}
عروض

في تشريح الحمق البشري

فدوى العبود

20 نوفمبر 2023


في قراءة للحمق البشري: كل قولٍ هو اتهام للذات، وبحسن نيــــّة يمكننا أن نتلاعب بالكلمات، ويكفي أن نضفي على ما نخترعه هالةً ليُصِبح قابلًا للتصديق: "أن ننفخ في العجل الذهبيّ حتى يعبده الناس!". واليوم، لن يأتي موسى ليــردّ قومـــهُ عن غيّهم، محرِّمـــًّا على السامريّ الاقتراب منهم علّهم يثوبون إلى رشدهم. ولكن إن غفلْت عين النبوة، ألا تعاد فتنة السامريّ مرةً تـــِلو أُخرى! في عالم يعتدّ بتزييف الحقيقة وحــَرفِها، وينتهك حقوق أصحاب الأرض ثم يعاقبهم لأنّهم تألمّوا. سيتجدّد سؤال الحُمق وسيولد سامريّ جديد. فأي معنىً للألم، وأيّ قيمة في حاضرٍ تتحكم فيه قلّة بالجموع التي تنساق مُسرنمةً بخداعِ الساسة ومن شاكلهم؛ ألا يمكننا الاتفاق مع رواةِ الجوزيّ في "أخبار الحمقى والمغفلين": "أنّ الله خلق آدم أحمقَ ولولا ذلك ما هناهُ العيش"!
وقبل أن نبدأ حكايـــــةً عن تاريخِ الغباء البشري، لا بدّ من أن نملأ الفراغ الأول في الحكايـــــة؛ فالأسئلة التي لا تسهِّد بضعة أفراد، بل ترسم مصير نوعٍ بأكمله مغامرة مجنونة!
فلماذا نصدق الهــــُراء، ومن الذي دفعنا بعيدًا عن أنفسنا. وهل نحن أرقى من الرجل البدائيّ الذي يثقِّب جسده حدّ تشويهه من أجل بضع أفكارٍ خرقاء؟ ماذا عن الجندي الذي يرتدي خوذته ليقاتل رجلًا لا تجمعه به معرفة شخصية! أو الذي يشرب لينسى بؤسه ويشعر أنه ملك! وما هي الأفكار التي تحرك الكائن البشري في جنوحه للهدم والتشويه! من يستطيع التحدث عن العقل في هذه الظروف التي نعيشها؟ وهل نثق بعد الآن بتصريحات الساسة التي تتّسم بالقصور الفكري والروحي وانعدام البصيرة؟
أي منّا قد تنتابه أسئلة مغامرة مجنونة لفهم التاريخ المبني بحجرِ الخرافة. لذا، وفي قراءة كهذه، سندخل أرشيف التردي البشريّ من أشدّ أبوابه غباءً في مقالةٍ يجدر بها أن تكون في منتهى الحمق.
قبل الميلاد، وفي خضم الوثنية، تجرأ سقراط واصفًا الخرافة بالسخف، داعيًا للمعرفة، واثقًا بالضمير الفردي وبالعقل، وكوفئ من الضمير ذاته بشراب الشوكران. وفي سياق آخر، مات غاليليو غاليليه القائل بكرويـــّة الأرض ـ والذي قيد بالسلاسل ـ مُهانــــــًا ومُذلًا.
كتب سارتر، وفي سياق معارضته لأستاذه هوسرل: إنّ الإنسان في وجوده الحي المتدفق لا يتعالى على وجوده، وفي اللحظة التي يفعل، تولد الأزمات، ويسود الدمار والقسوة والخرافة.
ومن هذه النقطة يناقش عالم الفسيولوجيا والطبيب الفرنسي شارل ريشيه (1936 ـ 1850)، في كتابه "الإنسان الأحمق" الصادر عن الدار الليبرالية (2023) بترجمة جهاد وجيه محمد، فرضية "الإنسان العاقل"، والتي ترى فيه نوعًا متميّزًا يفوق الكائنات الحيـّة.
يتألف الكتاب من 24 عنوانًا، يتحرى من خلالها عبر المخاتلة، وبلغة ساخرة، مظاهر العنصريـــّة في العلم الأوروبي ـ تحفة الخليقة ـ والإنسان الأوروبي في احتقاره لغيره من الأجناس والأعراق المنحطة أو الهمجيّة؛ لأنه وبخلافها أنتج المسرح والفن والموسيقى. كما اخترع السفن المدرعة، وابتكر الطائرات "رائع لكنه يستخدمها لتدمير سفينة أخرى، وتحليق المركبات الجوية لا يتم فوق المدن الآمنة. فهل هو لنثر الورود أم لزرع القنابل؟"، يتساءل.
إن الزنجي يعلم عند خرقه لشفته، أنه سيعاني، ومع ذلك يأخذ هذه القطعة من الخشب ويغرسها صابرًا في لحمه، لماذا؟ "لأن لديه أفكارًا خرقاء هي الأخرى بالمطلق". هذه الأفكار هي التي تؤدي إلى الحمق البشري، وهي ذاتها التي تدفعه لإضفاء هالة قداسة على طفل في المهد لأنه ابن ملك! يسأل ريشيه: ما الذي يدفع عشرة ملايين من العبيد يعانون من دون تمرد، ويسيلون العرق إرضاء لشخص مثل خوفو! "والأهرامات ليست صرحًا رائعًا فحسب، بل شاهدًا رائعًا على جنون بشري دفع شعبًا بأكمله لنقل وتكديس حجارة ضخمة على مدى ثلاثين عامًا، لغرض وحيد هو بناء قبر للملك".
وهذه الأفكار هي التي دفعت الغباء البشري إلى مداه، فعاملَ من استعبدوه كأنصاف الآلهة؛ وما يفاقم بشكل رهيب من عبودية الشعوب هو ما يحيط بالملك من حرس ملكي وقوات جشعة وفيلق من الجائعين، فغالبية الحكام المستبدين كانوا يفتقرون إلى الموهبة، والذكاء والفضيلة، وكانوا أقل قدرًا من أسوأ رعاياهم (سوء خلق لويس "الحادي عشر"، ورذالة " لويس الخامس عشر"، ومجون "هنري الثامن"، وعته "كاليغولا"، وجبن "نيرون")؛ والإنسان هو الوحيد بين الكائنات الذي يطيع من يستعبده.




صحيح أن كائنات "كطيور البطريق وقرود الماندريل" تعيش في مؤسسات اجتماعية، ولقائد العشيرة امتيازات محدودة بإعطاء إشارة الفرار، أو الهجوم، لكن "ليس لدى هذا خدم يخدمونه، ويتفادون قفزات الطبع لديه، ويسايرونه في دعاباته؛ كما أنه لا يسكن في قصر شيّدته البطاريق، ولا يرتدي ملابس مزركشة. وليس لديه الحق في المفاخذة والنهب والتعذيب بحق المستضعفين من قطيعه".
في معركة "إيلو"، كان نابليون يهمس بابتسامة عريضة وهو يتأمل الجثث التي كدّستها غطرسته على الأرض "ليلة واحدة من ليالي باريس كفيلة بأن تصلح كل هذا"!
لا بدّ أن مغانم الحرب كثيرة، لجنود حصلوا على أوسمة، ولعشاق الانفعالات القوية، ولكتّاب متفاصحين لم يضحّوا بشعرة من رؤوسهم، فاكتسبوا شهرة الأبطال وهم يصرخون بالوطنية والانتقام؛ وما يلفت النظر هنا ليس الدماء، بل الألم الذي يتبقى للأمهات، والحياة المسمومة لمن فقد عزيزًا. يكتب ريشيه "لقد تمرغت البشرية جمعاء بالأوحال والدماء، ولا أعرف أي لذة وخيمة قد وجدوا فيهما".
وإذا كانت الطبيعة تفرز في سيرورتها الأضعف لصالح لأفضل، فإن الحرب تعمد لمثل هذا الفرز بطريقة معاكسة، فهي تقضي على الشجعان والأصحاء، وتبقي حثالة البشر، ولوثة الحرب أتت من الأفكار الخرقاء ذاتها؛ "تخيلوا مدينة تكرس كل ليلة من لياليها لتنظيم حريق ضخم، من أجل إعطاء رجال الإطفاء فرصة رائعة لإظهار شجاعتهم، ونظم القصائد لهم، ونحت تماثيلهم".
ويطاول نقاش ريشيه المعتقدات والخرافات التي تمتزج بالدين، ومن خلال دحض هذه الخرافات، وصولًا إلى سموم الحضارة، وأحدها الكحول، فقد توصل البشر عبر العمل والإصرار إلى إيجاد منتج جديد يضاعف بؤسهم وخبلهم، "حيث تهرس عناقيد العنب الجميلة واللذيذة، وتسخن وتشوه وتنبعث منها رائحة مقززة، ثم يسارع بعض الجلفاء للقفز نصف عراة في الحوض وتلويث هذا الغذاء بالهوام الجرثومية وغير الجرثومية"، لخلق جيش من المدمنين ونزلاء المصحّات.
أهم الأدلّة على حمق البشر التشويه الذي يمارس على الجسد الإنساني باسم عمليات التجميل، وتغييره عبر الوشم وأشكال التشويه. هذه العادة التي انتقلت للطبقات التي تسمى راقية تدلل بوضوح على أن "الجنس البشري هو الوحيد من بين جميع الكائنات الذي يبني سعادته بفرض الندوب والتشوهات على نفسه".
وفي الفصل المعنون "عن عظماء هذه البشرية" نجد غاليليو منحنيًا أمام الغباء، وسيقضي حياته ـ بعد أن أصيب بالعمى ـ في الزنازين، وسنعثر على ديكارت غريبًا في أرض بعيدة. أما لافوازييه، الذي أنجب أجمل علمين هما الكيمياء الكاملة، وعلم وظائف الأعضاء الكامل، فقد قطع رأسه بالمقصلة.
وما يلفت النظر أن البشرية لطالما تساهلت مع أصحاب الفكر الضحل، ورعت الجبناء، وحاربت المميزين الذين سعوا بسذاجة للتخفيف من غباء البشر. فكيف نعتد بكائن يزين سلوكه الغبي بالمعنى؛ فيؤذي باسم العقيدة، ويقتل تحت عنوان الأرض الموعودة، ويمكن لأخرق، وبذريعة الآلهة، أن يقود ملايين لتقتتل.
في هذا الكتاب، يعيد ريشيه تعريف الاستثناء، والشجاعة، الألم والمقدس، التضحية والموت، متتبعًا الأفكار الخرقاء التي توجه مصيرنا. فهل كان يوليوس قيصر استثنائيا، أو حتى نابليون؟
"إذن، سلطة هؤلاء لا تعتمد على جدارتهم، أكثر من اعتماد أزهار أشجار التفاح على هجرة سمك الرنجة".
لا شك في أن الدافع لإصلاح الحمق البشري يحتاج ما يوازيه سذاجةً امتلكها قلة ليغامروا بمحاولة التغيير، فدفعوا ثمنًا غاليًا. يكتب ريشيه "ليس لدي الافتراض المجنون لأقترح بدوري نظامًا إصلاحيًّا، فالبشر بأهوائهم ومصالحهم وحماقاتهم سيحيلون حُججي إلى رماد".
لكنه، وفي لحظة سهو، سيحلم بلغة عالمية برموز بسيطة، لتكون وسيلة تواصل بين البشر؛ ناسيًا أن اللغة على عظمتها أهم وسائل سوء الفهم. لا يفقد ريشيه الأمل في الإنسان، لقناعته أنه ليس أمرًا مقبولًا أن ننعت بالغباء، كما أنه من غير اللائق أيضًا تقديم الدليل على ذلك، وفي هذه الدراسة يهزّ قناعة ما نعتقده في أنفسنا، انطلاقًا من أنه يجدر بنا قول الحقيقة مهما كانت مُرّةَ ومحُبطة.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.