تكون مهمة الروائي صعبة، في حال قامت على بحث في خطوط تجربة عاشها في طفولته، فتكون بمثابة إعادة استنطاق الذاكرة، وتحفيز للأصوات والحركات داخلها، حيث تزداد نسبة التقاطعات والتداخلات، والتماهي أحيانًا، مع الأحداث والشخصيات والزمن والأماكن. هذا ما يمكن ملاحظته، تحليلًا وتفحصًا، في تجربة الكاتب الفلسطيني طارق عسراوي، "اللعب بالجنود" الصادرة عن دار تكوين 2024.
ينبش عسراوي في التاريخ الفلسطيني وفي ذاكرته الشخصية أيضًا، ليعيد رسم حقبة الانتفاضة الأولى في وجه الاحتلال، البادئة عام 1987. ولتلك المرحلة تعقيدات كبيرة، أسهمت في صناعة تركيبة يمتد أثرها إلى اليوم في المجتمع الفلسطيني.
ولأن طفولتي أيضًا، تشكلت في تلك المرحلة، فإنني أعي تمامًا مقاصد عسراوي من السرد، والمشاهد والمحاكاة، وأظنه قام هو بسرد طفولتي مع الاحتلال تمامًا، بدون أن يلتقيني أو ألتقيه شخصيًا.
جسّدت الرواية ملامح اجتماعية متشابكة، وأصواتًا ثقافية غائرة، وعرضت بشفافية، كيف دار الترس الاجتماعي حينها، لينصف بعضًا من الناس، ويظلم آخرين.
ولست بصدد إعادة سرد تفاصيل الرواية، ولكنني سأعمل على تفكيك ما بناه عسراوي واللعب بعناصر سرده، بطريقة أخرى.
شغب
من خلال اللعب والشغب، وكسر القوالب، يصنع عسراوي حكايته. إذ يضع الاكتشاف طريقة لدى مجموعة من الأطفال لفهم ذواتهم، وتشرّب تعقيدات مجتمعهم، والذي تهجّن واختلفت صفاته بفعل الاحتلال. لقد لامس اليافعون الأربعة زياد وتميم وأيمن وجميل، بعقولهم، الجانب المتشقق، المتشرذم من لوح الزجاج، فجرحهم وجعل نشأتهم هجينة كما الآباء، فتفرّق الأطفال بسبب معايير حياة صنيعة المحتل.
ورد للذهن سؤال كبير حين فرغت من قراءة العمل، ما الذي أراد أن يقوله عسراوي؟ وهل كانت كتابة الرواية توثيقًا لحقبة من طفولته؟ أم كان يريد أن ينجو من غرق في تفاصيل كلما شدّ طرفها ارتدت لجلده بقوة كاوية، مثل من يشدّ طرف مغيطة بأصابعه ثم يتركها ترتد لجسده. وتساءلت أخيرًا، كيف أراد عسراوي أن يغلق الباب على إصبعه، بدون أن يتألم!
شعرت بقدرة عمله السردي على استعادة ضبط المصنع لجيل الثمانينيات، الذي بدأ وقتها يلتقط صور الحياة بتلك الطريقة، سلوكيات الانتفاضة الثورية، وحركة الجنود ودوريات المراقبة فوق أسطح المباني. فكان اللعب طريقة لاكتشاف الحياة عبر تأزيم حياة الجندي، ونزع الراحة من يومه، بأفكار طفولية، فيها من البراءة والانتقام العفوي، ما يرسم على الفم ابتسامة.
في الرواية الممتدة على 110 صفحات، سيعرف القارئ كيف كان يلعب الأطفال الفلسطينيون في بدايات الانتفاضة الأولى، وما الأدوات المستخدمة في اللعب. سيعرف أيضًا، كيف كان الطفل يرى الجندي المدجّج بالسلاح، يمر من أمامه، أو يقتحم منزله، فيصرخ خوفًا، وبعد دقائق يخرج للعب مرة أخرى. لكن كانت حيلة عسراوي أن أعطى خيط السرد للأطفال، يكتشفون حبكة العمر، وسببية الوجود، والوجود في هيئته الكبرى سرد أيضًا، حيث يعمل كرواية لا يتوقف شغفها.
شطرنج
في العنوان "اللعب بالجنود" فلسفة وإحالة تستهدف لعبة العقل والحياة والموت والإزاحة والطرد، فبتحريك العناصر، يتجدّد المعنى، وتتغير الوجهات والرغبات، ويتم انتزاع الشغف بذلك أيضًا. تلك حيلة صانع الشطرنج، يلتقطها عسراوي من عقول أطفال جيلنا الذي كان يلعب بالجنود بوضع الراديو التالف داخل كيس، وكان وضعه في منتصف طريق دوريات الجيش الإسرائيلي، لإثارة شبهة وجود مفرقعات أمامهم، هو لعبة تثير غضبهم، وتجهد فرق التفجيرات لديهم؛ لقد لعب الأطفال بالجنود، بدون أن يعرفوا بأنها تلك ذاتها هي لعبة الموت.
وفي حبكة الرواية تغيب نقط الالتقاء، التي يصل الجميع إليها، لكن كانت لكل شخصية نقطة وصول مختلفة، نظرًا لاختلاف وجهات الشخصيات واختلاف أعمارهم. أما ثيمة الغموض فارتبطت بشخصية ابتهال، الثلاثينية الموظفة في وكالة الغوث، التي عاشت في القرية هي وابنتها، ولاحق الصغار شباك غرفتها، وبقي عسراوي يسحب خيط حقيقتها حتى نهاية السرد، في حركة ذكية ومثيرة للفضول.
لطالما كان الاحتلال وما يزال حاجزًا أساسيًا في طريق الفلسطيني، ومهدّدًا لاستمراره، ومانعًا لحريته، فتقسيم الطرق وإغلاقها، يفرغ الحياة من صوتها الحر، ويسلب منها ثمارها.
ولقد اعتمدت الرواية الفلسطينية المعاصرة، ويأتي غسان كنفاني خير ممثل لها، بشكل أساسي على تلك الأزمات، متخذة الجانب المظلم في حياة الإنسان هنا، وإشكاليات الإنسان مع الاحتلال والتهجير والقمع والتنكيل والقتل، بالإضافة إلى محاولات البقاء والصمود على الأرض المقدسة.
وفي رواية عسراوي، كانت البراميل الإسمنتية إحدى نقاط ذلك السواد، والتي لطالما جسّدت علامة "قف"، في وجه الفلسطيني إذ تغلق الطريق، إذا أراد الجندي الإسرائيلي كذلك، وهي طريقة شهيرة للجيش المحتل لتعطيل الحياة في وجه الفلسطيني خلال الانتفاضة الأولى.
كما التقط عسراوي سلوكًا قمعيًا آخرًا للاحتلال في تلك الحقبة، فكثيرًا ما حدثت حالات الإغماء وتهيجات العيون، للفلسطينيين، بسبب رذاذ الفلفل الأسود في قنابل الغاز المسيّل للدموع الملقى من جنود الاحتلال، خلال المظاهرات الطلابية. تذكرت حين رأيت هذا، شرائح البصل التي كنا نضعها على الأنف، للتخلص من آثار تلك القنابل.
في تلك الحقبة كان الجندي الإسرائيلي هو من يحرّك يوم الفلسطيني على مزاجه، ويتحكم بحياة قرية بأكملها، في الضفة الغربية وغزة. فكانت جنين مسرح عمل الرواية، المدينة الثائرة دومًا بوجه المحتل، والتي تقدّم شبابها شهداء من أجل الحرية. تستحضر الرواية جدران المدينة الممتلئة بالشعارات الوطنية المناهضة للاحتلال، حيث ذكر منها "عاشت الانتفاضة"، "لا تمت قبل أن تكون ندًّا"، تلك التي كتبها الملثّمون، ببخاخات غازية ملونة، وأذكر هنا، كم أخرج الاحتلال أهل شارع الثلاثيني بغزة، من بيوتهم، في حملة لدهان الحوائط، ومسح تلك الشعارات، كنت أرى ذلك وأبتهج بعودة حائط منزلنا للون الأبيض، لكنه سرعان ما يمتلئ من جديد، ببلاغات الإضرابات وإيقاف الحياة بوجه الاحتلال.
خوف
ما يهم ذكره أيضًا في سرد عسراوي، اعتماده التلميحات حول سير الحياة إبان الانتفاضة، وطريقة تعامل الناس مع بعضهم، في ظل وجود آذان تحمل السر للجانب الآخر من النهر. فالثيمة الأكبر في المجتمع الفلسطيني وقتها، كانت الخوف، حيث كان الخوف يمشي في كل مكان، في المنزل، في الشارع، في الأشخاص، في الدم، وشغل المساحة الأكثر وضوحًا على الخارطة اللونية للمجتمع الفلسطيني، فقد كان وجود الاحتلال حاسمًا في تغيير تفكير الناس، وبقدر ما كان المجتمع الفلسطيني متماسكًا، بقدر ما كان مُنفضًّا، يعيش بداخله شرخ كبير اسمه: الخوف من الآخر.
بقي الجميع خائفين من الاحتكاك بعناصر الاحتلال الذين كانوا متغلغلين وقتها بين الناس، وكان كل من يحتك أو يجامل أو يحابي أو ينتفع من الاحتلال، يقع في مرمى كلام الجميع، ويحمل صفة الجاسوس، أو العميل، ويحمل فضيحة أخلاقية، يمتد أثرها على نسله وعائلته برمّتها. ولقد جسّد "المفيد" رئيس بلدية جنين شخصية هذا الجاسوس خلال سرد عسراوي.
أين تقف الشخصيات؟
هنالك أربع شخصيات شغلت زوايا سرد عسراوي، وحملت المربع الذي تخلص إليه العين في مشهد الرواية الأخير. كان الأربعة أصدقاء الطفولة، لكن الحياة لعبت لعبتها، والاحتلال أيضًا، كما يرى الكاتب، وغيّرت شكل ومضمون تلك الصداقة لطريقة أخرى، تسردها الرواية. أحد تلك الشخصيات، المفيد، والذي أود أن أسجل اعتراضًا على تسميته، حتى وإن برّرها الكاتب بأنها جاءت بسبب خدمة قدّمها المفيد لصديقه، فصار مفيدًا، وهو ما أتى متناقضًا مع فعله العام، وسلوكه، وسار عكس الصيغة السردية التي يهدف إليها عسراوي.
وجاء كلّ من أبو زياد وأبو تميم، ثاني الشخصيات وثالثها، وكأنهما حافظا على الهوية الفلسطينية، ومقدّما صورة وثقافة المجتمع وقتها، فكانت معظم أفكار عسراوي عن تلك المرحلة، لرسم شكل المجتمع، ترد على لسانيهما.
الشخصية الرابعة بقيت مجهولة، مخفية، وهو زوج ابتهال، حيث تركها عسراوي كأحد ألغاز السرد، ولم يتحدث عنها كثيرًا، بالرغم من تشكيلها لبّ تلك المرحلة، فكان الملثم، من أكثر الصور التي علقت في الذهن وقتها، وكان الملثمين الأكثر حضورًا في قصة تلك المرحلة، بمقاومتهم للاحتلال، وتحكمهم بسير المركب الاجتماعي، كحكومة ظل تعمل في وجود الاحتلال.
لعبة أخيرة
وكما لعبت شخصيات عسراوي اليافعة بالجنود، لعب هو بالزمن، عبر تغيير كل الإكسسوارات الروائية التي وضعها، وتجديدها، بعد تقديم أعمارها جميعًا خمسة عشر عامًا، حيث انسحب الاحتلال من الضفة الغربية وقطاع غزة، عام 1993، بعد اتفاق أوسلو، لكن عسرواي ينقل الحياة بكامل تفاصيلها إلى مرحلة نضالية ثانية في حياة الفلسطينيين، حين يعود زياد إلى جنين، بعدما أكمل دراسته الجامعية، معاصرًا للانتفاضة الفلسطينية الثانية في وجه الاحتلال. وفي هذه اللعبة الزمنية، أراد عسراوي التأكيد على أن الأزمات تتدحرج مثل كرة ثلج في حياة الفلسطيني وكلما تقدّم الزمن تكبر، وتصير أكثر إيلامًا للفلسطينيين.