوى فاعلة

إدريس سالم

4 أغسطس 2022

 

إن أردت الحقيقة أيّها الخيال فحرّر نفسك من ذهني، حرّرني مني/ من ذهني. الخيال مكان ملائم لاكتشاف/ لإخفاء الحقيقة، هو عالق في الماضي والحرب. صوت متعرّق من رائحة الحروب، يشمّ الأنقياء/ النقيات، هاربًا من حوّاس فاسدة. إن أردت شعرًا حقيقًا نقيًا فاقرأ لمَن يقترب من روح المعنى/ النصّ بأسلوبه، بلا أيّ مواربة أو زخرفة، فهذا الاقتراب يكشف عن كتابة جمالية متعدّدة المعاني والرمزيات والمقوّمات، يقبع في ظلالها وبين جذوعها مزاج شعري وحضور شاعري خالص، دافعًا بالذات للإمساك بالخيال المجنون الذي يبحث عن كينونتها الضائعة، دافعًا بالمنارات لتضليل مدارات الوقت ومنح النصّ الشعري اتّصالًا/ ربطًا فلسفيًا بالحياة والذات والتجربة الشعورية.

كلّنا نكتب، ولكن هل كلّنا بكتابتنا وكتاباتنا نقاوم الواقع ونكافحه؟ نقاوم/ نتمسّك/ نتماهى مع قضايانا الإنسانية الشعورية الخاصّة، دون أن نغرق في التفاصيل المشوّهة التي من الممكن أن تفقد القصيدة أو الأدب شموليته وخصوصيته وهويّته؟ هنا، وفي هذا الكتاب الشعري، هناك صوت يعتمل في النفس والكتابة معًا عن استفسارات الكون وقضايا إنسانية حبيسة لدى ألوان التكنولوجيا التي مزّقت الحضور الإنساني وأفقدت من خصوصياته وسموّ أفكاره وعلاقاته بملامحها الباهتة ورسالتها المؤذية لمَن لا يعلم كيفية ركوبها.

أن تتحدّى الابتذال والابتذال الروحي بالتحدّي والإصرار على البقاء وتحقيق غايتك السامية من الوجود هو أمر يتحتّم على كلّ كاتب حقيقي بكلمته العظيمة ألا يحاول أو يحدّ من محاولاته لتأسيس توازن بين عقله وقلبه، بين النصّ وهويته، ذلك أننا لو منحناهما المساحة الكافية من الألم والحرّية لخلّصانا إلى آفاق أكثر أمانًا وروحانيةً.

تتميّز قصائد "منارات لتضليل الوقت" (دار النهضة العربية، لبنان 2021) للشاعرة اللبنانية حنين الصايغ بغرائبية الخيال المشحونة بصور سريالية، وكأننا أمام مخلوقات لعلّ أكثر صفة تعرّفنا عليها وعلى ماهيتها هي أنها مخلوقات غرائبية غير مألوفة، ترغمنا البلاغة على تفسير ما لا يفسّر منها، إلا أن هذه (الغرائبية) مدهشة وصادمة بدفقاتها الشعورية واللاشعورية، ووفية لحرّية تعبيرها نحو رمزية سهلة وممتنعة في آن واحد، تطبع اللغة بصورها السامية ورؤيتها الشعرية، لتنحت ملامحها الخاصّة كامرأة وشاعرة داخل متون الشعر، برغبة قوية في توطين اللحظة الهاربة أو توثيقها ببناء دلالات الصور وإشاراتها:

حلمْتُ أنّي تحوّلْتُ إلى شجرةِ برتقالٍ
حلمُها أن تعيشَ تحتَ نافذتِك
وأنك رأيْتَ الشجرةَ،
وبحثْتَ عن عينيّ بينَ أوراقِها
وأن وجعَك نضجَ هناك.

نلجأ إلى الشعر العظيم؛ لنعيش آلامنا النقية وآمالنا المستعصية بواقعية حقيقية وإنسانية إنسانية، وبذلك نكون قد ارتقينا إلى الاقتراب من معاناة الإنسان الآخر بعيدًا عن خلفياتنا العرقية والعقائدية، تاركين التعصّب، وإلغاء الآخر بتحرّشنا وتعنيفنا واستغلالنا، ومحدودية انتماءاتنا وهوياتنا، في المقابل "منارات لتضليل الوقت" لا تملك أيّ صراع على هوية الكلمة الشعرية انتمائيًا أو فلسفيًا أو حتى لغويًا، فهي تتوجّه بتجلّيات رمزياتها نحو هوية واحدة (إعطاء هوية الإنسان للإنسان)؛ كي يبقى خارج خضوعه أو حربه مع الصراعات الطبقية والبقائية، ومنحه حرّية ألا يفكّر لأن يخضع للتبعية أو الوصاية وسجن نفسه في دوائر مغلقة عفنة:

تخيّلْ معي امرأةً
لا تعرفُ الجوعَ
ولكنّها مريضةٌ بالعطش
وإن حدثَ وجاعَتْ
تأكلُ قلبَها
بيدين عاريتين
لا بالشوكةِ والسكين.
امرأةٌ تكرهُ الفيزياءَ
ولكنّها تعرفُ الفرقَ
بينَ الجاذبيةِ والسقوطِ
ترى الاحتمالاتِ القائمةَ
بينَ الدمِ والجرحِ
بينَ الزّهرِ والثمرِ
بينَ عينيك وقلبِك
بينَ الحبِّ
واللاشيء.

إن المرأة والحبّ والذاتية هي قوى فاعلة في مجموعة حنين الصايغ الشعرية، تنفتح بقضايا شائكة ومعقّدة، بمدى تحقيق عدالتها، أو تفسير كمائنها، أو إزالة الغبار الجائع العطِش عن مراياها، لتتوجّه إلى الغوص فيها، وتحريضها على التمرّد ضدّ نفسها قبل أيّ شيء آخر، فهي (المرأة والحبّ والذاتية) قوى/ مسائل/ إرث قيّم وعظيم بمكنوناتها الخاصّة لتصرخ في وجهنا: "الإنسان الذي لا يملك نفسه لا يملك شيئًا". إلى جانب ذلك هناك الانفتاح على العالم الشعري باستثمار اللسان/ اللغة وصياغتها لخيالات خامّة في روح كلّ قارئ (فذّ)، وبالتالي هذه القوى تتقوّى وتزدهر مع اختلافاتهم وإبداعاتهم، وبالتالي اختلاق حالة جديدة/ أفكار جديدة، تتجذّر/ تتأثّر ثنائيًا بين المؤلّف والقارئ، فهي (حنين) تقيم/ تسكن في لغتها الشعرية وتتماهى معها بوعيها ولاوعيها، لتكون مرّة متواطئة بانكساراتها الأنثوية مع لغتها/ ألمها الأمّ، ومرّة أخرى تحاصرها فتكشف عن أسرار مستترة فتنتهك حرمتها بنقائها الشاعري/ شاعريتها النقية، أيّ أنها لا تعرف الهمود ولا السكون. هي تكتب بمعان هاربة ساكنة في جداول النصّ الفائضة عن الألفة الجميلة، سواء لفُسُحات متاحة أو متاحة بها، وأخيرًا شعر نقي خالٍ من تلوّث فكري أدبي مشوّه، فتقول في "تآويل القبل":

يسقطُ الصِّبيةُ في أوّل فخّ
تنصبُه لهم الرجولةُ
حين يُلبسون الشعورَ بالذنب
فضيلة التجربةِ
هكذا يمتدُّ الخدرُ
إلى القلب
هكذا تُفسدُ رائحةُ التبغِ
القُبل.
لو أن الإنسانَ يستطيعُ
أن يكفَّ عن لعب دورِ المُنقذ
لو يتوقّفُ الرجالُ
عن محاولة إنقاذِ أُمّهاتِهم
وتكفُّ النساءُ
عن محاولة إنقاذِ أولادهنّ
لكنّا جميعنا راشدين.

 


أن تفقه أسرار الذات والإنسان والحياة والكون وتدرك قدسية الألم إذًا أنت أكثر مَن يتألّم وعيًا ونضجًا، فنحن الكائنات الهشّة الفاقدة لقدسيتها وحقيقتها – سواء إجبارًا أو اختيارًا – عندما يتملّكنا الأحاسيس المليئة بعجزنا الإنساني أمام فجائع الحاضر والخوف من القادم، وسط غياب وفقدان المعنى، وسط توحّدنا ومحاكاتنا للاجدوى عندها سنقول بأن العيون ستذهب وستبقى الالتفاتة، ستذهب الوجوه والشفاه والعيون وستبقى الحقيقة والقبلة والنظرة، فتقول المجازة في اللغة الإنكليزية في نصّها "آلهةٌ تشبهُ عجزَنا"، مفصحة أن اللاجدوى يوحّدنا ويساوينا بالآلهة:

فوقَ سطوحِ بيروتَ يموتُ الحمامُ
جوعًا
مَن يبذرُ الحبوبَ
ليس له يدان
الخبزُ يغذّي الجوعَ في هذه المدينةِ
والنومُ يغذّي الغياب.
متخمٌ هذا الكوكبُ بالوجوهِ والأسماء
بالضحكِ والبكاء
بالتصفيق
ولكنّ الأيادي اختفَتْ
ماتَتْ
غرقَتْ مع آلهةِ أطلانتس.
كيف أواجهُ يديّ
بهذه الحقيقة؟!

تضعُنا في عالم يتحرّك ما بين ملَكتي التخيّل والواقع، محاولة تفهُّم الجمال وفصله عن غبار القُبح الأخلاقي والفكري واللغوي/ الشعري الذي يعانيه اللبناني خاصّة والعربي على وجه الخصوص، تحمّل على ظهرها صورًا وأصواتًا قاسية على رقَّتها، فتلعب بالأحاسيس ومفرداتها ذات النزوع الإنساني، والتي تتحوّل إلى أشكال غريبة، إلى لوحات ألوانها ذات مؤثّرات بصرية، آخذة إلى الارتقاء بالمادّي كي يتسامى الشعور، وذلك ما كان واضحًا في قصيدتها "حصاة في داخلي"، عندما تقول:

الحصاةُ التي كانَتْ تسندُ الخابيةَ في داخلي
نبتَتْ تحتَها زهرةٌ
كلُّ هذا الخراب يُعرّي ويثمل
أنا الآن عاريةٌ
وأقفُ على قدمٍ واحدةٍ.
فقدْتُ يدي حينَ رفضْتُ
أن أكونَ ساعي بريدٍ
يحملُ رسالةً من رجلٍ ميْتٍ
إلى رجلٍ ميْتٍ آخر.
النساءُ لا يكتبْنَ الرسائلَ
النساءُ فقط يوصلْنَها
ليحافظْنَ على وصايا الأموات.

الدخول في تفاصيل الأرق الوجودي والمعاناة الفردية، كعلاقة الإنسان بجسده ذاتيًا وما يؤرّقه، بالحبّ وتماديه وحضوره، بالمرأة وربط حياتها بالموت في المجتمع الشرقي، بمرارة الغربة، بالألم وسطوته، والانكسارات والخسارات الأولى، يمكن أن يحمله ذلك العنوان "منارات لتضليل الوقت" بأكثر من تأويل وتعليل ورسالة، هو أن يوحي بأشياء غريبة ومختلفة لقرّاء حقيقيين مختلفين مستأنسين باللغة والموسيقى وصخب النصّ وهويته وكينونته، هو أن يطرح تناقضات جلية، جامعة بين إصرار الإنسان على الوضوح والجرأة ومواجهة الخطأ والأذى، وخوفه الأزلي من المستقبل، الذي بدا أن لونه باهت وقاتم، أمام ما يظهر على الوجه من آلام ومتاعب، فتقول معلنة أنها ابنة المنارات المشعّة وحارستها، ابنة الصور ومالكة أسرارها ورسالاتها، ابنة الورق الماحل، ابنة موسيقاها الشعرية المطعّمة بأوتار إزيو بوسو[1]:

غالبًا ما يصابُ حُرّاسُ المناراتِ
بالجنون
غالبًا ما ينتحرون
ولكنّ لي مع المناراتِ قصصٌ أخرى
خيالاتٌ جامحةٌ
في المنارات البعيدةِ
أتذوّقُ عسلَ لهفتِك
قطرةً قطرة
ويأتيني الموتُ
بغير جنونٍ ولا انتحار
يأتيني
مسالمًا وشهيًا
معلنًا انتصارَه على الوقت
والفقدِ
وعلى خطوطِ وجهي.

إن حنين الصايغ لا تبحث عن الكمال وكمالية المرأة والحبّ والذات، باعتبارها قوى فاعلة في مجموعتها الشعرية هذه، بقدر ما تعتبر الكتابة تعبيرًا صارخًا عن إنسانيتها، ومحاولتها لإظهار أو وصف جسد المرأة – الذي فيه تلك القوى – وتحريرها عن طريق التمرّد على قانون التقاليد والعرف السائد الهالك، وسعيها الدؤوب لالتقاء الذات عند اللقاء بين الجنسين. وتظهر لغة التحرّر هذه عند غوصها في وصف دواخل المرأة، والتوغّل في حيثياتها الصغيرة، بقيمها وعظمتها، وخاصّة التركيز على المناطق الحسّاسة التي يجهلها الكثيرون منّا، كالصدر، باعتباره منبعًا لإرواء الحبّ والنسل البشري، وممانعتها لأن يُمارس عليه التعنيف أو الرجم أو إسكات جوع الشهوة. وكالعيون، والتي بها نبصر عن عوالمها الخفية. وكالروح، التي يتغنّى بها كلّ رجل ذكر، لكن تكاد تنعدم وجودية الرجل الحقيقي، ذاك المدرك لقدسيتها.

اعتمدت الصايغ لغة شعرية سلسة متحرّكة، عبر مزجها للكثيف التخييلي مرّة، ومرّة أخرى عبر السرد، جاعلة من الاستعارة والتشبيه آلية الوصف الأولى، خالقة بذلك عالمًا رمزيًا يختلط فيه الملموس باللاملموس، والخيال الغرائبي بالواقع المُرّ، واللغة بالرمز.


[1] إزيو بوسو: مؤلّف وموسيقار إيطالي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.