}
عروض

في تتبع ابتكار الزواج وتطوّره عبر العصور

عمر كوش

27 نوفمبر 2024


شهد الزواج تغيرات كثيرة على امتداد التاريخ البشري، حيث أن الارتباط بين رجل وامرأة خضع لشروط وظروف متنوعة، وتطور بتطور المجتمعات والعادات وظهور التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ليصبح عملية خاضعة لأسس وقوانين وأعراف. ولم يرتبط الزواج خلال معظم فترات التاريخ بالرغبات الفردية لرجل وامرأة وأطفالهما، بل بعقد مصاهرات جيدة، وزيادة الأيدي العاملة في الأسرة، وإيجاد شريك وتربية الأطفال. وتعتبر الأنثروبولوجية ستيفاني كونتز في كتابها "الزواج: تاريخ من الطاعة إلى الحميمية - أو: كيف غزا الحب الزواج" (ترجمة رشا صادق، بغداد، دار العالي، 2024) أن العديد من الأفكار المرتبطة بالحب، وخاصة الزواج، لم يكن لها تاريخيًا علاقة تذكر بالرومانسية، إذ طالما وقع الناس في الحب خلال آلاف السنين، ووقعوا في حبّ أزواجهم أيضًا، إلا أن الزواج لم يتمحور آنذاك حول الحب بالدرجة الأولى، بل كان مؤسسة اقتصادية وسياسية بالغة الأهمية، ولا يمكن دخولها بناء على الحب فقط، فقد كان يتعلق بالملكية وبالسياسة أكثر مما تعلق بالسعادة الشخصية، وكان الزواج يمثل عقدًا بالغة الأهمية، لا يجوز أن يعهد به إلى الشخصين المعنيين فقط، وكان لا بد من تدخل الأهل والأقارب والجيران وسواهم في مفاوضات تدبير الشريك، وبالتالي فإن فكرة اقتران الزواج بالحب يراها الناس في العالم المعاصر بدهية، أو يُفترضون ذلك، لكنها لا تمتلك سندها التاريخي، لأن الحب لم يدخل في معادلة الزواج إلا في وقت متأخر، ما يعني أن الزواج عن حب هو اختراع حديث جدًا، إذ لم يكن الزواج في العصور السابقة إلا من أجل التحالف وتمديد المصالح بين العائلات المختلفة، أو داخل العائلة الواحدة، فقصة الحب الشهيرة بين أنطونيو وكليوباترا مثلًا لم تحركها العواطف الرومانسية، بل المكائد السياسية، وكانت بمثابة تحالف بين حكام كل من مصر وإيطاليا. وقد استخدمت الطبقات الحاكمة والأرستقراطية الزواج بغية تنظيم تحالفات سياسية وعسكرية ودمج الثروات، حيث استخدم الزواج من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية طيلة آلاف السنين، وحتى الحروب كانت تنتهي في أحيان كثيرة عندما يتزوج رجل من أحد الطرفين المتحاربين امرأة من الطرف الآخر. إضافة إلى أن الزواج لم يكن مثلما هو متعارف عليه في عصرنا الراهن، إذ كان تعدد الزوجات والأزواج شائعًا طوال قرون عديدة بين القدماء في أماكن مختلفة من العالم. ففي الصين القديمة، قبل نحو خمسة آلاف عام، كانت العلاقات الجنسية مشاعية بدون تمييز، حيث كان الصينيون يعيشون مجموعات بدون تفريق بين زوجين ثابتين. وكان للطفل أكثر من أم، واحدة منهن رئيسية، وتسمى الأم الكبيرة باللغة الصينية، وأمهات غير رئيسية يُطلق على كل منهن الأم الصغرى أو الخالة. استغرق الأمر خمسة آلاف عام من الزواج المشاعي حتى وصلت الصين إلى الزواج الأحادي. وحين زادت تعقيدات المجتمعات صار الزواج ضرورة من منطلق اقتصادي وسياسي، فوقعت حرب طويلة بين الكنيسة والدولة في أوروبا، وبين الكنيسة من ناحية، والملوك والنبلاء الذين يريدون أن يتخذوا زوجة ثانية من ناحية أخرى.

ترى كونتز أن بعض البشر اعتقدوا أن الحب ضد عادات المجتمع، مثل الهند القديمة، فقد كانت كلمة حب باللغة الصينية القديمة تعني علاقة مرفوضة اجتماعيًا والأطفال الذين كانوا يولدون خارج مؤسسة الزواج كانوا يسمون "أطفال الحب". وتشرح الأسباب التي استغرقتها مضامين زواج الحب كي تتوضح، وحيثيات تداعي زواج الحب القائم على الذكر كمعيل وحيد للأسرة، والذي بدا مستقرًا، ثم تتناول العاصفة العاتية التي اكتسحت الزواج والحياة العائلية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين المنصرم، والكيفية التي غيرت بشكل نهائي الدور الذي يلعبه الزواج في المجتمع والحياة اليومية للأفراد. وترى بأنه طوال قرون تولى الزواج معظم المهمات التي تقوم بها الأسواق والحكومات في العالم الراهن، حيث نظّم عملية إنتاج وتوزيع البضائع والأشخاص، وأرسى تحالفات اقتصادية وسياسية وعسكرية، ونسّق تقسيم العمل وفقًا للجندر والعمر، كما نظّم حقوق الناس وواجباتهم على جميع الأصعدة، بدءًا من العلاقات الجنسية وانتهاء بالميراث، حيث وضعت معظم المجتمعات قواعد محددة للكيفية التي يجب أن يرتّب وفقها الأفراد زيجاتهم كي يحققوا تلك المهام على أكمل وجه. أما التصّور السائد بأن الحبّ ضروري للزواج، فهو في الواقع تصوّر حديث ظهر في الآونة الأخيرة، وبات سائدًا منذ حوالي قرنين ونيف. وقد وقع الناس في الحبّ، وأحبّ العديد من الأزواج بعضهم حُبًا عميقًا ومليئًا بالمشاعر والشغف، وعانوا من العذاب إن لم تلق مشاعرهم صدى لدى الطرف الآخر، لكن أعراف المجتمعات المؤسساتية طالبت المرأة في غالب الأحيان بأن تعاني بصمت إن وئدت آمالها بالحب في الزواج، بينما سمحت للرجل بأن يبحث عن الحب المنشود خارج رباط الزوجية. وقد أحب الناس قصص الحب لكن القدماء لم يحاولوا العيش بداخلها، كونهم فهموا أن الزواج مؤسسة اقتصادية وسياسية تديرها قواعد جامدة. وكان الزواج في الماضي مقدّسًا، أمّا الحبّ فقد كان ثانويًا ومُلحقًا. أما في العالم المعاصر فقد أصبح يُنظر إلى الحبّ على أنه أساسي وضروري للزواج، وبات الحبّ هو الأساس والزواج أمر ثانوي، الأمر الذي يفسر في جانب منه تناقص أعداد المُقبلين على الزواج، بينما بالمقابل تزداد أعداد حالات الطلاق والمساكنة أو الشركاء غير المتزوجين، وتزداد أيضًا أعداد الأسر ذات المُعيل الواحد، وبالتالي فإن الحب الذي انتصر على الزواج قد يُدمره من الداخل، بالنظر إلى ما يُمليه من تصوّرات وتوقعات، من حيث أنه جَعل الزواج أكثر تقلبًا وأقل متانة واستقرارًا بتأجيجه مسألة الانفصال والتخلي عن الزواج الخالي من الحبّ العاطفي.

ترى كونتز أن الزواج هو اختراع اجتماعي، ينفرد فيه البشر، وبدأ لأسباب عملية بحتة، فقد كان المجتمع يحتاج إلى شكل وبنية منظمين، لذلك تقوم في سياق بحثها عن أصل الزواج وتطوراته بعرض النظريات المتعددة التي وضعت بشأن ابتكاره، وأكثرها شيوعًا وانتشارًا تلك التي تعرف بنظرية الرجل المعيل، التي تفيد بأن رجال ما قبل التاريخ قاموا باصطياد الحيوانات البرية، فيما بقيت النساء في الكهوف، وقامت النساء بمقايضة الجنس بالحماية والطعام، لكن الدراسات التي تناولت الصيد والالتقاط شككت بهذه النظرية القائمة على فكرة تبادل المنفعة، وتقضي بتوفير الحماية أو الإعالة مقابل الجنس والطهي، إذ أن قيام النساء بجمع الطعام من النباتات وبيوض الحيوانات والحشرات الصالحة للأكل ونصب الأفخاخ يعتبر الأهم من قيام الرجال باصطياد الحيوانات الضخمة بالنسبة للمجموعات البشرية، التي انتظمت في مجموعات عشائر وقرى صغيرة، وكان ناسها في حالة تنقل وترحال خلال بحثهم الدائم عن الطعام. ولم يكن الزواج الطريقة الرئيسية للحصول على الطعام أو الحماية بالنسبة إلى المرأة أو أطفالها، بل كانت هناك حاجة لتشكيل شبكات من التعاون تتجاوز حدود العائلة المباشرة أو القبيلة، كي يتسنى لها التنقل بحرية وأمان بحثًا عن الطرائد والأسمال والنباتات ومنابع المياه، أو الارتحال من منطقة إلى أخرى مع تغير الفصول، ولجأت مجتمعات الصيد والالتقاط القديمة إلى تأسيس علاقات الزواج وأواصر القربى، بواسطة تبادل الأزواج والزوجات بينها، بغية تأسيس صلات قربى بين المجموعات، فنشأت تحالفات بينها. ومع الزراعة نشأت مجتمعات مستقرة تعتمد عليها، وترافق ذلك بمسير نحو التعاون والتشارك من خلال الروابط العائلية والتزامات القربى، ثم مع اختراع المحراث الزراعي قبل نحو أربعة آلاف عام، نشأ تقسيم العمل بين الرجل والمرأة، وفاقم اختراعه خضوع المرأة للرجل، لأنه انتقص من أهمية عملها، حيث مكثت المرأة في المنزل كي ترعى الأطفال، فيما قام الرجل بزراعة الأرض، ولم يعد الترحال واردًا في حال وجود أرض تملكها العائلة. وأصبحت المجتمعات أكثر تعقيدًا وتمايزًا. وأتاح الزواج بأكثر من زوجة للملوك أن يؤسسوا شبكة تحالفات مع العديد من الحكام، لكن تعدّد الزوجات أفضى إلى ولادة ورثة عديدين يتنافسون على الحكم، الأمر الذي يفسّر كثرة الاغتيالات والمؤامرات. وكان الزواج بالنسبة للملوك والسلالات الحاكمة والأرستقراطية خاضعًا لحسابات عملية في معظم الحالات، ويجري وفق صفقات اقتصادية وسياسية، وكان أشبه باندماج الشركات الكبرى في عالم اليوم أو بالشراكة الاستثمارية. وجاءت المسيحية إبان انهيار الإمبراطورية الرومانية، وتنامت سطوة الكنيسة مع الوقت، ودفع تطور دورها وقوتها الاقتصادية إلى الانخراط في سياسات الزواج والطلاق والحياة العائلية، وأسّست عقيدة الزواج المسيحي التي تحظر تعدد الزوجات، وتفرض قيودًا صارمة على الطلاق والزواج لمرة ثانية، وذلك ضمن ممالك أوروبا الغربية خلال القرون الوسطى وما بعدها، التي لم تكن تعترف بأن المرأة لها رغبات جنسية من الأساس، وبالتالي لم تكن فكرة ارتباط الزواج بالحب والرغبة مطروحة بالأساس.

تغيّر الزواج كثيرًا مع بدايات القرن السابع عشر في مجتمعات أوروبا الغربية، وذلك مع التحوّل من المجتمع الزراعي إلى الاقتصاد الحر، الذي لعب دورًا في الاعتراف بزواج مبني على علاقة عاطفية واختيار حر، وليس خطوة في سبيل تحالف عائلي، فالابن لم يعد ينتظر كي يرث أراضي من والده. وجعلت قوانين الطلاق الصارمة عملية إلغاء الزواج عملية عسيرة، لكنه ترافق مع حرية أكبر على المستوى الشخصي لاختيار الشريك أو رفضه، فضلًا عن الخليلة التي لا تتمتع بوضع قانوني. ومع انتشار اقتصاد السوق وفلسفة التنوير إبان القرن الثامن عشر، حلّت الحرية الشخصية في انتقاء الشريك محل الزواج المدبّر كمعيار اجتماعي، وجرى تشجيع الأفراد على الزواج بدافع الحب، وبات الزواج للمرة الأولى منذ خمسة آلاف سنة علاقة خاصة بين زوجين، بدلًا من حلقة واحدة في نظام أكبر من التحالفات السياسية والاقتصادية. ولم تترد فلسفة التنوير ذات الرؤية العلمانية في اعتبار الزواج بمنزلة عقد شخصي، لا يجوز أن تنظمه الكنيسة أو الدولة، واعتبرته اتفاقًا شخصيًا له تداعيات عامة، وليس مؤسسة عامة بحدّ ذاتها.

تطور مفهوم الحرية في القرن العشرين، خاصة في ستينياته وسبعينياته، وترافق مع البحث المتواصل عن كفاية الحاجة المعنوية خلال الزواج أو من أجل إنهائه. شكّلت الحرية قفزة كبيرة في شكل وبنية مؤسسة الزواج، خاصة مع تطور فكرة الحب، وحرية الأزواج في اختيار شركائهم، فازدادت مخاوف المحافظين والتقليديين من عواقب ما يمكن أن تنتجه الحرية، مثل ازدياد حالات الطلاق، واكتساب المرأة المزيد من الحقوق، وبالتالي المزيد من السلطة على الرجال. لكن الأمر تغيّر مع دخول النساء ميادين العمل واعتمادهن على أنفسهن ماديًا وتحرّرهن من حاجتهن الاقتصادية للزواج، حيث صار بالإمكان اختيار الزوج وفقًا لمعيار الحب وليس المادة، وبالتالي فإن التحرّر المادي أو الاقتصادي، استدعى معه تحررًا أكثر رومانسية وعاطفية، جسّدته الحرية في الحب، والزواج من المحبوب، وحتى الخلاص أو التحرّر منه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.