شكلت الفترة الممتدة من الثلث الأخير من عام 1951، وحتى مطلع عام 1953، مرحلة فاصلة في تاريخ الأردن. فقد شهدت اغتيال الملك عبد الله الأول، وإرتقاء ابنه الأمير طلال العرش لفترة وجيزة، قبل أن يخلي مكانه للملك حسين. عن هذه الفترة يتحدث سليمان النابلسي في الفصل الخامس من مسيرته.
في روايته عن اغتيال الملك عبد الله، لا يبدي النابلسي أي إشارة إلى تفاجئه، فهو يقول إن الملك تعرض لأكثر من محاولة اغتيال فاشلة، و"أن الناس كانوا يتوقعون مثل هذا الإغتيال"، لكثرة أعدائه داخل الأردن وفي المحيط العربي. ويضيف أن سياسة الملك عبد الله في "الموادعة والمهادنة مع اليهود" كانت في مقدمة أسباب العداء له، ويضيف:
"كان الملك عبد الله لا يخفي خططه، أو سياسته، فلم يكن جبانًا، كان مؤمنًا بما يفعل، فلم يعمل في الظلام، فعندما يؤمن بشيء يظهره على الناس ويقوله علنًا" (ص 187).
ولذلك تكونت عناصر في الضفتين تريد أن توقف اتجاه الملك عبد الله، و"أن ينصرف عن التعاون مع اليهود"، بحسب تعبير النابلسي. لم يستمع الملك عبد الله للسفير الأميركي في عمان، الذي زاره في اليوم السابق لاغتياله، والذي نصحه بعدم الذهاب إلى القدس، لوجود معلومات لديه بأن هناك محاولة لاغتياله، لكن الملك أجابه بأن "الأعمار بيد الله". وفي صباح سفره للقدس (20/7/1951) استدعى الملك النابلسي لمقابلته مع كل من شفيق ارشيدات، وعبد الحليم النمر، اللذين كان عاتبًا عليهما، فأصلح النابلسي بينهما والملك. وحينها طلب الملك من ارشيدات والنمر مرافقته إلى القدس، لكنهما اعتذرا، ووعداه باللحاق به بعد يومين من وصوله.
نام الملك عبد الله في بيت ضيافة لآل النشاشبي في القدس، وفي الصباح انتقل إلى نابلس، حيث استقبله سليمان طوقان، ودعاه إلى الغداء، وأن يؤجل عودته للقدس إلى ما بعد الظهر، لكن الملك أصر على أداء صلاة الجمعة في الحرم القدسي، وتوجه إلى المسجد الأقصى برفقة راضي عناب، قائد منطقة القدس العسكرية، وحابس المجالي، مرافقه، والأمير حسين بن طلال. وعند دخوله المسجد، أُطلق الرصاص عليه.
سمع النابلسي صوت العيارات النارية والضجة التي أعقبتها من الراديو، وكان حينها وزيرًا للمالية، مداومًا في مكتبه، وذهب برفقة فرحان شبيلات، رئيس الديوان الملكي إلى منزل رئيس الوزراء، سمير الرفاعي، حيث قام الأخير بالاتصال بغلوب باشا، قائد الجيش، لمعالجة الموقف، حيث فرضت حالة من الطوارئ في عموم البلاد، وأحضر جثمان الملك بالطائرة من مطار قلنديا، واتخذت الإجراءات اللاحقة لدفنه في مراسم خاصة.
كان الأمير طلال، ولي العهد، مريضًا يتلقى العلاج في سويسرا، ولم يكن قد مضى أكثر من شهر على علاجه هناك عند اغتيال والده. وحينها عين الأمير نايف، الابن الثاني للملك عبد الله، وصيًا على العرش. ومن ثم استقالت حكومة سمير الرفاعي.
وبناء على مشورة الإنكليز، كلف الأمير نايف توفيق أبو الهدى بتشكيل حكومة جديدة، وسارع الأخير بإحضار الأمير طلال قبل استكمال علاجه في سويسرا، حيث نودي به ملكًا على الأردن، وعلى هامش مراسم دفن الملك عبد الله، التقى سليمان النابلسي ورفاقه شفيق ارشيدات، وعبد الحليم النمر، ومحمد السخن، وفدًا عراقيًا ضم عناصر وطنية، وقد وافقوه على أهمية اتحاد البلدين تحت عرش فيصل الثاني. وكان رأي النابلسي ورفاقه: أن هنا وهناك عائلة هاشمية واحدة، وهنا وهناك يحكم الإنكليز البلدين، وهنا بلد فقير وهناك بلد غني، وهنا جيش ضعيف وهناك جيش قوي، ونحن أمام إسرائيل، وليس أمامهم عدو، وفي إمكانهم أن يبعثوا بجزء من جيشهم لحماية حدودنا مع إسرائيل، "ونحن بالتالي لا نخسر شيئًا" (ص 193).
ويضيف النابلسي أن بريطانيا إذ شعرت بخطر قيام وحدة بين العراق والأردن، فجاء أبو الهدى بالأمير طلال من سويسرا، ورافقه في رحلة إلى العربية السعودية، حيث بايع هناك الملك عبد العزيز بن سعود، وعاد أبو الهدى محملًا بالمال، ونزل من الطائرة مرتديًا الزي السعودي.
دستور 1952
على النقيض من غالبية الباحثين والسياسيين الذين رأوا في إقرار دستور جديد عام 1952 نقلة نوعية على طريق الحكم الدستوري، والإقرار بالحقوق الديمقراطية للمواطنين، فإن النابلسي قلل من أهمية صدور دستور 1952، كونها خطوة تحققت في عهد حكومة أبو الهدى، إذ يقول: "لو فرضنا أن هذه الخطوة تقدمية، فأبو الهدى المدفوع بكل الموبقات ماذا يضره لو عمل مثل هذه التعديلات في الدستور". بل وينفي عن الملك طلال "أنه أعطى البلاد دستورًا جديدًا"، "وإنما أبو الهدى الذي أعطى بإيحاء من الإنكليز" (ص 195).
وعند حديث النابلسي عن تدهور صحة الملك طلال، وتشكيل مجلس وصاية للعرش، بالنظر إلى عدم بلوغ الأمير الحسين السن القانونية لتولي الحكم من بعده، يقفز عن تفاصيل تولي الأمير الحسين العرش، ويذهب إلى الحديث عن المعارضة البرلمانية لحكومة توفيق أبو الهدى العاشرة، التي كانت قد تشكلت في 27/9/1952، وضمت من بين آخرين عبد الحليم النمر، المحسوب حينها على جماعة سليمان النابلسي. وكان النمر قد شارك في حكومة أبو الهدى التاسعة (8/9/1951) وزيرًا للمالية، وهي الحكومة الأولى في عهد الملك طلال، الذي كان قد اعتلى العرش قبل ذلك التاريخ بيومين.
وعلى الرغم من الحرج الناجم عن مشاركة النمر في حكومة أبو الهدى، إلا أن هذا لم يمنع النابلسي ورفاقه من حشد مجموعة كبيرة من نواب الضفتين لإخراج أبو الهدى من الحكم، حيث تم حشد 17 نائبًا من أصل ثلاثين نائبًا لمعارضة حكومته. ولم تلبث أن حلت حكومة فوزي الملقي الأولى محل حكومة أبو الهدى في 5 مايو/ أيار 1953، أي بعد ثلاثة أيام على تولي الملك حسين سلطاته الدستورية. وقد ضمت حكومة الملقي عددًا من رفاق النابلسي: شفيق ارشيدات، وحكمت المصري، وأنور الخطيب، وفي تعديل وزاري لاحق، دخل هزاع المجالي وزيرًا للداخلية.
جاءت حكومة فوزي المفتي نتاج مشاورات مع نقيضين سياسيين، هما أبو الهدى والنابلسي. يعلق الأخير على وجود رفاقه في وزارة الملقي بقوله: "وكان اختيار العناصر الوطنية برغبة من الملك الذي أراد أن يعطي لحكمه اتجاهات وطنية وديمقراطية" (ص 200).
ويعلق النابلسي على حلول هزاع المجالي محل بهجت التلهوني، وزيرًا للداخلية في حكومة الملقي في 5/11/1953، حيث يربط ذلك بزيارة هزاع المجالي مع وفد من شيوخ العشائر إلى الولايات المتحدة، حيث "بدأ هزاع يتهيأ ويتقدم الصفوف".
النابلسي سفيرًا في بريطانيا
من الأعلى واليمين : الملك عبد الله الأول، سليمان النابلسي، الملك طلال.. .من الأسفل واليمين: فوزي الملقي، شفيق إرشيدات، عبد الحليم النمر |
يتحدث سليمان النابلسي مطولًا عن تعيينه سفيرًا للأردن في لندن، بناء على رغبة فوزي الملقي رئيس الحكومة، ويبدو أن عرض الملقي يعود إلى أن النابلسي كان بمثابة المرجعية لعدد من وزراء حكومة الملقي، حتى قيل "إن مجلس الوزراء مجتمع في مكتب النابلسي، وليس في مقر مجلس الوزراء!!"، حسب تعبير النابلسي في المذكرات (ص 202). وهكذا جاء المفتي لزيارة النابلسي عارضًا عليه أن يكون سفيرًا في لندن، ولما رفض النابلسي العرض، ذهب الملقي إلى الملك حسين وأبلغه بالأمر، فأرسل الملك طالبًا النابلسي، ولما حضر أعاد العرض عليه ليكون سفيرًا في لندن، لكنه اعتذر قائلًا إنه رجل سياسي، وليس دبلوماسيًا، وأن مكانه البلد، ثم عاد واشترط لقبوله وظيفة السفير أن يسمح له الملك بالعمل على إقناع الأوساط البريطانية المؤثرة بأن بقاء غلوب مهيمنًا على الجيش الاردني والحياة العامة ليس في مصلحة بريطانيا والأردن. ويروي النابلسي أن الملك منحه موافقته على العمل من أجل التخلص من غلوب وإحالته على التقاعد، وينقل النابلسي على لسان الملك حسين أنه سيعمل على مساعدة النابلسي في مهمته (ص 202).
كان ذلك في يونيو/ حزيران 1953، أي بعد شهر من تولي فوزي الملقي رئاسة الحكومة، ثم سافر الملك حسين إلى سويسرا، فلحقه النابلسي واجتمع به في لوزان، وهناك قال للملك: جئت من أجل أن أتثبت من جدية الموقف فيما يتعلق بغلوب، فعاد الملك وأكد له حديثه، طالبًا إليه أن لا يواجه الإنكليز صراحة بخصوص إبعاد غلوب عن الأردن، وأن يختار الوقت المناسب والأسلوب واللغة المناسبين من أجل الوصول إلى الهدف (ص 203). وتعد هذه المحادثة من أوائل الإشارات الصريحة إلى رغبة الملك حسين المبكرة في التخلص من غلوب باشا. ثم يمضي النابلسي ليروي بعض التفاصيل عن عمله الدبلوماسي كسفير للأردن في لندن، وكيف حول هذه الوظيفة إلى وظيفة حقيقية بعد أن كانت وظيفة صورية.
ولعل أبرز ما كشف عنه النابلسي في مهمته تلك قوله إنه طوال إقامته في لندن لم يرفع علمًا أردنيًا على سيارته، وكيف كان يشعر بالانتقاص من بلده، ويقول: "نحن بلد مستعمرة بريطانية". وما إن استقالت حكومة الملقي، وتولى أبو الهدى رئاسة حكومة جديدة، حتى تقدم النابلسي باستقالته من وظيفته كسفير في لندن.
يمتدح النابلسي تجربة حكومة الملقي، الذي لم يعد ذلك الموظف والوزير في حكومات توفيق أبو الهدى "إذ تصرف كرجل وطني شريف، فأفسح المجال لزملائه، رجال الحركة الوطنية، أن يعملوا ما استطاعوا من أجل تثبيت حق البلد، وتثبيت سلطة الحكومة على الجيش، ومقاومة العدوان الإسرائيلي، بكل ما تملك الدولة في ذلك الوقت من قوى مادية" (ص 208).
صعود الحركة الوطنية
في عامي 1954 ــ 1955، اشتد ساعد الحركة الوطنية، فظهر البعثيون، والقوميون العرب، والإخوان المسلمون، والحزب الوطني الاشتراكي، وكنا نتعاون ــ يقول النابلسي ــ ضمن أسس واضحة، "وعندنا شبه جبهة وطنية"، ضد حكومة أبو الهدى.
وتحت عنوان "الحزب الوطني الاشتراكي" يتحدث النابلسي عن نشأته، إذ يقول إنه لم يأت من العدم، ولم يكن ابن ساعته. فقد كانت عناصره هم نواة "الحزب العربي الأردني" الذي تشكل عام 1946، وانضم إليهم من الضفة الغربية نعيم عبد الهادي، وحكمت المصري، ونجيب الأحمد، وحافظ الحمد لله، وسعيد العزة، ورشاد الخطيب، وأنور الخطيب (ص 210).
وعن تأسيس الحزب الذي تم في الوقت الذي كان فيه سفيرًا للأردن في لندن، يقول إن عبد الحليم النمر، وشفيق ارشيدات، وأنور الخطيب، ورشاد الخطيب، وسعيد العزة، وهزاع المجالي، اجتمعوا وشكلوا الحزب، حيث تولى هزاع المجالي أمانته العامة، وقد ضموا للحزب ــ يقول النابلسي ــ أناسًا لم يشتغلوا في السياسة، مثل رشاد طوقان، وجريس هلسة، وكمال منكو، وهكذا "زادت نسبة البرجوازيين في الحزب، وأصبح الحزب الوطني الإشتراكي حزب وجهاء" (ص 211).
وبعد أن يضرب أمثلة على الخلفيات الإجتماعية والأسرية لمؤسسي الحزب، يقول النابلسي: "إن الحزب الوطني الاشتراكي هو بالنسبة إلى الأيديولوجيين، مثل حزب البعث، والحزب الشيوعي، والقوميين العرب، والإخوان المسلمين، حزب الوجهاء، وفي الحقيقة كان هو كذلك" (ص 211).
مع عودة سليمان النابلسي إلى عمان، بعد استقالته من منصبه كسفير للأردن في العاصمة البريطانية، تنحى هزاع المجالي عن موقعه كأمين عام للحزب، مخليًا هذا الدور لسليمان النابلسي، الذي أعاد افتتاح مكتبه، وعاود لعب دوره الذي مارسه طويلًا، كزعيم سياسي وليس فقط كقائد حزبي. وهنا يتحدث عن مساهمته مع رفاقه، شفيق ارشيدات، أنور الخطيب، عبد الحليم النمر، في كتابه سلسلة مقالات في مجلة الحزب "الميثاق"، تشرح مبادىء الحزب وأيديولوجيته، وذلك لإبعاد "صفة الوجاهة عن الحزب"، كما بدأ "الوطني الإشتراكي" بفتح مكاتب له في مختلف المناطق، وتكوين كوادر حزبية محترفة.
يقول النابلسي إنه بخلاف الأحزاب القومية الأخرى أصر على عدم قبول الطلبة، أو أفراد الجيش في الحزب، "فدخول الجيش في النشاط الحربي يعني الإعداد للانقلابات العسكرية، ونحن ضد الانقلابات العسكرية (...) كما أنه لا يجوز استغلال الطلبة ووضعهم في قوالب جامدة". وينتهي إلى القول: "كنا حزبًا سياسيًا يريد الوصول إلى الحكم عن طريق الانتخابات، لا عن طريق الطلبة والجيش". لكنه يعترف بأن "الانتخابات تتم عن طريق الاتصال بالمخاتير والوجهاء في القرية والمدينة، فالمختار هو الذي يجلب الأصوات وليس الطالب"!! (ص 213).
تزوير انتخابات عام 1954
بعد ذلك، يتوقف النابلسي في الفصل الخامس عند انتخابات 1954 ودور الحزب الوطني الاشتراكي فيها. هنا يلوم حزب البعث العربي على إفشال محاولات الوصول إلى اتفاق بين أحزاب المعارضة على تشكيل ائتلاف انتخابي وخوض معركة الإنتخابات كجبهة وطنية، لاعتقاده بأنه يمكن كسب 18 مقعدًا بمفرده.
يتحدث عن أسباب سقوط مرشحي أحزاب المعارضة في انتخابات 1954، ويعزو هذا السقوط تارة لافتقار هؤلاء لقاعدة انتخابية، أو لتآمر الدولة عليهم لإسقاطهم، ويتناول الدور المباشر الذي لعبه غلوب باشا، قائد الجيش الإنكليزي، في تزوير انتخابات 1954 النيابية، عن طريق إشراك الجيش في الاقتراع، مع مضاعفة أصوات الناخبين العسكريين.
وعندما اندلعت التظاهرات في عمان احتجاجًا على تزوير الانتخابات، قامت حكومة أبو الهدى باعتقال النابلسي، واعتقال عدد من قيادات الحزب الوطني الاشتراكي، وأحزاب المعارضة الأخرى: حزب البعث، والحزب الشيوعي، وحركة القوميين العرب، وأودعوهم السجن.
وفي الأثناء، وبينما قادة أحزاب المعارضة في السجون، دخل هزاع المجالي حكومة أبو الهدى، بعد أن كان قد فاز بمقعد الكرك في انتخابات 1954 المزورة، وقيل في معرض التبرير إن هزاع دخل الحكومة كي يخرج رفاقه من السجن. فوجئ سليمان النابلسي بدخول المجالي الحكومة المسؤولة عن تزوير الانتخابات، ولم يتسامح مع هذا القرار الفردي. وما إن خرج من السجن حتى عقد اجتماعًا للجنة التنفيذية للحزب الوطني الاشتراكي، وقرر فصل المجالي من الحزب، ليكون هذا درسًا لمن يخرج عن إرادة الحزب.
الموقف من حلف بغداد
عبد الناصر والقوتلي يوقعان اتفاق الوحدة عام 1958 بعد رفضهما لاتفاق حلف بغداد عام 1955، ما ساهم في دعم موقف المعارضة في الأردن من الحلف |
يتحدث النابلسي عن حلف بغداد في الفصل الخامس من مذكراته، وهو الحلف الذي تشكل من إيران، وتركيا، والعراق، وباكستان، وبريطانيا، ودعي الأردن للانضمام إليه، حيث كان الملك حسين وحكومة أبو الهدى من المتحمسين له، فيما كان بعض قادة الحزب الوطني الإشتراكي معارضين له بقوة، شأن بقية أحزاب المعارضة، وبينما بقية قيادة الحزب مترددة وغير حاسمة في موقفها منه.
يقول النابلسي إن اللجنة التنفيذية للحزب اجتمعت وقررت تكليف وفد الحزب المتوجه إلى العراق للاحتفال بإنزال العلم البريطاني عن معسكر ومطار الحبانية، ورفع العلم العراقي بدلًا منه، أن يقابل رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد ليسأله مباشرة عن حلف بغداد، وهل سيأتي بالجيش العراقي ليقف على حدود قبية ونحالين (وهما من القرى الأمامية للضفة الغربية التي كانت تتعرض للهجمات الإسرائيلية المتكررة حينذاك)، أم أن الهدف من قيام الحلف هو شن الحرب على الشيوعية، فإذا كانت الحالة الأولى هي النتيجة انضممنا إلى حلف بغداد فنحن معه، أما إذا كان القصد منه مكافحة الشيوعية فسوف نعرض عنه.
في اللقاء مع نوري السعيد، في وزارة الدفاع العراقية، تولى سليمان النابلسي الحديث بالنيابة عن الوفد الذي ضم: سعيد المفتي، وسعيد علاء الدين، وحكمت المصري. وبعد أن عرض النابلسي وضعية الأردن في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، قال لنوري السعيد: "نحن نحب الانضمام إلى حلف بغداد إذا كان يؤمن لنا القوة والحماية من العدوان الإسرائيلي"، فكان رد نوري السعيد: "ما علاقتنا بإسرائيل؟ هذا حلف دولي. ويقصد منه قطع المحيطات، وليس معالجة قضايا محلية صغيرة أمام أمن البشرية واستقرارها". وأضاف: "إيش قبية وإيش نحالين. نحن نريد وقف المد الشيوعي الذي يطغى على هذه البلدان".
يقول النابلسي: شكرناه وخرجنا. ومنذ تلك اللحظة قررنا أن نقف ضد حلف بغداد. ويضيف: كنا في البداية مترددين! لما عدنا عرضنا على قيادة الحزب ما قاله لنا نوري السعيد... وقررنا مقاومة حلف بغداد، وإعلان ذلك للشعب، وهو الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقة مع الملك حسين.
"حاربنا مع الأحزاب السياسية الأردنية الحلف، ونزلنا إلى الشوارع، وسجنا من أجل مقاومة حلف بغداد، وقضينا عليه بفضل الشعب الأردني بسائر هيئاته"، يقول النابلسي: "عندما يبلغ الأمر أن يقود رئيس محكمة التمييز مسار مظاهرة، وينزل موظفو وزارة المالية ليلتقوا مع موظفي دائرة الأراضي أسقط في يد غلوب وهزاع والملك حسين... ولم تعد هناك قوة تستطيع تمرير حلف بغداد" (ص219).
من السجن إلى المفاوضة
سيق النابلسي، ود. عبد الرحمن شقير، وغيرهما من قادة المعارضة، إلى السجون، لكن هذا لم يوقف التظاهرات، واضطر هزاع المجالي إلى تقديم استقالة حكومته يوم 19/12/1955، وتم حل مجلس النواب، وتألفت حكومة جديدة برئاسة إبراهيم هاشم، وبقي النابلسي هو وشقير آخر المعتقلين، ومن السجن انتقل إلى بيت إبراهيم هاشم للتفاوض.
بعد ذلك، يعود النابلسي خطوتين إلى الوراء، إلى حكومة سعيد المفتي، التي كانت قد تشكلت في 24/5/1955، وهي الحكومة التي فاوضت الجنرال تمبلر أول الأمر على دخول حلف بغداد. هنا يتوقف النابلسي عند شخصية سعيد المفتي، فيقول إنه كان "كشركسي من أقلية لا يقدم على أعمال تشينه وتشين أقليته". كان المفتي ميالًا إلى الانضمام إلى حلف بغداد، وتفاوض مع الإنكليز، وتمبلر، غير أنه كان مترددًا. وإذا استطاع أن يقنع وزراء حكومته من الفلسطينيين خاصة بقبول عرض الجنرال تمبلر، والدخول في حلف بغداد، فبها ونعم، وإذا لم يستطع فإنه لا يتشبث برأي، كما هي حال هزاع، وإنما ينسحب بسرعة.
يرى النابلسي أن الذي أوقف حلف بغداد هو الموقف المصري بالدرجة الأولى، وكانت الأحزاب السياسية الأردنية، وخاصة الحزب الوطني الاشتراكي، وحزب البعث، والحزب الشيوعي، تعارض الحلف بشدة، وقد ساندت الموقف المصري، الذي كان وحيدًا قبل أن تنضم إليه سورية، والسعودية، والحركة الوطنية في الأردن.
يقول النابلسي إنه في أثناء مفاوضات سعيد المفتي مع الجنرال تمبلر على دخول حلف بغداد، كان أصدقاؤه من أعضاء الوزارة يأتون إلى مكتب الحزب الوطني الاشتراكي للتباحث حول الموقف، إلى أن آن الأوان لأن يضربوا "ضربتهم القاضية بالاستقالة الجماعية للوزراء الأربعة"، "فأسقط في أيدي الحكومة، ولم يكن ممكنًا الاستمرار في المفاوضات مع تمبلر".
يعرج النابلسي على صفقة الأسلحة التشيكية التي أبرمتها مصر سنة 1955، وكيف كان لها صداها الإيجابي عند الشعب الأردني، وحتى لدى الملك حسين، الذي أبرق لجمال عبد الناصر مهنئًا، وقد جاءت هذه الصفقة بعد حوادث غزة، حين كان الجيش الإسرائيلي يهاجم الجيش المصري، ويقتل العديد من أفراد، وحينها وبعد فشل محاولات مصر الحصول على السلاح من الولايات المحدة وبريطانيا، اتجهت لإبرام صفقة الأسلحة التشيكية. ويصف النابلسي كيف استقبلت الصفقة في الأردن بالمشاعل والدبكات والرقصات، وأنه كان لها أثرها في تعزيز مقاومة الأردنيين لحلف بغداد، وفي "نهوض الحركة الوطنية الأردنية واشتداد ساعدها ووقوفها أمام غلوب وأمام السلطة" (ص 224).
يصف النابلسي كيف استقبلت عمان زيارة الرئيس التركي جلال بايار للأردن في نوفمبر/ تشرين الثاني 1955، لتجديد الضغط على الأردن لضمه إلى حلف بغداد بعد فشل تمبلر في ذلك، حيث أضربت المدينة، رغم محاولة الجيش فتحها.
ولتفادي اعتقال النابلسي جاء عباس ميرزا، وزير الداخلية في حكومة هزاع المجالي، وطلب إليه مغادرة عمان إلى حسبان، ولكن النابلسي رفض مغادرة العاصمة، وبعدها طلب إليه ملازمة منزله، وعدم الذهاب إلى مكتبه، فرفض أيضًا، إلا إذا أحيط بيته بسرية من الجند لتمنعه من المغادرة. وهكذا نزل إلى مكتبه. وهناك خطب النابلسي في المتظاهرين الذين طلبوا إليهم النزول، فشاركهم التظاهر هو وشفيق ارشيدات، وجودت المحيسن، حيث سارت التظاهرة إلى مقر رئاسة الوزراء، فوقف هناك وخطب في المتظاهرين.
لم تستمر حكومة إبراهيم هاشم سوى 17 يومًا، لتحل محلها حكومة سمير الرفاعي في 9 يناير/ كانون الثاني 1956، التي لم تلبث أن أعلنت عن رفضها الأحلاف الأجنبية. لكن النابلسي يعلق على تشكيلة حكومة الرفاعي الجديدة بأن "سمير لم يكن هو سمير في وزارة 1947، أو عام 1951"، وأنه أصبح "بعد أن دخلت أميركا سوق الأردن رجلًا مختلفًا".
* باحث في التاريخ السياسي والاجتماعي الأردني.