صَدر حديثًا عن دار "مرفأ للثّقافة والنشر" بـيروت - إسطنبول، الدّيوان الشِّعري الأوّل للشّاعر العراقيّ علي صلاح بلداوي (مواليد 1996) تحت عنوان "ما أردتُ قَوله مِنَ البِداية". وقد سبق نشر العمل الأول ظهور قصائد وأعمال تشكيلية للشاعر في صحف عربية في السنوات الماضية.
وجاء في تقديمه:
تستفيد المجموعة من منجز القصيدة العراقية والعربية لابتكار لغة خاصة مكثّفة تنفتح على الفضاء العربي والإنساني وأسئلة الحرية وهاجس إسماع صوت الضحايا، حيث تمتزج - في المجموعة التي يهديها الشاعر إلى فلسطين - أصواتُ ضحايا التاريخ مع أصوات راهنة من العراق وغزّة وبيروت: "من أيِّ حديقةٍ في الأرضِ/ سَنختارُ شجرةً... لنصنعَ من خَشبها هذا العَمودَ/ الذي نفكِّرُ به أنا وأنت، عاليًا حدَّ أن يراه الضحايا/ من شُرفات الزمان البعيد".
بلغة شفّافة شديدة الانتباه للتفاصيل، يتتبع الشاعر أثر الإنسان المقهور والذات الإنسانيّة المُقاومة في شتّى ظروفها، بدءًا من بلده العراق ومحيطه العربي المتضرّر من السياسات الاستعمارية، ويسمّي بأداء شعري رفيع الأشياء بأسمائها: "باسم كلِّ النائمين تحتَ التراب/ سنعلّقك إلى غدٍ لن يصل/ وإلى مَساءٍ ممحوٍّ من دفتر الليل/ إلى حيثُ لا تاريخ/ ولا أزمان/ يا أميركا".
تحضر في العمل تجربة الشاعر الشخصية وبيئته وطبيعتها وأساطيرها وموروثها الشعبي وتجربة مدينته "بلد" (86 كم شمال بغداد) ولا سيما سيطرة التنظيمات الإرهابيّة على محيطها وقصفها بالقذائف وحصارها لستة أشهرٍ من قبل تنظيم داعش عام 2014. كل ذلك على خلفية بلدٍ دمّره الغزو الأميركي الغربي عام 2003.
تفتح لغة الديوان الشعرية آفاقه على التأويل وتلعب دورها في إغناء التّصورات وتحديث الرؤى تجاه العالَم عبرَ التفكير بما تقدّمه القصيدة وما تسعى إليه. لغة شعرية وفيّة للشعريّة العراقية والعربيّة التي لا تهبط للكلام العادي، ولا تتعقّد حدّ ضياع المعنى؛ لغة يتصاعد فيها التشابك بين الحياة والموت وتختلف إيقاعاتهما بين قصيدةٍ وأُخرى.
في مجمل القصائد هناك علاقة خفيّة مَرَّةً، وظاهرةً في أُخرى، بالمكان الواقعي والمُتخيّل، فالعديد من القصائد تُحيل إلى أمكنةٍ نعرفها من الاسم: بلد، بغداد، القدس، غزّة، بيروت، صنعاء، دمشق، وأمكنة غير مسماة نحسّ بها حين يؤثِّثها الشاعر بالتفاصيل الشخصيّة والجمعية. يكتب في قصيدة بعنوان "غزّة": "هؤلاء الصغار الذين ما استيقظوا من رقدةٍ/ تحتَ القبورِ الحجريّةِ/ صغاري/ وأنا أبٌ مشدوهٌ في قلبِ الليلِ/ والنّارِ/ والطائرات/ فقدَ من صغاره المئات/ ولا يعرف كيف يُقسِّمُ حزنَهُ بعدالةٍ".
يذكر أن علي صلاح بلداوي، حاصل على البكالوريوس في القانون، ويشتغل في الصحافة الثقافيّة والتصميم الغرافيكي، وإلى جانب مشروعه الشعريّ له مساهمات تشكيلية، كما يصدر عمله الروائي الأول ربيع العام القادم.
قصائد من أجواء الديوان
أُمَّةٌ من التائهين
تُطارِدُني أشباحٌ وأساطيرٌ
لم يَسمع بها أحد.
لستُ وحدي
على أرضٍ موعودةٍ بزهرةٍ بلا أشواك
في آخر الزَّمان
لستُ وحدي
أنتظرُ وصولَ الغائبِ الذي
رُبَّما ضَيَّعتهُ القِطارات
أو حَرَفَتْ مسارَه حصاةٌ، أو قُنبلة.
أنا أُمَّةٌ من التّائهين.
أسمعُ طوفان الأسى قادمًا
كأنَّ كلَّ دعوات الصالحينَ على الظّالمينَ
أخطَأتْ طريقها
فَوقعت
على
رأسي.
***
أمتلكهُ فَحسبْ
على صَخرةٍ في مكانٍ لم تَطَأْهُ الأقدامُ بعدُ
بنيتُ بيتًا:
من شُرفتهِ تَلمحُ انحناءةَ الأرضِ البَعيدة
ومن بابهِ الخلفيّ
تُشرِفُ على هِجرة النَّهر
وتلويحِ الغابةِ للرِّيح المُهاجِرة.
رَشَشْتُ عتَبَتَهُ
رغم أنَّ لا أحدَ سَيَعبُرُ فيشمُّ رائحةَ التُّراب.
زَيّنتُ البابَ بالرَّيحانِ
رغم أنَّ لا أحد سيطرقه.
على الطاولةِ في الحديقةِ:
تركتُ الكوبَ يَصّاعدُ منه البُخار
ليصيرَ غيمةً في الأعلى،
وكِتابًا يَشرحُ كيف تعتني بِجدرانِ البيتِ
حينما تكونُ من المدى،
والسَّقْفِ، حينما يكونُ مطرّزًا بالنجومِ البعيدة.
لي بيتٌ بنيتُه هناك
ولا مفاتيحُ تُثبتُ ذلك
إنَّني أمتلكهُ فَحسبْ
وهذا
ما
أردتُ
قَولَهُ
مِنَ
البِداية.
***
على حجارةٍ كأنَّها رأسي
أمطرقَتُكِ
هذهِ المرفوعةُ منذ أنْ نعقَ الغرابُ
على شَجرة البيت
وتمرَّغَ عصفورٌ بسحنةِ الفجر البارد وصمتهِ؟
أمطرقَتُكِ هذه التي تَنزلُ على حجارةٍ كأنَّها رَأسي
ورأسي في ضربةِ المطرقةِ صَلدٌ ولا يتهشَّم!
رُبَّما هي الساعةُ
تَجلد الوقتَ وتدفعهُ مُسرعًا
في بَراري الزَّمن الأغبر
رُبَّما هو الميزاب
يُقطِّرُ ماءً يتمنّى أن تكون له جرأة المِسمار،
ويحاولُ ذلكَ في ثَقْبِ غَفوتي
رُبَّما هم حفّارو قُبورِنا الذين لا نعرفهم ولا يعرفوننا
وأنَّ أرضًا سَنُدفَنُ فيها تنادينا.
أيُّ صوتٍ هذا إذن
وأيُّ رأسٍ صامدٍ منذ 1996
وحتّى هذه اللحظة
حتّى هذا الضرب
وحتّى هذا العِناد في التهشُّم.
أمطرقَتُكِ هذه،
يا أمَّةً تقف في الطابور على صخبي وهدوئي
وتضربُ
فيه
بلا
ملل!