تتجاوز الأمومة حدود العلاقة الأسرية، لتصبح موضوعًا فلسفيًا عميقًا، حيث تناولت الفلسفات المختلفة هذا المفهوم. وفي الفلسفة الوجودية، تُعد الأمومة رمزًا للوجود والمعنى، حيث تُبرز الصراع بين الحرية والالتزام. بينما في الفلسفة النسوية، يُنظر إلى الأمومة كحقل للتحدي والتحرر من القيود التقليدية، مما يتيح إعادة تعريف الأدوار الاجتماعية.
وقد صدر مؤخرًا عن تنمية للنشر في القاهرة كتاب بعنوان "رحم العالم: أمومة عابرة للحدود"، للناقدة وأستاذة قسم اللغة الإنكليزية بكلية الآداب في جامعة القاهرة شيرين أبو النجا. يقع الكتاب في 14 فصلًا، ويستعرض المفاهيم المختلفة للأمومة، مستندًا إلى الشعر والنثر من ثقافات متعددة.
تسلط فصول الكتاب الضوء على كيف تمثل الأمومة تجارب فريدة تتنوع بين الحب، والتضحية والمعاناة، مع تقديم رؤية شاملة عن دور الأم في تشكيل الهوية الفردية والجماعية. يتناول الكتاب الأبعاد الإنسانية والاجتماعية للأمومة، لنستكشف كيف تتجلى الأمومة في الأدب والفلسفة، مما يعكس عمق التجربة الأمومية وتأثيرها على المجتمعات والثقافات عبر الزمن، ليظهر أنها ليست مجرد دور اجتماعي، بل هي مفهوم متشابك يغذي الفنون والأفكار، ما يجعلها موضوعًا غنيًا يستحق الاستكشاف العميق.
في كتابها، تشير أبو النجا إلى بعض الأعمال الأدبية التي يهيمن فيها الخطاب الذكوري، ويقدم تجربة الأمومة كنموذج ثابت لا يجب ولا يمكن أن يتغير، ما يختزل هوية المرأة في دور الأم فقط. وتطرح المؤلفة تساؤلات حول المواءمات التي تفرض على الأم، والتحديات التي تواجهها في ظل مجتمع رأسمالي لا يتوقف من أجل أحد، خاصة المرأة.
هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟
تتساءل أبو النجا في بداية الكتاب ذلك السؤال، الذي يمكن أن يكون استفهاميًا لبعضنا من منظور من يرغب في تفكيك المفهوم بالفعل من سياقات مختلفة، وقد يبدو استنكاريًا لبعض آخر من منظور أننا نحن نعرف بالفعل ما هي الأمومة منذ قديم الزمن، ولسنا في حاجة إلى تساؤلات بشأنها، حيث تتعامل أغلب الثقافات بثقة ويقين مع الدور المرسوم للأم. تُدفع النساء دفعًا منذ طفولتهن المبكرة إلى الأمومة، وعندما تصبح أمًّا بالفعل، تُدفع مجددًا لنمط واحد حددته السلطة المجتمعية الذكورية سلفًا، وتسير على ذلك النهج لتفوز بلقب "الأم المثالية"، وهو اللقب الذي طالما تمنته أغلب الأمهات حول العالم.
تشير أبو النجا إلى أن الأمومة بالطبع تحتاج إلى كتاب، بمعنى حاجتها إلى إعادة تعريف، خاصة بعد أن غيرت الحركات النسوية مفهوم الأمومة التقليدي بطرق عدة؛ حيث أعادت تعريف الأدوار، وشجعت على رؤية الأمومة كخيار شخصي، وليس كفرض اجتماعي، ما ساهم في تقليل الضغط على النساء، ومساعدتهن على الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي، وزيادة وعيهن بدور الأم الجوهري الشخصي بعيدًا عن الدور النمطي المفروض عليهن.
أظهرت النسوية تجارب نساء من خلفيات مختلفة، ما أدى إلى فهم أعمق لاحتياجات الأم، ووضعها في الاعتبار، إلى جانب احتياجات الأبناء، خاصة بعد أن بدأ التنظير للأمومة كمفهوم قابل للتفكيك من قبل دينرشتاين، ونانسي تشودور، وأدريان ريتش، وظهرت شبكات الدعم التي ساهمت في تبادل المشورة والخبرات، وعرفت الأمهات على حقوقهن، ووجوب مشاركتهن في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وأصبح مفهوم الأمومة أكثر مرونة وشمولية وتفهمًا لاحتياجات المرأة.
الأمومة بين الشرق والغرب
تقول أبو النجا في كتابها: "يختلف موقع مفهوم الأمومة ومصطلحها في الثقافة العربية عن نظيره في الثقافة الغربية، التي حولت الأمومة إلى مجال بحثي يرتبط بالواقع والتجربة المعيشة، وكشفت عن الثغرات التي يتم من خلالها إقصاء النساء، وتحجيم ذاتيتهن، وقصرها على أدوار محددة".
ورغم تغيّر مفهوم الأمومة في الغرب بسبب ظهور الحركة النسوية والحركات التحررية، لم يتغير مفهوم الأمومة في الشرق، بسبب الاستعمار المستمر للدول العربية، بالإضافة إلى سيطرة الفكر الديني الذي نظر إلى الحركة النسوية باعتبارها حركة غربية تعادي قيم الأسرة والعائلة الراسخة في الشرق. لكل هذه الأسباب، لم تتغير النظرة الشرقية للأمومة وللأم، كمحور للحياة الأسرية، ورمز للتماسك الاجتماعي والتضحية والرعاية، في حين تحولت النظرة الغربية للأمومة إلى نظرة أكثر تنوعًا ومرونة، تركز على تمكين المرأة، وتحقيق الذات، والموازنة بين دور المرأة كأم وحياتها المهنية والشخصية. بشكل عام، تجلت الفوارق في مدى تأثير السياقات الاجتماعية والثقافية على دور الأم، حيث ساهمت تقاليد الشرق في تشكيل توقعات نمطية، بينما أتاحت الثقافة الغربية مرونة وتنوعًا أكثر في تجارب الأمومة.
عبور الحدود الأبوية
في الفصل المعنون بـ"عبور الحدود الأبوية"، تقدم أبو النجا أوجه التشابه رغم الاختلاف بين حياة الفيلسوفة النسوية الفرنسية سيمون دي بوفوار وعالمة الاجتماع والكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي. تفكك أبو النجا الظروف التي نشأت فيها كل من المرنيسي ودي بوفوار، وكيف عبرت كل منهما الحدود الفكرية والنفسية والمجتمعية المفروضة عليهما، خاصة مع مواجهة كل منهما لقيود أبوية ومجتمعية.
نشأت المرنيسي في ظل الاحتلال الفرنسي للمغرب. وفي ذلك الوقت، كانت النساء تعد رمزًا للهوية والوطن. حاولت المرنيسي باستمرار كسر الحدود المفروضة عليها، واستكشاف التناقضات داخل المنظومة الأبوية. على الجانب الآخر، نشأت دي بوفوار داخل المنظومة البرجوازية، في وقت انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكانت معركة دي بوفوار تتمثل في الانسلاخ من الطبقة التي تنتمي إليها، ورفض فرض سيطرة الأم على أفكارها.
تنقسم العوائق التي تشاركتها كل من المرنيسي ودي بوفوار إلى: الطبقة والخطاب الديني والمكان، لتستعرض من خلالهم التشابه الكبير بين مسار امرأتين مختلفتين في البيئة والزمان، ومتشابهتين في رحلة الحياة.
الأم المهزومة... المأزومة
في الفصل المعنون بـ"الأم المهزومة أو المأزومة"، تستمر أبو النجا في تفكيك صراعات الأمومة من خلال رواية "مخمل"، للكاتبة الفلسطينية حزامة حبايب، ورواية "عشر نساء" للكاتبة التشيلية مارثيلا سيرانو. في رواية "مخمل"، ترسم الكاتبة صورة المخيم بكل القهر الذي يمارسه على المرأة، حيث تتحول النساء إلى رمز للهوية الثقافية، وتتحول أجسادهن إلى مسرح للصراع، وتفريغ الغضب والقهر والإحباط الذي يشعر به الرجال، لتفقد كل واحدة منهن سلطتها على جسدها، وكأنها لا تملكه.
بربط يبدو بعيدًا للوهلة الأولى، تفكك أبو النجا حياة نساء الرواية التشيلية تحت قمع الحكم الديكتاتوري العسكري، من خلال تسع حكايات، تحمل كل حكاية اسم صاحبتها، ليرى القارئ في كل حكاية ضيقا وجرحا وألما لا يختلف كثيرًا عن ضيق عالم النساء في رواية "مخمل"، رغم اختلاف البيئة والبلد والطبقة، لكن يجمع بينهن جميعًا عنف مجتمعي ذكوري يقع عليهن وعلى أجسادهن.
تفكك الكاتبة تأثير العنف الذي يمارسه المجتمع ضد المرأة، والتحول الذي طرأ عليها نتيجة هذا العنف، وكيف تتحول هي نفسها إلى آلة تنجز المهام اليومية، وتبتعد عن مواجهة نفسها طوال الوقت، كما في حالة فرانشيسكا، إحدى بطلات رواية "عشر نساء".
خاتمة
في ختام الكتاب، تطرح الكاتبة سؤالًا مثل الذي طرحته في البداية، وتتساءل: "هل يمكن اختتام كتاب عن الأمومة؟". تقول الكاتبة إن السؤال الذي طرحته في بداية الكتاب قادها في أثناء الكتابة إلى أسئلة أخرى أكثر تعقيدًا عن الأمومة. لذا قررت أن تكتفي بطرح الأسئلة، وترك الإجابات من أجل تحفيز إنتاج أفكار جديدة، حيث يمكن أن تتغير الإجابة في كل مرة يطرح فيها السؤال ذاته، باختلاف مفهوم الأمومة.
الأم ليست أمًا واحدة، أو معنى يمكن حصره، فهي جزء متغير من علاقات متغيرة تجعلها تتشكل تبعًا لهذه العلاقات، وليس في معزل عنها. لكن أصحاب التفكير النمطي بفكرة الأمومة، واعتبارها غريزة أو فطرة لا اختيارًا، يرفضون التعامل مع الأمومة بمرونة كافية، ولا يتفهمون الاختلاف. وبخطاب نمطي ذكوري، يحولون كل أم تتبع ذلك التفكير السائد إلى امرأة ناقمة وغير طبيعية.
تذكر أبو النجا أن أغرب حراس ذلك النمط الثابت من الأمومة هن النساء الأبويات اللاتي يحرسن المنظومة الذكورية بامتياز، من دون التوقف والتأمل بنظرة محايدة لمعنى الأمومة، أو السياقات المختلفة التي يشكلها لدى كل امرأة. وتستشهد في النهاية بقصة "الأم الكبيرة" لماركيز، تلك المرأة التي حكمت ماكوندو لسنوات، وعندما اقترب أجلها، وبدأت في ذكر أملاكها غير المرئية، اكتشف القارئ أنها تملك الأجساد، والأشخاص، والأفكار، واللغة، والدولة، والتأييد، والكره، والحب، لتتحول من مجرد امرأة إلى سلطة قمعية لا يمكن الفرار منها.