"فلسطين موطن المآسي". لعل هذا ما يخرج به الصحافي والكاتب الإيطالي جيوفاني فيرغا، في كتابه "العيش في فلسطين: مشاهدات محايدة لصحافي إيطالي"، الذي صدر بالعربية (ترجمة دلال نصر الله) مزودًا بملحق صور فوتوغرافية بعدسته، عن منشورات تكوين في الكويت، صيف عام 2024، أي بعد عشر سنوات على صدوره بالإيطالية.
هذا الوصف تأتى من رصده لتداعيات جدار الفصل العنصري، والحواجز العسكرية، والعنف الاحتلالي اليومي، وجحيم العيش في مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين "الأقدم في العالم"، حيث يقيم ثلثا سكّان الضفة الغربية وقطاع غزة، وحيث العنف المتصاعد، وصعوبة الحصول على وجبتين يوميًّا. وفي المقابل، ثمة "حياة مدرّعة" في المستعمرات اليهودية، حيث يعيش المستوطنون على أراضي الفلسطينيين، وثمة أيضًا استخدام متصاعد من قبل "السلطات والقوات الإسرائيلية" لقطاع تكنولوجيا المعلومات في تعميق مأساة الفلسطينيين، الذين لا تخلو حيواتهم، رغم صعوباتها المتصاعدة يومًا تلو الآخر، من "روح المبادرة العظيمة" لشبابها ونسائها، الذين يشكلون غالبية تكوين الفلسطينيين ديموغرافيًّا، فالأدباء الذي يتملكهم الحنين إلى الأرض المفقودة، في المنافي الجوّانية على أرضهم وفي دواخلهم، والمنافي البرّانية جغرافيًا، يحظون، كما طلاب الجامعات، والمقاومون بطرق إبداعية على ما يستحقون من مساحة في هذا الكتاب الريبورتاجي.
انتصر فيرغا في كتابه الذي أهداه إلى غسان كنفاني باعتباره "كاتبًا فلسطينيًا عظيمًا وخالدًا"، للأصوات اليومية، التي تعلو نبرتها كما تصدح حناجرها من دون صراخ في متن السردية التصويرية للواقع، علاوة على أصوات أولئك الذين يكتبون عن لا دولة، أو كيان وعدوا به، وبات غير مرئي، وذا حدود غير واضحة، مثقوبة بالمستوطنات، وبرصاصات المستوطنين، الذين لم يحرقوا أشجار الزيتون فحسب، بل حولوا، كما جيش إسرائيل وقادتها، الضفة الغربية، وخاصة مخيّماتها، إلى مكان لا يستحضر "أصحابه" إلا مآسي النكبة المستمرة، في ظل حياة يومية رمادية تميل إلى السواد، بحيث يمكن وصف الكتاب بأنه مروية عن قصص أولئك الذين يعيشون خلف الجدار، وخلف الزمكان أيضًا.
ويرى فيرغا في مقدمة الطبعة العربية للكتاب أن القضية الفلسطينية عادت لتصبح "قضية كل القضايا"، فجأة، وبشكل مروّع، عالميًا، بسبب "التطهير العرقي الذي يتعرّض له سكان قطاع غزة"، معيدًا التأكيد على أن قرار بناء جدار الفصل العنصري، الذي يُسميه "الجدار العازل"، أدى إلى القضاء "على أي إمكانيّة للحوار، كما أدّى أيضًا إلى خلق قطيعة نهائيَّة بين الشّعبين"، مشددًا على أنه "في تلك اللحظة تحديدًا، نشأ الفصل العنصري مع الشعب الفلسطيني، وتزايد إدراك الأجيال اللاحقة بعدم وجود خيار: إمّا الرحيل، أو المقاومة بالسلاح".
ويؤكد الصحافي الإيطالي أن كتابه هذا "ليس كتابًا معتادًا عن ظروف أهل غزّة المعيشيّة المُحزنة، بل هو رحلة في نطاق الجِدار لفهمهم، ومنح صوتٍ لأبطاله... أناس عاديّون، فلسطينيون مسلمون ومسيحيّون"، ولكنّه يتطرق أيضًا إلى المقيمين في المستوطنات على سبيل المثال، لأنّهم الأكثر إشكاليّة وإثارة للتساؤلات، وتبيَن أنهم يختلفون عما يروجه إعلامهم عنهم، متسائلًا في ختام مقدمته: "ماذا عن العرب الفلسطينيين؟ كم شخصًا منّا يعرف أولئك الذين عاشوا على هذه الأرض لألفي عام تقريبًا، وما هي هويتهم وثقافتهم؟ لقد همّشت هذه الحرب المستمرّة ذكراهم، رغم أنّ لثقافتهم تاريخًا قديم، ومكانة رفيعة في الأدب والشِعر تحديدًا".
ويحتل الحديث عن الأدب، والشِعر خاصة، الفصل الأول من الكتاب المُعنون بـ"رجال تحت الشمس"، إحدى روائع كنفاني، بادئًا إيّاه بمقطع من قصيدة جبرا إبراهيم جبرا "في بوادي المنافي"، وجاء فيها: "أرضنا فلسطين خضراؤنا كالرسم على بُرْد النساء أزهارها... أي أرضنا، حيث صِبانا قد تقضّى حُلمًا في ظلال البرتقال، بين لوزات الوهاد... اذكرينا الآن مطوّقين بين أشواك القفار، مطوّفين في صُمّ الجبال".
وأشار فيرغا إلى أن الشعراء الفلسطينيين يتميّزون عن الشعراء العرب الآخرين، فهم بلا وطن، وبما أن الوطن حدثٌ جوهريّ في الذاكرة الجمعية، فمن الطبيعي أن يتكرر هذا الموضوع في قصائدهم، وبتفرّد، متحدثًا عن شِعر المنفى الفلسطيني الذي شكّل، في رأيه، "حالة نادرة في العالم الشعري نتيجة حجمه وطول مدّته"، واصفًا إياه بـ"جنسٍ شعريّ توجّهه الذاكرة الجمعيّة التي وجّهها بدوره".
وضرب الصحافي الإيطالي في هذا المجال عددًا من الأمثلة، كالشاعر محمود درويش، والشاعر سميح القاسم، والشاعر عبد الكريم الكرمي، والشاعر يوسف عبد العزيز، والشاعرة سلافة حجاوي، التي انتقلت رفقة زوجها الشاعر العراقي إلى بغداد مغادرة مدينتها نابلس، متحدثًا عن قصيدتها "حكم إعدام"، قبل الإسهاب في الحديث عن كنفاني، مقارنًا بينهم جميعًا وبين حنين شعراء صقلية المنفيّين، كابن حمديس، وأبي الحسن البلنوبي، مع أمثلة من إبداعاتهم في هذا الإطار، وتحليل تأثيرها عليهم وعلى المتلقي، وردود فعل "السلطات الإسرائيلية عليها".
وفي الفصل الثاني، "الجدار: عشرة أعوامٍ من الفصل"، يتحدث فيرغا عن جدار الفصل العنصري، مع تسليط الضوء على نماذج لشباب فلسطيني مبدع، خاصة من طلاب الجامعات والباحثين، وبينهم فادي، الذي يدير متجرًا للحواسيب وملحقاتها، وأيمن مهندس الكمبيوتر، وإياد المهتم بإدارة الموارد للشبكات المتسامحة مع الاضطراب، أي توفير الطاقة وعرض النطاق التردّدي والتخزين لشبكات الرصد: الزلازل، وحفر آبار النفط تحت مياه البحر، وتلوث المحيطات، ومجالات أخرى.
وينطلق الصحافي الإيطالي من حكاية طالبة طب الأسنان الفلسطينية "ميرا"، التي تعيش في إحدى ضواحي القدس، ليسلط الضوء في فصل كتابه الثالث "البطاقة الزرقاء" على معاناة أهل القدس من الفلسطينيين بسبب السياسات التميّيزية الإسرائيلية، وتفاقهما ما بعد عام 2000، ليعود إلى توثيق الأدب لهذه المعاناة كما في كتاب "شارون وحماتي" لسعاد العامري، قبل أن يعود بنا عبر حكاية جدّة "ميرا" إلى نكبة يافا "الغنيّة، والمزدهرة... لؤلؤة فلسطين"، التي تحولت "مسرحًا لأشرس المعارك" عام النكبة، معرجًا على القوانين العنصرية التي برزت مع إعلان دولة إسرائيل، وبينها قانون "أملاك الغائبين"، لافتًا إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول بن غوريون، ووزير ماليته إليعازر كابلان، قررا "الحصول على أصول وممتلكات اللاجئين الفلسطينيين الذين هُجّر معظمهم إلى الدول العربية المجاورة، ولم يُستثنَ والد جدّة ميرا، الذي امتلك مئتي دونم من الأرض، من القانون الذي أفقده إيّاها".
وفي كل فصل يستشهد فيرغا بالأدب الفلسطيني، وهنا يتحدث عن قصة "أرض البرتقال الحزين" لكنفاني، وقصة "عام آخر" لسميرة عزام.
وفي الفصل الرابع، "تهجير المسيحيين"، يلاحق الصحافي الإيطالي حكاية "الأب فراس" المولود في الأردن، وراعي قرية عابود المسيحية القريبة من رام الله، غير مغفل التطرق للحواجز العسكرية والإجراءات التعسفية عليها، وللاستيطان المتصاعد عند حديثه عن القرية، وعن الشباب الفلسطيني المتسلح بالأمل، والذي أنشأ مشروع "الصابون"، الذي يدعم المجتمع المحلي في إنتاج الصابون المصنوع من زيت الزيتون الذي تنتجه الأسر منزليًا، وبطريقة فردية، أو عائلية.
تحدث الصحافي الإيطالي مع الأب فراس طويلًا عن تاريخ المسيحيين في فلسطين، والذي حذّر من تناقص عددهم في الأراضي المقدسة، وبأن "هنالك خطرًا في اختفائهم كمكوّن فلسطيني على المدى الطويل"، غير مهمل الحديث عن التواجد المسيحي الفلسطيني في قطاع غزة.
وفي الفصل الخامس للكتاب يبدأ فيرغا باقتباس لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال حفل غرس أشجار في إحدى المستوطنات اليهودية بالضفة الغربية مطلع عام 2010، جاء فيه: "رسالتنا واضحة: نحن إذ نزرع شجرة هنا، نؤكد أنّنا باقون هنا، سنبني هنا، وأنّ هذا المكان جزءٌ لا يتجزّأ من دولة إسرائيل إلى الأبد".
وفي الفصل الموسوم بـ"دير ياسين، دير ياسين: قصص المستوطنين"، يتحدث مؤلف كتاب "العيش في فلسطين" عن الاستيطان في الخليل، والتغول الحاصل في هذا الاتجاه، وعن مجزرة غولدشتاين في الحرم الإبراهيمي، قبل أن يزور مستوطنة "ألون شفوت"، وتعني "بلوطة العودة"، رفقة مستوطن يهودي إيطالي، وهي جزء من "كتلة استيطانية ضخمة تتكون من 15 مستوطنة تسمى غوش عتصيون"، مُستعيدًا مقولة بن غوريون ذات مرّة: "إذا كانت هناك قدس يهودية اليوم، فإن الشعب اليهودي مدين بالامتنان أولًا، وقبل كل شيء، للمدافعين عن غوش عتصيون".
وفي حواره مع المستوطن من أصول إيطالية، وكان أربعينيًا وقت تأليف الكتاب، ويعمل في المكتبة الوطنية بالقدس، سأله فيرغا: أليست هذه أرض فلسطينية، فرد أرييل: نعم، لكنها كانت دائمًا غير مأهولة فعليًا!
وتطرق الصحافي الإيطالي لصرخة "دير ياسين"، التي لاحقت سكان "غوش عتصيون"، متحدثًا أيضًا عن المجزرة، فقبل "شهر واحد من ذبح سكانها فجرًا، هاجمت القرية مجموعة شبه عسكرية متطرفة من اليهود الصهاينة، بمن فيهم أعضاء ما يعرف بعصابة شتيرن... قيل إن عدد مرتكبي مذبحة دير ياسين مئة شخص من الميليشيات، وبحسب بعض المؤرخين، رُكّب مضخّم صوت على مُدرعة، لتحذير القرويين وإبلاغهم بضرورة إخلاء منازلهم قبل العملية... قال أحد أفراد الميليشيات إن أحدهم صرخ بالعربية، وطلب أن يلقي السكان أسلحتهم ويهربوا... يقول أرييل: لا نعلم إذا سمعونا، لكننا نعلم أن تلك التحذيرات لم تسفر عن نتيجة".
ويواصل فيرغا السرد: تظاهر العرب الباقون بالاستسلام، ثم واجهوا العدو بإطلاق نار كثيف. لم تتوقع الوحدات اليهودية هذه المقاومة... هربوا من منزل إلى منزل، تاركين بعض موتاهم على الأرض... كانت العملية مكلفة من ناحية الأرواح البشرية، ثم بدأ خبراء المتفجرات عملهم، فجروا البيوت واحدًا تلو الآخر بالديناميت... أطلقت الميليشيات الصهيونية النار على كل شيء يتحرك حتى فترة ما بعد الظهيرة... كانت مذبحة استهدفت المدنيّين... وُضع 25 ناجيًا في شاحنات وطيف بهم في شوارع القدس، ثم أعدموهم بإطلاق الرصاص على رؤوسهم... يختلف العدد التقديري للضحايا، فحسب مصادره بين 100 إلى 120، لكن اكتشف وجود جثث مشوهة، بينما ألقيت جثث أخرى في مقابر جماعية وآبار، والأدهى من ذلك كان استغلال المجزرة لترويع السكان الفلسطينيين في القرى، ودفعهم إلى مغادرة ديارهم".
ولفت: منذ تلك اللحظة، اعتمدت المقاومة صيحة "دير ياسين"، تمامًا كما حدث بعد شهر واحد في "غوش عتصيون" التي تضم مستوطنة "ألون شفوت"، في إشارة حسب المُترجمة إلى عملية "كفار عتصيون" التي نفذتها القوات العربية في 12 مايو/ أيار 1948، قبل أن يتجه إلى التوصيف القانوني والواقعي للمستوطنات باعتبارها غير شرعية، وتسيطر على غالبية مقدّرات الفلسطينيين، وخاصة المياه.
وفي الفصل السادس والأخير: "لاجئ منذ سنة 1948"، يوثق الصحافي الإيطالي زيارته إلى مخيم "عايدة" في بيت لحم، رفقة الأب بيير جورجيو، الذي "يعيش في الشرق الأوسط منذ خمسين عامًا"، مستعيدًا حواريته مع اللاجئ عبد المجيد محمد أبو سرور، الذي كان عام 2014 في عمر التاسعة والسبعين، كما حكاياته هو المولود في "بيت نتيف" المُهجرة عام 1933، وحيث كان دير "بيت الجمال"، وهو جزء من التاريخ المسيحي الساليزياني الطويل في فلسطين، حسب الأب جورجيو، متحدثًا عن تاريخ الساليزيان في فلسطين، وعن الفلسطينيين اللاجئين، وحول مداهمات العصابات الصهيونية، وقتل المدنيين من أصحاب الأرض، في واحدة من قصص التهجير الفلسطينية "المطمورة في التاريخ".
ونجح صاحب "العيش في فلسطين"، إلى حد كبير، في استكشاف الشعب الفلسطيني وجذوره والتعرف إليها، وتمكينه من بسرد قصته بنفسه.