}
عروض

الفينيقيون: اختراع أمّة أم البحث عنها؟

عمر شبانة

10 نوفمبر 2024
لفت انتباهي مؤخَّرًا، في معرض عمّان الدولي للكتاب (جناح المجلس الأعلى للثقافة والفنون)، عنوان كتاب صدر في سلسلة عالم المعرفة (2024)، والعنوان هو "الفينيقيون اختراع أمّة"، للباحثة الأيرلندية جوزيفين كراول كوين، بترجمة المصري مصطفى قاسم. ومنذ العنوان بدأ اهتمامي بالكتاب، وقرَّرت اقتناءه، وحين عدت إلى العنوان الأصلي المثبَّت في الصفحات الأولى، وجدت أنه (In search of the Phoenicians)، وترجمته هي كما أعلم "في البحث عن الفينيقيين"، أو "بحثًا عن الفينيقيين"، وهذه نقطة مثيرة للاهتمام، إذ كيف جرى تغيير العنوان ليغدو تشكيكًا في وجود الفينيقيّين و"اختراعًا" لهذه "الأمّة" أو حتى "الجماعة" التي يمكن اعتبارها واحدة من أهم حضارات العالم القديم، على الأقل منذ تأسيس مملكة- إمبراطورية قرطاج في القرن التاسع قبل الميلاد؟ ربّما أراد المترجم التعبير عن فهمه الخاص لمفردة "اختراع"! فلننتظر ما قدَّمت الباحثة كوين.




أسئلة كثيرة نطرحها على كتاب الباحثة هنا؟ هل الفينيقيّون "أمّة مُخترعة" كما يوحي العنوان في الترجمة العربية؟ وأيّ مفهوم يمكن أن يكون للأمّة التي يبحث عنها الكتاب الذي يتقصّى "الجماعات والهويّات التي كانت مهمّة لذلك الشعب القديم الذي تَعلَّمنا أن نسمّيه الفينيقيّين" كما تقول الباحثة في مقدمتها، خصوصًا أنها تستعير فكرة المؤرخ إرنست غلنر القائلة إن "القوميّة لا تعني إيقاظ الأمم على الوعي بذاتها، بل تعني اختراع الأمم من العدم"؟ سنترك هذه الأسئلة لتجيب عنها المؤلّفة، ونمضي معها في تقصّي جذور هذه الحضارة ومسارها ومحطّاتها، فليس العنوان الأصليّ لكتابها هو وحده ما ينفي "اختراع" هذه الأمّة أو تخيّلها، بالمعنى المعروف للاختراع والتخيّل، بحسب وعي الباحثة لمفهوم "الأمّة"، وهذا بحث معقَّد، بل مضمون الكتاب الذي يبدأ يتّضح منذ مقدمته، وهو ما سنتابعه مع المؤلّفة كوين، في أبرز معالم كتابها.
عن طبيعة كتابها، يهمّنا ما تقوله المؤلّفة نفسها، فهي تنفي عنه أن يكون قد تمّ وضعه للمتخصّصين الذين يعرفون، بلا شك، الأدلّة المقدَّمة فيه، كما أنه ليس كتابًا دراسيًّا رغم أنها قدَّمته عبر محاضرات لجماعة من الطلاب وحتى أعضاء هيئة التدريس لعدد من التخصصات الإنسانية والاجتماعية، فهو بالتحديد مجموعة من الفرضيّات التي تستدعي النقاش والمعارضة، فهو كذلك لا يقدِّم سوى منظور جزئي فقط بشأن التاريخ والجغرافيا الخاصّين بالفينيقيين، واعتمادًا على أمثلة ودراسات حالة، فالباحثة أمضت سنوات في البحث الميداني والتنقيب حول الآثار البونية في قرطاج وأوتيك، وهو أطروحتها الأساسية في الربط بين صورة الفينيقيين المتخيَّلة في العالم الغربي، انطلاقًا من أيرلندا، وبين التراث الفينيقي الموجود فعليًّا في التاريخ.

بحثًا عن ملامح للفينيقيين

يتكوَّن الكتاب من مقدمة وثلاثة أبواب: الفينيقيّون السّراب، عوالم كثيرة، وهويّات إمبراطورية. ولكل باب عدد من الفصول (ويقع في 470 صفحة).
وفي مقدمتها تبدأ كوين من "مكان بعيد تمامًا عن فينيقيا، من أيرلندا، وتحديدًا من خاتمة مسرحية براين فريل بعنوان "ترجمات" التي عُرضت أول مرّة في دار بلدية ديري Derry في عام 1980..."، حيث يستدعي فريل وجهة نظر تنتمي إلى تيار يفترض وجود استيطان فينيقيّ قديم لأيرلندا، من خلال رثاء فرجيل في "الإنيادة" لقرطاجة الفينيقية، واستدعاء "النزعة الفينيقية الأيرلندية في المشهد الختامي من المسرحية المذكورة...". وهو التيار نفسه الذي "ينظر إلى الاحتلال البريطاني لأيرلندا من منظور الصراع الكبير بين قرطاجة النبيلة وروما الهمجية"، بحسب الباحثة التي ترى هذا دافعًا لتعميق بحثها الراهن عن الفينيقيّين، وما إذا كانوا أمّة؟ بل تذهب الباحثة إلى أن أيرلندا كانت، في عُرف عدد من الأدباء الأيرلنديين "استمرارية لـ "قرطاج النبيلة" في وجه الإمبريالية البريطانية التي تختزن في المقابل روح التسلّط الروماني"، كما تقول المؤلفة.
وإلى ذلك، فهي ترصد بعض ملامح الوجود الفينيقي في بلدها، فترى مع آخرين أن الفضل يرجع للفينيقيين "في اكتشاف كل شيء، من النجم القطبي إلى الشاي بالكعك الكورنوالي (نسبة إلى مقاطعة كورنوال)، ولا ريب في أن البحّارة والتجّار والمستوطنين من الشريط الساحلي الضيّق الواقع أسفل جبل لبنان، الذي سمّاه اليونانيّون [فينيقيا]، كان لهم تأثير أكبر من حجمهم في البحر الأبيض المتوسط القديم... تأثير بلغ ذروته بعد انهيار القوى العظمى ممثَّلة في الأناضول الحثّي وبلاد بابل الكيشية واليونان الميكناوية في نحو عام 1200 ق. م..." (المترجم يستخدم- ويا للغرابة- تقويمًا هو: ق. ح. ع وهي قد تعادل BCE واختصارها Before the common era).

اشتهر الفينيقيون بصناعة السفن (Getty)

واللافت في المقدمة اعتراف المؤلّفة بأنها لا تقصد في بحثها إنقاذ الفينيقيين من الإهمال الذي طاولهم من قِبل المؤرخين والأثريين المعنيّين بالعصر الكلاسيكيّ الذين أظهروا اهتمامًا أكبر بـ"مجد اليونان وعظَمة روما"، بل إنها- على العكس- تنوي "إثبات أن الفينيقيين لم يكونوا جماعة أو "شعبًا" واعيًا بذاته، حتى أن الكلمة [فينيقي] ذاتها هي اختراع يونانيّ"، و- تتابع المؤلّفة أنّه- "لا توجد في مصادرنا القديمة الباقية أدلّة وجيهة على أن الفينيقيين نظروا إلى أنفسهم أو تصرّفوا بطريقة جماعيّة تتجاوز مستوى المدينة، وفي حالات كثيرة مستوى العائلة، بل إن الشخص الأول والأوحد الذي نعت نفسه بالفينيقيّ، في العالم القديم، وهو هيليودوروس الإيميسي (نسبة إلى حمص) كان من القرنين الثالث أو الرابع ق. م. أي إنه من خارج الحدود الزمنية والجغرافية التقليدية للتاريخ الفينيقي...". فما الذي تعنيه الباحثة بالحديث عن الشعب أو الجماعة الواعية بذاتها؟ هذا بحث يطول. لكنها لا تنفي وجودهم وحضورهم ودورهم المعروف حضاريًّا!

الفينيقيّ الأوّل من حمص

وللوقوف على أسلوب بحثها، وربّما بعض أهمّ نتائج بحثها، نرى الباحثة تتنقّل بين أزمنة البحث، ما بين النظري والميداني، وبين الماضي البعيد والحاضر القريب. ففي الباب الأول تنطلق كوين من فينيقيا المعاصرة في عام 1946، أي بعد ثلاث سنوات من استقلال لبنان عن فرنسا.




ومع تأسيس ما يُعرف بـ"الندوة اللبنانية"، ومحاضرة "الاشتراكي الدرزيّ الشابّ كمال جنبلاط بالعربية بعنوان "رسالتي كنائب"... يذكّر جمهوره بأن التاريخ المجيد لدولتهم الوليدة يرجع إلى الفينيقيّين القدماء...". لكن فكرة ارتباط لبنان الحديث بالفينيقيين تعود، بحسب الباحثة، إلى دارسين لبنانيّين من القرن التاسع عشر، وتحديدًا إلى المؤرّخ الكاثوليكي الماروني طنّوس الشدياق، في كتابه "أخبار الأعيان في جبل لبنان" (1859)... فهو أوّل من ربط صراحة بين لبنان وفينيقيا، والجبل والبحر، وناقش موقع "مدن لبنان الفينيقيّة" وسكّانها، وتلمح الباحثة إلى محاولات الفصل بين عروبة اللبنانيين وفينيقيّتهم، فهم ليسوا عربًا، ومسيحيّون فينيقيّون.
ثم إننا في الفصل السابع من الباب الثالث بعنوان "الفينيقي الأول" نعود مع الباحثة إلى ذلك "الإيميسي" (الحمصي) الذي تتناول فيه رواية كتبها الحمصي باليونانية بعنوان "إثيوبيكا"، تحكي قصة غرامية بين نبيل يوناني وأميرة أثيوبيّة ولدت بيضاء بتأثير ما يسمّى "تأثير الأمّ"... ويرد فيها وصف الفينيقي، وتحاول الباحثة استبانة وصفه لنفسه بوضعه في سياقه "ضمن تنامي رواج الفينيقيين وفكرة الانتساب الفينيقي خلال الحقبتين الهيلينستية ثم الرومانية"، ولكنها تؤكد أن ذلك لا يعني "اتّساع تبنّي هوية إثنيّة فينيقية، إذ ركّزت المدن الساحلية على ادعاءاتها المتنافسة بالمستعمرات وبالأبطال الفينيقيين حديثي الشهرة آنذاك".
البحث عمومًا ينطوي على تعقيدات منهجية ومفهوميّة، فالباحثة لا تحدِّد بصورة نهائية ما مفهوم "فينيقيا" التي تبحث عنها، كما لا تحدِّد مفهوم "الأمة" على نحو واضح ونهائي فهذا أمر يكاد يكون مستحيلًا لدى علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، لكنها تضع المحدِّدات التاريخية للدراسة، وتبرز لنا ملامح وجود الفينيقيين في المكان والزمان، بدءًا من صور ولبنان، وقبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين، وتأثيرهم ودورهم قديمًا وحديثًا، حتى لو لم نعثر على ما يسمّى "أمّة" عبر التاريخ. واضطراب المنهج، في جانب، لا يلغي أهميّة الدراسة. ولهذا نقرأ في خاتمة الكتاب الباحثة تقول إنها رغم غياب الأدلة على تعريف الفينيقيين لأنفسهم كشعب "لا أستنتج من ذلك أنهم لا وجود لهم في الماضي، ولا أن أحدًا لم يسمِّ نفسَه فينيقيًّا في ظرف من الظروف... بل من المُدهش ألّا يكونوا وصفوا أنفسهم بأنهم فينيقيّون... إلخ".
إشارة أخيرة: تحتلّ الاختصارات والهوامش والببليوغرافيا ما يقارب 150 صفحة من صفحات الكتاب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.