في مجموعتها الشعرية الصادرة حديثًا بعنوان "ملاذ سريالي" (مكتبة ابن خلدون ـ صنعاء)، تقدم الشاعرة اليمنية المقيمة في السعودية، هناء محمد راشد، في مجموعة قوامها أكثر من 100 نص وأكثر من 200 صفحة، قصيدة مشحونة بالحياة، بالحب، بالأمل، بالشوق، بالرحيل، مستندة إلى تفجر لغوي يدفع بكتابة غزيرة إلى الواجهة، مشتبكة مع حياة مليئة بالصخب والمفارقات تنكتب في نصوص محمولة بالفرح والوجع في الآن ذاته:
حاولت أن أقول لك قبل أن تغادر
إن المواعيد زائفة
لا ترتدي صدقك بالكامل
رشّ حزنك على ملابسك
واترك مسافة معقولة للذكريات
حتى لا أتبعك أيها الصوت.
ثمة حنين يكبر ويزدهر في قلب الشاعرة، منذ عتبة الإهداء: إلى المرأة التي تنمو بداخلي وتزهر بالحنين في قلبي، إلى أبي وأمي وذلك اللقاء الذي لا يأتي.
في يوميات الحياة، أو بالأصح في (كومة قش) كبيرة، على حد وصف الشاعرة، يمكننا العثور على كثير من الأشياء ضمن مثاقفاتنا الاعتيادية مع الناس في المحيط من حولنا، غير أن رموزًا خفية تتموضعها النصوص في سياق البحث عن الآخر، ففي خضم يومياتها، تجد الشاعرة أسماءً وعناوين، غير أن ثمة عدمًا بينهما، كما أنها تجد صورًا وعطورًا لكن أطلالًا تتداعى بينهما في مشهدية كاريكاتورية لحياة متناقضة بالكاد تجد فيها وردةً وضحكة وحياة هانئة من دون أن تقفز الندوب والجراح والإخفاقات لتضع عراقيل ومسافات ووحشة:
وجدت أسماءً وعناوين... وعدمًا بينهما
وجدت قطيعًا من المجهولين... وحبًا بينهما
وجدت امرأة وجرحًا... ورجلًا بينهما.
نصوص مطلسمة
لم تخرج معظم نصوص الكتاب عن أجواء العشق، وآفاق اللحظة المنهوبة بمعتركات لا آخر لها. وفي فضاء كهذا تظل اللحظات المقتطعة ضمن التفاعل الودي مشوبة باهتزازات ونواقص وتبعات أكثر فداحة من المتخيل، عندما تتشابه مآلات الاقتراب والابتعاد معًا، ويصير بوسع العاشق السفر في البحر مصافحًا موجاته بيد مرتعشة:
إذا اقتربت منك موجة تعيسة
نادِها
تحدث معها
ناولها يدك،
ثم دعها تذهب صوب البحر.
وتترك الشاعرة ـ في خواتيم نصوص كثيرة ضمن الكتاب ـ ما يشبه النهايات المعلقة لبوح مطارد بمشاعر اليأس ضمن انطباع مسبق، بينما ترتعد خائفة وهي تبحث عن "قشة" تقصم بها ظهر الجنون، كي تعود إلى السكون، ولكي تكتب عن لقاء (مكتمل) لم يتحقق، من دون تدخل من اليأس والذكريات المحطمة.
وتقترح حلولًا وأفكارًا في سعيها الدؤوب لتحقيق السعادة التي هي ضالة كل عاشق (كل إنسان) يشتبك مع المستحيلات ومعابر الحياة الموصدة، معترفةً بصخب مزلزل في أعماقها، بينما تحلم بنشر السعادة في أرجاء الكون المزدحم بمشاكله وهمومه:
السعادة تجعلنا أكثر خفةً ووضوحًا...
سأذهب لجلب المستحيل،
كنت دائمًا في جنونٍ داخليٍ مع نفسي
حتى وصلت للبر وأصبحت من البشر.
لكن أقصى ما تصل إليه الأحلام والأمنيات، وما أكثرها في رأس الشاعرة، هو أن تتشكل في فضاء من الخيال، ثم تصير قصائد في عالم سريالي بعيد عن الواقع المعاش، عندما تنكتب على الورق وتصير مشاريع أحلام عن الحب والوطن والحدود الفاصلة بين حبيب وحبيب وبين وطن وآخر، حيث ظروف الحرب، وغيرها، تسيج الحدود بين بلدان هنا وهناك بنوع من الاحتراز والتشديد، لتذهب الشاعرة وتحلق على امتداد جغرافيا من صنع خيالها، الخيال المتجاوز والعابر للحدود والمسافات والعوازل، بينما أقصى حلمها وطن غير محترب:
رسمت الكثير من الخرائط
أزحتُ الحدود
جعلت البحار باللون الأخضر
الغابات باللون الأزرق
ووطني شديد البياض
أبعدته عن خطوط الحرب،
مارست الدور الذي أحبه
بدأتُ بالكتابة.
تكتب راشد نصوصها بروح دافقة مثل شلالات ماء تنبع من جبال تمضي إلى منحنيات وأودية شتى، وإذ تتبع تقنية النصوص القصيرة التي يتخذ كل منها عنوانه الخاص إلا أنها تحوم في أفق يتصيد الأمل فتحشد ما استطاعت من الكلمات لتؤثث قصيدة تطلع من الصفر كاتبة نفسها وماضية في تحقيق ذاتها بشيء من الاسترسال والهستيريا الواعية بما تذهب إليه عندما تحاول "الهروب حافيةً دون روح"، كي تكتب عن غيبوبة تقوم على اللهو المتخيل وصولًا إلى لحظة موت (متخيلة أيضًا) هاربة من عالم مليء بالمعارك والصراعات والفزع والخذلان:
اللقاء بالموت يشبه الفرح والسكينة
نوم بدون إزعاج
جسد في مأمن من الأيام المبتدلة ومواسم الوحدة ونشرات الأحوال الإنسانية.
***
نشير إلى أنه قبل "ملاذ سريالي"، كانت هناء راشد أصدرت أربع مجموعات شعرية هي: "الوقت صفر"؛ "إلى آخره"؛ "ثورة الصمت"؛ "تعويذة إنسانية". ودأبت الشاعرة على طباعة حصاد النصوص التي تكتبها على مدار العام ضمن كتاب شعري، وهي بذلك تنجح في تكريس الموهبة لكتابة تحاول أن تكون جديدة عن سابقتها، وفي المقابل تتحرر من تراكم منجز مكتوب لحساب التفرغ لمنجز قيد الكتابة، وإن كان معظم ما أصدرته عن المكتبة اليمنية نفسها (ابن خلدون) وهي في الأساس مكتبة تجارية تعد من أهم مراكز بيع الكتب في مدينة صنعاء، وواحدة من عشرات المكتبات، بعض منها أغلق وتهاوى في ظروف الحرب، غير أن "ابن خلدون" صمدت، بل وأسهمت في ظل توقف فعالية معرض الكتاب السنوي في البلد، في إقامة (والمشاركة في) معارض عدة مصغرة للكتاب. ويأتي ذلك تماشيًا مع ظروف صعبة تحيط بتفاعلات انتشار الكتاب اليمني، إذ لا تزيد الطبعة الواحدة في المكتبة المشار إليها عن مئة نسخة، في معظم الأحوال.