تعريب قيادة الجيش الأردني
يبدأ سليمان النابلسي بالحديث عن تعريب قيادة الجيش الأردني، حيث يقول: "كان الأردن يتمخض عن انتفاضة"، بسبب "ديكتاتورية غلوب باشا، وامتهانه لكرامة البلد". فقد كان الحاكم الفعلي بالبلد، ويرى النابلسي أن حسين، العائد من مقاعد الدراسة في لندن، لم يكره غلوب، إلا أنه أراد لنفسه أن يكون هو الحاكم الفعلي والمطلق، وكانت القضية المطروحة: من الذي يحكم البلد؟!
يستخدم النابلسي كلمات قوية في انتقاد الملك الشاب القادم للتو من إنكلترا، فقد كان "مشبعًا بحب السلطة، ولم يجد من حكومة فوزي (الملقي) "الردع والتنبيه والإقناع الكافي"، وبأن من خير البلد السير في طريق الديمقراطية" (ص 231).
وينتقل إلى الحديث عن الضباط الأحرار، حيث كانت بينهم أكثر من جبهة تريد أن تصل إلى الحكم، بعضهم من أجل تخليص البلاد، والآخر تقليدًا لما حدث في البلاد المجاورة، وبعضهم من أجل السلطة بذاتها. ويضيف أنه تكونت عدة تشكيلات من الضباط تهيّئ نفسها إلى يوم تستلم فيه السلطة. وكانت أقوى هذه التشكيلات، حسب رأيه - تشكيلة محمود الروسان الذي كان أعلى الضباط ثقافة، وكان قد حصل على شهادتي B.A وM.A في العلوم السياسية.
ثم يتحدّث عن علي أبو نوار الذي كان ملحقًا عسكريًا في باريس، والذي ما أن تعرف عليه الملك حسين أثناء دراسته في لندن حتى قرّبه إليه، وطلب من غلوب باشا ترفيعه إلى رتبة مقدم وتعيينه مرافقًا شخصيًا له. وعندما عاد أبو نوار إلى عمان، أخذ يتصل بعدد من الضباط من الملتفين حول محمود الروسان، وشكل شلّة منهم من حوله. ومن الغريب أن لا يشير النابلسي إلى "تنظيم الضباط الأحرار"، وأن يكتفي بالحديث عن علي أبو نوار الضابط الطموح والمتعطش للوصول إلى السلطة. وفي خمسة أسطر فقط يروي النابلسي كيف نفّذ الملك خطة سرّية لإقصاء غلوب والضباط البريطانيين عن قيادة الجيش الأردني، حيث يقول: "ذهب الملك مع بعض المرافقين إلى رئاسة الوزراء، وطلب إلى رئيس الوزراء سمير الرفاعي عقد جلسة خاصة لمجلس الوزراء، واتخاذ قرار الاستغناء عن غلوب باشا، وعزله عن رئاسة أركان الجيش، وتعيين راضي عناب، أعلى الضباط الأردنيين رتبة، مكانه، وكلّف فلاح المدادحة، وزير الداخلية، إبلاغ غلوب بقرار العزل والإبعاد خارج الأردن" (ص 232).
يقول النابلسي إن خطوة الملك حسين فاجأت الجميع، "ولم يكن عبد الناصر يدري بشيء مما حدث"، وهزّ القرار بريطانيا هزًا، وخاصة أنتوني أيدن، رئيس الحكومة البريطانية. وحينها كتب الملك حسين إلى أيدن يقول له فيها بأنه فعل ما فعل من أجل "المصلحة المشتركة الأردنية - البريطانية"، وأن الأيام ستظهر أن ما فعله هو في مصلحة بريطانيا (ص 233).
ولما كان راضي عناب رجلًا عجوزًا وثقافته العسكرية محدودة، فقد طرحت مسألة استبداله بشخصية أخرى، وكان رأي الملك أن يتولى علي أبو نوار منصب رئيس الأركان وقام بترفيعه إلى رتبة لواء، رغم وجود العديد من الضباط الذين يتخطونه بالرتبة. لكن الملك أصرّ على قراره، الذي وافقه عليه وزير الدفاع محمد علي العجلوني.
وينتقل النابلسي إلى موضوع آخر هو فصل قوات الأمن العام عن الجيش، وأن تلحق بوزارة الداخلية. ويذكر أن غلوب باشا كان بمقتضى القوانين السائدة قائدًا لقوات البادية، والأمن العام والمخابرات والجيش. ويغمز النابلسي من بعض قادة الجيش، وخاصة رئيس الأركان، الذي كان يتصور نفسه غلوب، ويريد أن يستولي على السلطات التي كانت له.
انتخابات 1956 النيابية
تحت هذا العنوان يتحدث النابلسي عن مقدمات الإنتخابات النيابية، والتي جاءت بعد النجاحات التي حققتها الحركة الوطنية، ومنها إفشال الانضمام إلى حلف بغداد والقضاء على آمال تمبلر وتغيير حكومات عديدة، "حيث وجدنا أن الواجب يدعو إلى تكاتف الحركات الوطنية التقدمية" (ص 236).
خلال ثلاثة أشهر فاصلة ما بين حل المجلس النيابي المزور وانتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 1956 تتالت الإتصالات بين الحزب الوطني الاشتراكي وأحزاب المعارضة الأخرى، البعث والقوميين العرب والشيوعيين، حيث "كنا نلتقي في مكتب الحزب الوطني الإشتراكي بمندوبين عنهم كل يوم- يقول النابلسي- لينتهي الى لوم البعثيين الذين أصروا على ترشيح 18 مرشحًا لهم للمجلس النيابي"، وهو "طموح غير مشروع"، حسب تعبيره، حال دون التوافق على قائمة وطنية مشتركة.
يذكر النابلسي معلومات تنشر للمرة الأولى عن تأثير حزب البعث على الملك حسين عن طريق صديق من رجال البعث هو المرحوم كمال ناصر، كما يقول إن الشريف زيد بن شاكر كان على صلات حسنة مع رجال البعث، ويروي أيضًا أن البعثيين أقنعوا الملك بالسماح للجيش أن يصوت في الانتخابات، "مع أن هناك أصولًا وقواعد وأنظمة وقرارات تمنع الجيش من التصويت" (ص 237).
ويضيف أنه ذهب مع د. عبد الرحمن شقير إلى رئيس الحكومة إبراهيم هاشم ووزير الداخلية عمر مطر، "وأنذرناهما بأن بقية فصائل الحركة الوطنية ستمتنع عن الإنتخابات، وستنزل إلى الشارع إذا سمح للجيش بالإشتراك في الانتخابات".
وينتقل بعد ذلك إلى أسباب فشله في انتخابات 1956، ويعزوها إلى التزوير الذي وقع ضده، فضلًا عن التزاحم الذي وقع بين مرشحي الحركة الوطنية على مقاعد عمان.
يستخدم النابلسي كلمات قوية في انتقاد الملك الشاب القادم للتو من إنكلترا، فقد كان "مشبعًا بحب السلطة"... (Getty, 1960) |
يقول النابلسي في هذا الصدد بأن ترشيح نزار جردانه (من حركة القوميين العرب) وسليمان الحديدي (مرشح حزب البعث) قد أضرّا به، وأخذا أصواتًا من قاعدته في عمان والسلط. كما أسقط التزاحم الحزبي نائبين للحزب الوطني الاشتراكي في الكرك، وسقط أنور الخطيب وهو من أقطاب الحزب في القدس. ومن البعثيين سقط في القدس أيضًا بهجت أبو غربية. كما أدى التنافس على المقعد المسيحي بين جورج حبش وإبراهيم العايد في عمان، إلى فوز المرشح المحافظ سليم البخيت، وبذلك لم يفز للحزب في العاصمة عمان سوى عبد القادر طاش عن المقعد الشركسي.
يتهم النابلسي في مذكراته الدولة بالتزوير "العلني والمكشوف ضده"، ويتهم بصورة خاصة بهجت طبارة، مدير الأمن العام حينذاك، بهذا التزوير في عمان والكرك. يفسّر أسباب التزوير ضده بالقول إن الهدف من إسقاطه في عمان، باعتباره زعيمًا للحزب الوطني الإشتراكي وزعيمًا للحركة الوطنية، أنه لم يكن يراد له أن يؤلف الوزارة، وهو نائب فائز بإرادة الشعب، حيث كان معروفًا أن الحركة الوطنية ستكسب أغلبية المقاعد، إذ كان يراد له أن يأتي رئيسًا للوزراء بقرار من السلطة. ويعيد: "كان هذا مخططًا منذ البداية حتى أتى رئيسًا للوزراء، ليس بإرادة شعبي وإنما بأمر من السلطة" (ص 238).
ويختم فقرة انتخابات 1956 بالقول إن عدد نواب الحزب الفائزين بالانتخابات بلغ 13 نائبًا، هم: عبد القادر طاش، عبد الحليم النمر، شفيق أرشيدات، صالح المعشر، سعيد العزة، حكمت المصري، نعيم عبد الهادي، نجيب الأحمد، حافظ حمد الله، محمود راشد الخزاعي، شراري الرياحنة، محمد أخو ارشيده وصالح المجالي.
بعد إعلان نتائج الانتخابات اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الوطني الاشتراكي في بيت صالح المعشرن، ويقول النابلسي إنه تحدّث في الاجتماع، وقال بأن أمام الحزب فرصة دستورية يجب أن لا تفوّت، حيث تجري انتخابات حرة في أغلب المناطق، وإن الملك سوف يكلف حكومة منبثقة عن الإرادة الشعبية، ولذلك لا يجب أن نضع أية عراقيل في طريق تحقيق هذين الهدفين، ودعا إلى إعطاء الملك المجال لأن يختار شخصًا من كتلة الحزب الاشتراكي لتأليف الحكومة الجديدة.
وكان هناك اعتقاد لدى غالبية المجتمعين أن الهدف من إسقاط النابلسي، كما يقول في مذكراته، هو إقصاؤه عن رئاسة الحكومة القادمة، وانتهى الاجتماع إلى قرار يعلم الملك برغبة الحزب في تكليف النابلسي بتأليف الحكومة الجديدة، وإلا فإن الحزب سوف يرفض المشاركة بها (ص 240/241).
لقاء التكليف مع الملك
بعد يومين على اجتماع اللجنة المركزية للحزب الوطني الاشتراكي استدعى النابلسي مع عبد الحليم النمر إلى الديوان الملكي، وباشر الملك بالحديث إلى سليمان النابلسي، وقال: "نريد من أبي فارس أن يؤلف الوزارة"، ورد عليه النابلسي بالقول: "يا سيدي، أنا رجل حزبي، ورجل عنيف وأخشى أن لا أستطيع، بهاتين الصفتين أن أوفق بين رغبتك ورغبة الشعب"، واقترح النابلسي تكليف عبد الحليم النمر "الهادئ المحبوب"، والذي "له منزلته في البلاد". ورد النمر بقوله: "أنا تجربتي قصيرة وقليلة، وأبو فارس هو رئيس الحزب، وهو المؤهل لأن يقود سفينة البلاد في هذه المرحلة، وهو معروف عربيًا ودوليًا، وقد أجمع الحزب على تأليف الوزارة برئاسته" (ص 241).
انتهى الاجتماع بتكليف النابلسي تأليف الحكومة، وحثّه الملك على تمثيل مختلف الاتجاهات في الحكومة لتفادي الخلافات في مجلس النواب. لكن الملفت بالأمر هو طلب الملك مباشرة اختيار وزير من البعثيين في حكومته، بل وأخذ عبد الله الريماوي وزيرًا للخارجية، ويقول النابلسي بأن هذا "كان نتيجة ضغط كل من الشريف زيد وكمال ناصر" (ص 242).
رفض أركان الحزب الوطني الاشتراكي اختيار عبد الله الريماوي وزيرًا للخارجية، وأصرّوا على الاحتفاظ بهذا المنصب لوزير من الحزب. وحين جاء وفد من الحزب، يضم منيف الرزاز وسليمان الحديدي وكمال ناصر إلى مكتب الحزب، عرض عليهم تمثيل حزب البعث بواحدة من الوزارات، باستثناء وزارة الخارجية. لكن الوفد البعثي طالب بوزارة الخارجية حصرًا، وسمّوا عبد الله الريماوي مرشحًا لها.
وبعد أخذ ورد وصل الحزبان إلى حل وسط، وهو أن يتولى النابلسي وزارة الخارجية إلى جانب رئاسة الحكومة، وأن يكون عبد الله الريماوي وزير دولة للشؤون الخارجية. وقد أبلغ الملك بهذا الحل. ويقول النابلسي إن هذه المرة الأولى في تاريخ الأردن التي يعيّن فيها وزير دولة.
ثم يتحدث النابلسي عن الليلة الطويلة التي شهدت مفاوضات التشكيلة الوزارية ولا سيما حل مشكلة ممثل "الجبهة الوطنية" في الحكومة، والتي انتهت باختيار عبد القادر الصالح وزيرًا عنها. وفي نهاية الأمر تألفت الحكومة في اليوم التالي، 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، وهو اليوم الأول للعدوان الثلاثي على مصر. وقد ضمّت: سليمان النابلسي، عبد الحليم النمر، أنور الخطيب، شفيق ارشيدات، صالح المعشر، ونعيم عبد الهادي عن الحزب الوطني الإشتراكي، وعبد الله الريماوي عن حزب البعث وعبد القادر الصالح عن الجبهة الوطنية، إضافة الى ثلاثة وزراء من المستقلين.
يرى النابلسي أن حسين، العائد من مقاعد الدراسة في لندن، لم يكره غلوب، إلا أنه أراد لنفسه أن يكون هو الحاكم الفعلي والمطلق |
حكومة النابلسي والعدوان الثلاثي على مصر
كان العدوان الثلاثي على مصر الشغل الشاغل لحكومة النابلسي في أيامها الأولى، وهكذا اتخذت كل الإجراءات اللازمة للمشاركة في الحرب، ولذلك طلب الأردن قواتٍ سورية، وكذلك قواتٍ عراقية لتدعيم الخطوط الامامية للضفة الغربية مع إسرائيل. تصرفت الحكومة كما لو أنها ستنضم إلى الحرب، فنقلت مقر القيادة العامة للجيش الأردني إلى مكان سري، ووضعت مكاتب لرئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الأركان ومساعده في ذلك المكان، وهو مستنبت تابع لوزارة الزراعة في ضاحية الجبيهة، حيث تقع الجامعة الأردنية الآن.
يقول النابلسي: "كنا في فرحة، إذ جاء اليوم الذي سنثأر فيه من إسرائيل وستكون محاطة بثلاث جيوش في آن واحد، وتعمل تحت قيادة مشتركة...".
في هذه الأثناء أصدرت كل من بريطانيا وفرنسا إنذارًا لمصر بأن تبتعد قواتها عن قناة السويس مسافة 20 كيلومترًا، كما طلبت إلى إسرائيل التي دخلت الحرب معهما، الشيء نفسه، أي الابتعاد عن قناة السويس، مسافة عشرين كيلومترًا، علمًا بأنها لم تكن قد بلغت القناة بعد!!.
بعد هذا الإنذار تغيّرت حسابات حكومة النابلسي، وجاءت برقية من جمال عبد الناصر إلى الحكومة الأردنية تفيد بتغيّر خطط التعامل مع العدوان الإسرائيلي على مصر، وطلب أن يلجأ الأردن إلى اتخاذ خطة دفاعية، وهو الأمر الذي يتطلب أيضًا استدعاء الجيش العراقي لحماية خطوط وقف إطلاق النار مع إسرائيل.
ذهب النابلسي ووزير الدفاع إلى الملك حسين لإبلاغه بضرورة لجوء الأردن إلى خطة دفاعية، وتجنّب استفزاز إسرائيل، بعد دخول القوات البريطانية والفرنسية إلى المعركة، ولكن الملك غضب، وأصرّ على دخول الحرب إلى جانب مصر، وبعد تجاذب وأخذ ورد رفض النابلسي وحكومته الانجرار إلى الحرب، وقرروا اللجوء إلى الدفاع، "فإذا هاجمتنا إسرائيل فسندافع، وهنا يستحب الموت". قال النابلسي في مذكراته، وأضاف: "والحقيقة أنه كان لإصرارنا برفض الحرب الأثر في إنقاذ البلد من احتلال تأخر من عام 1956 حتى عام 1967! ولم يكن الأمر ليقتصر على الضفة الغربية، وإنما سيحاربوننا في الضفة الشرقية، واستطعنا أن نقنع الملك، وتجنّب مأساة الإحتلال والهزيمة العسكرية" (ص 246).
في إثر العدوان الثلاثي على مصر انعقد مؤتمر للملوك والرؤساء العرب في بيروت، وكان للملك حسين، كما يروي النابلسي، الفضل في الدعوة إلى عقد ذلك الاجتماع. وهكذا أقدمت الدول العربية، بما فيها الأردن، على قطع علاقاتها مع فرنسا، وبينما فعلت الدول العربية الشيء نفسه مع بريطانيا، أما الأردن والعراق، اللذان تربطهما معاهدات مع بريطانيا، فقد اكتفيا بتجميد العلاقات معها.
يروي النابلسي أن العراق تخلفت أول الأمر عن المشاركة في مؤتمر بيروت، الأمر الذي أغضب الملك حسين فأرسل "برقية قاسية وعنيفة جدًا إلى الملك فيصل يلومه ونوري السعيد على عدم الحضور، مما أجبرهما على إرسال وفد للمشاركة في المؤتمر".
بحث المعونة العربية للأردن في قمة بيروت
اغتنم النابلسي وجود الملك السعودي والرئيس السوري في قمة بيروت لبحث استبدال المعونة البريطانية بالمعونة العربية. وطلب الالتقاء بالعاهل السعودي لهذا الغرض. يقول النابلسي إنه استدعي بعد أحد اجتماعات، وكان موجودًا فيها الملك حسين والملك سعود والرئيس شكري القوتلي وعبد الحميد غالب، فقالوا لي: "يا سليمان، أنت ترى الأوضاع، فهل بالإمكان إرجاء الأمر إلى مناسبة أخرى؟". ويضيف: "إن الملك حسين استدعاني بحضور هؤلاء ليقول لي: إن العاقة ليست مني، واسمع بأذنيك من هؤلاء السادة الذين سيدفعون المعونة ماذا يقولون" (ص 248).
لم يقتنع النابلسي أن الظرف غير ملائم لبحث المعونة فذهب إلى الشيخ ياسين، أحد مستشاري الملك سعود، ليرتّب له اجتماعًا منفردًا مع الملك، ففعل وبأسرع مما توقع النابلسي، إذ التقى الملك في السفارة السعودية في الليلة نفسها. يقول النابلسي: "تحدثت مع الملك سعود في موضوع المعونة وأقنعته، وقال له الملك سعود: أنا أثق بك يا سليمان، وأنا مستعد أن أقوم بهذا الواجب وأنا مطمئن إلى وطنيتك وحكمتك (...) ونحن على استعداد للقيام بالواجب فاذهب على بركة الله، ففي أي وقت تراه ملائمًا لن نتردد في إقناع إخواننا في سورية ومصر بدفع مبلغ 12.5 مليون جنيه، فشكرته شكرًا جزيلًا وعدت سعيدًا".
بناء على الوعد السعودي بدأت حكومة النابلسي خططها لإلغاء المعاهدة مع بريطانيا، وبادرت إلى إرسال وفود وزارية إلى مصر والسعودية لتحقيق هذا الهدف. ومع انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من قناة السويس، طلبت الحكومة سحب القوات العراقية من الأردن، وأبقت على القوات السورية إلى أن انسحبت بعد عزل حكومة النابلسي.
يصف النابلسي أثر الانتصار الأدبي الذي تحقق للأمة العربية جرّاء جلاء القوات البريطانية والفرنسية عن أرض مصر، وانقلاب العدوان الثلاثي على أصحابه، وكيف سقطت هيبة بريطانيا في الوطن العربي، فلم يبق بلد عربي لم تقم فيه مظاهرة تندّد ببريطانيا وتطالب بإنهاء العلاقة معها، بما فيها بغداد. ويضيف: "ذهبنا إلى القاهرة والكل متشوق إلى عقد هذه الاتفاقية (اتفاقية التضامن العربي)، وأخذناها طريقًا لبحث المعاهدة البريطانية، ووجدنا تجاوبًا هناك، وعدنا لنعمل على أن نصل مع بريطانيا إلى اتفاق بالتراضي والقبول". ويختم: "شكّلنا لجانًا للمفاوضات، كما شكل الإنكليز لجانهم، وأخذنا وقتًا كافيًا من أجل الوصول إلى الاتفاقية، وعملنا على إنهاء المعاهدة لا إلغائها"! (ص 250/251).
وعن إنجازات حكومته يقول النابلسي: إن نشر الوعي بالحرية بين أفراد الشعب وجعل الناس يدركون أن الحرية هي أثمن ما لديهم كان من أهم أهداف حكومته. ويفتخر بأنه ما من إنسان سجن في عهد حكومته نتيجة عمل سياسي.
أما الإنجاز الآخر الذي يتباهى النابلسي بتحقيقه، فهو تقوية الحرس الوطني، والسعي لتسليحه من الاتحاد السوفياتي، حيث أرسلت الحكومة علي أبو نوار، رئيس الأركان، إلى دمشق للاتصال مع السفير السوفياتي هناك. ثم أرسل شفيق ارشيدات للتباحث مع السفير السوفياتي على إقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفياتي، وقد صادق مجلس النواب على هذه الخطوة، الأمر الذي فتح الباب أمام بحث تسليح الجيش، حيث عاد ارشيدات إلى دمشق ليفاوض السفير السوفياتي على تسليح فرقة واحدة، ولواءين بالأسلحة الثقيلة (دبابات، وأسلحة مقاومة للطائرات إضافة الى أسلحة خفيفة).
"لما أصبحت القضية جدية، وأننا سائرون في هذا الخط والوصول إلى السلاح الروسي (...) بدأت المؤامرة على الوزارة الوطنية (...) وبدأت برسالة موجهة من الملك إلى رئيس الوزراء، تعرض بالشيوعية وتهاجمها بشكل عنيف، واعتبر الملك أن الشارع أصبح تحت تأثير الشيوعية"، ويقول النابلسي: "الواقع أن هذه الرسالة هزّتنا لأنها كانت بداية تحوّل في سياسة الملك حسين وسياسة السعودية" (ص 256).
يتوقف النابلسي طويلًا في الفصل السادس عند العقبات التي واجهت حكومته وأدت إلى إقالتها، فيضعها تحت ستة عناوين، أولها تلك المتصلة بعلاقة الحكومة مع القصر. يقول النابلسي إنه كان هناك انسجام بين الحكومة والقصر استمر حتى فترة متأخرة، حيث كانت أهداف الحكومة وشعاراتها ترفع بالاتفاق مع القصر. لكن مع إنهاء المعاهدة الأردنية البريطانية ساد رجال القصر الذعر في أن يكون العرش تحت رحمة الشارع.
بدأ تصدّع العلاقة بين القصر والحكومة في فبراير/ شباط 1957 عندما كلّف الملك رئيس ديوانه بنقل رسالة منه إلى الرئيس المصري عبد الناصر، وقد عرف النابلسي ذلك بالصدفة وثار غضبه، وقرر الاستقالة احتجاجًا لما اعتبره تجاوزًا لسلطاته واختصاصاته كرئيس وزراء ووزير خارجية. وقد سحب النابلسي استقالته بعد تعهد الملك بعدم تجاور سلطات رئيس الحكومة. ثم يتهم النابلسي بعد ذلك الملك بمواصلة السعي للتدخل في شؤون الحكومة، بل ونسفها من الداخل، كما اتهم الشريف ناصر، خال الملك، بتجميع الحجازيين واليمنيين وتسليحهم بعد أن ترك الجيش.
في مواجهة الدسائس والمؤامرات التي كانت تحاك ضد الحكومة، يقول النابلسي: "للنقد الذاتي والإنصاف لم نكن نحن في مستوى الأحداث، ولم تكن حكومتنا متمرّسة بالمشاكل والمؤامرات والوقيعة، وأن يكون لها عيون وأناس للرقابة (...) ولم نكن نتصور إمكانية تدبير مؤامرة علينا فالشعب والبرلمان والجيش معنا، وكانت الأحداث أكبر منا، فهل نستطيع أن نقف أمام المخابرات الأميركية والأموال الأميركية التي تشترى بها أعتى العتاة؟" (ص 260).
ومن العقبات التي صادفت النابلسي في فترة حكومته القصيرة تصرفات بعض ضباط الجيش، ومنها تطويق عمان من قبل بعض وحدات الجيش الأردني، وهو الإجراء الذي اعتبره الملك إجراء لصالح حكومة النابلسي أو بعلمها، ليتبيّن أن الخطوة مبرّرها إحصاء السيارات التي تدخل عمان أو تخرج منها، فيما لو وقعت حرب أو حدث أي طارئ. ويوحي النابلسي أن هذا الإجراء، الذي لم يكن لديه علم به، من تدبير علي أبو نوار لإشعار الملك بأنه المهيمن على البلد، وليقنعه بتعيينه رئيسًا للحكومة. وكان يستفز النابلسي الشعور بأن الملك يصغي لأبو نوار، ولذلك كان لا يتردد، حسب مذكراته، في تحذير الملك من "وضع يده بيد الجيش"، وينتهي إلى القول بأن بعض قادة الجيش أفسد علينا حياتنا السياسية (...) وأصبح همنا اتّقاء هذه العقبات التي يضعونها في طريق الحكومة.
العقبة الثالثة التي نغّصت على الحكومة الوطنية، هي الأحزاب السياسية المشاركة في الحكم، فيقول النابلسي بأن هذه الأحزاب اعتقدت أنها "انتصرت وأصبح انتصارها ثابتًا وخالدًا ومكرّسًا، ونسيت أن هناك استعمارًا وإمبريالية وقوى عميلة في البلد أقوى من هذه الأحزاب مجتمعة وأقوى من الحركة الوطنية مجتمعة".
يشكو النابلسي من شطط الأحزاب المؤتلفة، البعث والشيوعيين، فكان يطلب إلى الشيوعيين عدم التظاهر في الشوارع مراعاة للظروف، والتوقف عن إصدار جريدة الحزب مؤقتًا، مراعاة لعلاقة الحكومة بالملك الذي ندّد بالخطر الشيوعي وبتوزيع نشرات الحزب علنًا. وفي الوقت نفسه يشكو النابلسي من "دسائس" عبد الله الريماوي ومحاولاته بث الفرقة في صفوف الحزب الوطني الاشتراكي، والتأثير على علي أبو نوار وغيره من ضباط الجيش، ويصف النابلسي صعوبة دوره في محاولاته لمنع انفجار الموقف مع القصر واستعداء الملك حسين.
يشكو النابلسي من "دسائس" عبد الله الريماوي (يسار) ومحاولاته بث الفرقة في صفوف الحزب الوطني الاشتراكي، والتأثير على علي أبو نوار (يمين) وغيره من ضباط الجيش |
وفيما يتعلق بعلاقة حكومته بمجلس النواب، يشير النابلسي إلى أنها حظيت بتأييد نحو 26 نائبًا من أعضائه الأربعين، غير أنه ما إن ضعفت الحكومة أمام الضغوط التي جابهتها، حتى تصاعدت المعارضة لها من قبل الإخوان المسلمين وبعض النواب المستقلين والنواب الموالين لأبو الهدى وسمير الرفاعي.
ومع أن النابلسي يتحدث عن قوة الانسجام السياسي بين فرقاء حكومته، إلا أنه يشكو من بعض المنغّصات التي تعرّضت لها الحكومة على يد وزيري الجبهة الوطنية وحزب البعث. حيث يروي بعض الحوادث التي تخللت فترة حكمه، والتي انطوت على بعض الشوائب.
أما العقبة السادسة والأهم والتي اعترضت حكومة النابلسي، فهي التي وضعتها الإمبريالية الأميركية في طريق وزارته. يقول النابلسي في هذا الصدد "جاء "مبدأ أيزنهاور"، وطلب منا دراسته". ثم يكشف في الصفحات التالية عن العروض التي تلقاها شخصيًا للقبول بهذا المشروع الذي حمل اسم الرئيس الأميركي، وكان قد أطلقه في مطلع عام 1957. يقول النابلسي: "جاء محمد المعايطة من بيروت وكان ملحقًا عسكريًا في سفارة الأردن في دمشق وبيروت، وكان معه اثنان من كبار وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA، عرضوا دفع أي مبلغ أريده مقابل الموافقة على مبدأ أيزنهاور". وبعد استفسار النابلسي عن هذا المبدأ، قال له المعايطة: "أصبح في منطقة الشرق الأوسط فراغ بعد انسحاب بريطانيا وفرنسا (...) وتخشى الولايات المتحدة أن يملأ هذا الفراغ الاتحاد السوفياتي والشيوعية المحلية".
العرض الثاني تقدّم به سفير الولايات المتحدة في عمان لستر مالوري الذي زار النابلسي ليعرض عليه مائة مليون دولار تقدّم للخزينة الأردنية مقابل قبول الأردن بمبدأ أيزنهاور. هنا يورد النابلسي ردّه بعبارات أدبية مثيرة: "قلت له: يا مستر مالوري، لو كان هذا الاستقلال الذي حصلنا عليه كبير السن مديد العمر لقلنا إنه قادر على الصمود بعد بيعه، لكنه استقلال وليد، عمره شهران، لم نشمه بعد ولم نضمه ونقبله، فنحن لا نبيع هذا الرضيع، ولذلك لا نفرح ببيع استقلالنا الرضيع لك" (ص 273).
ما إن غادر السفير الأميركي حتى ذهب النابلسي لمقابلة الملك حسين حيث أبلغه بعرض المائة مليون دولار، وأنه أجاب السفير بأن الأردن لن يحارب الشيوعية لمصلحة أميركا، و"أن الحكومة ترفض مبدأ أيزنهاور ولو دفعتم مال الدنيا". وفي فقرة لاحقة يقول النابلسي: "صمت الملك، ولم يشجعني على خطوتي، كما أنه لم يرفضها".
وفي المساء خطب النابلسي في حشد كبير تجمع في ساحة مدرسة ثانوية في مدينة نابلس بعد إفطار رمضاني، حيث تطرّق إلى عرض مالوري، وكيف أخبره برفض عرضه، وقد سُجّل هذا الخطاب وأذيع على الهواء، وهو ما أثار غضب الملك لأن النابلسي لم يستشره في إعلان موقف الحكومة الرافض للعرض الأميركي. ويبدو أن ذلك الخطاب الذي استمر لنحو ثلاث ساعات كان الشرارة التي فجّرت العلاقة ما بين النابلسي والملك حسين، إذ لم تمض سوى أيام قليلة حتى أقيلت الحكومة.
يفرد النابلسي عدة فقرات للجهود التي بذلتها الولايات المتحدة لحشد القوى وتجنيدها للإطاحة بالحكومة الوطنية، وينقل عن علي أبو نوار، رئيس أركان الجيش الأردني، أنه حضر بنفسه اجتماعات مع مالوري السفير الأميركي والكحيمي السفير السعودي في بيت سمير الرفاعي لوضع الخطط لإطاحة حكومته. ويكرر القول أن "الحكومة لم تكن في مستوى الأحداث، وكذلك الأحزاب والحركة الوطنية بأسرها".
يلوم النابلسي علي أبو نوار على اتخاذه قرارًا بإبعاد عدد من العسكريين البدو عن الجيش، ما أثار بعض زعماء البلد ضد الحكومة ودفعهم للتكتل ضدها. كما لام استخبارات الجيش على عدم الاطلاع على النشاطات التحريضية التي كانت تدور لتأليب قطاعات الجيش ضد الحكومة، حيث فاجات حادثة التمرد في الزرقاء أبو نوار والضباط الذين حوله.
يوجّه النابلسي أصابع الاتهام أيضًا إلى الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود الذي تخلى عن سياسة التضامن العربي ليتفق مع أيزنهاور على جرّ الأردن إلى الصف الأميركي والخلاص من حكومته.
وينتقل النابلسي إلى "حادثة الزرقاء" (13 أبريل/ نيسان 1957)، أو ما يسمى بمحاولة انقلاب عسكري، حيث وقع الملك بعد أيام على قبول استقالة حكومة النابلسي.
*باحث في التاريخ السياسي والاجتماعي الأردني.