انتصر الكاتب العماني زهران القاسمي في روايته "تغريبة القافر" التي فازت قبل أيام بجائزة بوكر العربية (صادرة عن دار رشم بالسعودية ودار مسكلياني بالإمارات 2022) للأرض وتفاصيلها، من خلال ما زرع في متنها من قيم جمالية وفكرية ومعارف متعددة تُعلي من هذا الطرح وتروج له، وقد اعتمد في هذا على ثنائيات ضدية بثّها في كل فصل من فصولها، ليتجلى المعنى الإنساني الأكبر بصورة أكثر وضوحًا، بعد أن جعله يستظل تحت الثنائية المحورية (الرواء/ العطش) التي تفرزها الأرض، انطلاقًا من حياة الانسان المرتبطة بمدى حضور الماء وغيابه، خاصة لدى الفئات المُجتمعية التي تعيش في الهامش ولا تملك الإمكانيات الضرورية لتوفير هذه المادة الأساسية في وقت مضى. وقد اختار زهران القاسمي في رسم هذه الأبعاد فضاء قرويًا صحراويًا قاحلًا، تسكنه مجموعة من الأفراد، تتشابك في طريقة العيش والحياة، يعتمدون في نمط عيشهم على الزراعة وتربية الحيوانات والعمل اليدوي الذي توفره هذه القطاعات، بعيدًا عن تفاصيل المدن الكبيرة ومشاكلها المختلفة ومهنها وحرفها، وكأن زهران ذهب صوب هذا الفضاء لينتصر له، ويقدم عن طريقه قراءة سوسيولوجية، ويٌقرّب القارئ من هذه العوالم التي يجهلها عادة، خاصة وأن مدونة الرواية العربية بشكل عام تذهب صوب عوالم المثقف والطبقات المتوسطة والأساليب الحياتية الباذخة، وتتناسى في الكثير من الأحيان عالم البسطاء، أولئك الذين يعيشون في الطبقات السفلى، ولا يمكن لكتاب الرواية أن يذهبوا صوبها، طبعا هناك استثناءات قليلة، لكنها لا تصنع في مجملها توجها، ورواية "تغريبة الغافر" من بين هذه الاستثناءات، حيث قام القاسمي من خلالها بخلق مقاربة نموذجية لمجتمع القاع، في صراعهم اليومي مع ظهور وغياب الماء، وما تعكسه هذه المادة التي ترمز للحياة والنماء والنظارة والخضرة.

الشخصيات: تشابك القول والفعل

استطاع زهران القاسمي أن يخلق في روايته شخصيات متلاحمة مع بيئتها، انطلاقًا من طريقة تفكيرهم وتصرفاتهم وتعاملهم مع بعضهم أو مع الآخر، وحتى في إظهار مرجعياتهم المختلفة، تعكسها طريقة عيشهم وعزلتهم وما ينتج عنها بشكل عام، إذ لم يجر مثلًا عن طريقة أحد شخصياته البسيطة حديثًا عميقًا عن نظام الحكم أو أبعاد الفلسفة أو وصف آلات حديثة، لأنه هذا المعطى سيولد عنده انفصالًا في طريقة بناء ونحت الشخصية، وهو ما عمل عليه زهران بجد، لهذا نجد هذا الالتحام والتشابك في القول والفعل لدى الشخصيات، ومن بين تلك الشخصيات الرئيسية نجد سالم بن عبد الله صاحب كرامة اكتشاف الماء عن طريق سمعه، والوعري الذي تخلّت عنه أمه لأنها اعتقدت بأن الجن استبدله لها، لهذا طردته من البيت، وشخصية كاذية بنت غانم التي تعكس الطيبة والتضحية وكتم الأسرار والقوة في بعض الأحيان، وصديقتها المرضعة آسيا بنت محمد، إضافة إلى شخصيات أخرى لدى كل واحدة قصة ومرجعية تثري الرواية، من الذين يؤمنون بالقوى الخارقة التي تعكسها عوالم الجن المخفية، يتطيرون من العين والحسد واللعنات، كما تحاصرهم قصص الخرافات من كل جهة، وغيرها من الأشياء التي تستند عليها المجتمعات البسيطة التي تعتمد في ثقافتها على الحكايا الشفهية الموروثة والمتداخلة والمتناقلة، وعادة ما يتم تنقيحها والزيادة عليها وفقا لكل راو وكل مجتمع.

قام القاسمي بخلق مقاربة نموذجية لمجتمع القاع، في صراعهم اليومي مع ظهور وغياب الماء، وما تعكسه هذه المادة التي ترمز للحياة والنماء والنظارة والخضرة

صور متعددة ومعان قوية

عكست رواية "تغريبة القافر" جماليات متعددة، عكسها أسلوب الروائي الذي اعتمد فيه على الجمل القصيرة وتداخل الماضي بالحاضر، عن طريق العودة لماضي كل شخصية تقريبًا، وربطها بحاضرها، كما ظهرت قدرة الروائي وموهبته في الوصف ورسم مشاهد حية ودقيقة، تضع المتلقي أمام الحالة التي يبحث عنها، مثل تنامي شخصية سالم بن عبد الله، الذي يملك موهبة نادرة وغرائبية، وهي سمع جريان الماء تحت الأرض ومعرفة مكانه، وقد صاغ القاسمي العديد من الجمل والفقرات التي تظهر هذه "الكرامة"، من أجل أن يحيط القارئ بها، ومن بين التوصيفات المهمة التي كتبها عن سالم بن عبد الله، ما نجده في الصفحة الـ130، وكأنها جزء مقتطع من سيناريو فيلم، وهذا بقوله: "نكس الفتى رأسه إلى الأمام، وأحنى ظهره كمن يخاتل طريدة، وبدأ يخطو خطوات بطيئة ذاهبًا إلى عمق القناة، أصغى للأعماق، سمع وجيب قلبه يدق، سمع صراصير الأرض تعزف لحنها الأبدي، سمع همسًا، وسمع دبيب نملة تتسلّق صخرة ملساء، وصوت فأر يقرض ورقة، سمع الصوات تأتي من بعيد حتى كاد يسمع هواجس البشر من حوله".

كما استطاع أن يرسم العديد من الصور التي تعكس حب الأرض وأهميتها، وهناك العديد من الفقرات التي صاغها في هذا الخصوص، وخير مثال على ذلك القصة التي رواها إلى آسيا بنت محمد وزوجها إبراهيم بن المهدي، الذي تركها وأخذ يهوم من قرية إلى أخرى، إذ يقوم من خلال هذه الرحلات بشراء أراض مهملة ويباب، يستصلحها ويزرعها، وعندما تتحول إلى جنة غناء يبيعها ويسافر إلى قرية أخرى، فيفعل ما فعله في الأولى، لتستقر به الحال في قرية "الغافتين" التي أحبها وأراد الاستقرار بها، لكن السكان رفضوا أن يبيعوه أرضًا، لهذا أخذ يعمل معهم عن طريق الثلث إلى أن جاء اليوم الذي مرض فيه وتذكر بأنه لديه زوجة، لهذا أرسل في طلبها، "لقد عاش سنوات دون أن تخطر آسيا على باله، سنوات لم يتذكر فيها بأن لديه زوجة تركها وحيدة في قرية بعيدة، كان رأسه مملوءًا بأصوات الزرع والغرس، فلم يسمع سوى خرير الماء وصوت المسحاة وهي تعزق الأرض"، ص 62 و63.

تعكس هذه الفقرة أهمية الأرض بالنسبة للقروي، كما احتفت الرواية بهذا المعنى في أكثر من موضع. وقد استعان زهران القاسمي بالعديد من المصطلحات والطقوس القديمة التي تعكس ثقافة القرى الصحراوية، خاصة قرية "المسفاة" التي جرت فيها معظم أحداث الرواية، إضافة إلى تفانيه في عكس عاداتهم وتقاليدهم وكيفية تعاطيهم مع الفرح والحزن والمعطيات الغرائبية، وبالتالي حافظ على ذاكرة تلك المنطقة وأعطى لها عمرًا افتراضيًا، خاصة وأن الزمن يتقدم، وبتقدمه يتغير العمران واللهجات والمصطلحات وحتى الثقافات الشخصية والجمعية، وقد صاغ كل هذا في قالب ذكي، يتنقل من خلاله من فصل إلى فصل بسلاسة، مع ترك العديد من علامات الاستفهام المعلقة، وبالتالي ضمن تعاطي القارئ مع روايته بشكل كلي، عن طريق التشويق والإثارة المصاغين بأسلوب سلس وقوي، وهو منطلق ذكي خلقه في كل فصل من الرواية.

كما أنه استطاع أن يتلاعب بالزمن بكل سهولة، دون أن يتسبب هذا التنقل بخلق رتابة في العمل، وبالتالي أثبت زهران مقدرته على التعاطي مع الرواية كجنس أدبي، انطلاقًا من قواعدها وعناصرها الفنية، حتى أنه استطاع أن يترك القارئ معلقًا في متون روايته دون أن يقدم له شرحًا أو تلميعًا على عنوان الرواية "تغريبة القافر"، إلى أن تعدى منتصف الرواية، ليقدم له بعدها هدية رمزية، وهي عبارة عن تقديم شرح للعنوان من متن الرواية، وهذا عندما طلب الوعري إحضار فصوص الثوم لتليين الحجر، وخلت القرية منه، وحدها كاذية بنت غانم كانت تملكه، وحينما قدمته لعبد الله بن جميل قال لها: "احتفظي بالقليل منه"، قالت: "لا، بيجي الجديد ما دام القافر معك"، ص 122، وتقصد سالم بن عبد الله.