}
عروض

الاستشراق الإسباني وإشكال فتح العرب للأندلس: بين النفي والإثبات

عمر شبانة

12 ديسمبر 2024


يتناول كتاب "فتح الأندلس في الاستشراق الإسباني المعاصر: ما بين النفي والإثبات" للباحث د. يونس المرابط (دار أفريقيا- المغرب، 256 صفحة، 2023) مسألة في غاية الأهميّة، مسألة تتمثّل في سؤال ما إذا كان دخول المسلمين إلى إسبانيا عملية "فتح" أم "غزو"؟

يأتي الكتاب ليسلّط الضوء على أهمّ المجالات المعرفيّة المتعلقة بالأندلس التي استأثرت باهتمام الدارسين الإسبان المعاصرين، مع التركيز على موضوع فتح الأندلس ما بين إثبات هذا الحدث البارز في تاريخ شبه الجزيرة الإيبيريّة خاصّة، وفي تاريخ أوروبّا عامّة، وبين نفيه، وليجيب على إشكال هذا الفتح؛ هل تمّ بقوّات عسكرية منظمة؟ أم أن الفتح هو أسطورة لا أساس لها من الصحّة؟ ويعمل الباحث على المقارنة بين أطروحتين معاصرتين تجاذبتا هذا الموضوع نفيًا وإثباتًا، تتمثل الأولى في رؤية الإسباني إيميليو غونزالث فرين، في حين يمثّل الرؤية الثانية أليخاندرو غارثيا سان خوان، ومناقشة كليهما وغيرهما كذلك. وسنحاول عرض وجهتَي النظر ولو باختصار، فالأفكار كثيرة ومتضاربة جدًّا.

بحسب تقديم الدكتور محمد العسري، أحد الخبراء في الاستشراق الإسباني، فإن المؤلف (المرابط) يقوم في كتابه هذا بتفكيك أطروحات الدراسات الإسبانية المعاصرة "التي تذهب إلى أن إسبانية، أو بالأحرى شبه الجزيرة الإيبيرية، قد تحوّلت إلى الإسلام نتيجة غزو المسلمين لها، وحملهم أهلها على دينهم ولغتهم وثقافتهم، أو التي تنكر حصول ذلك الغزو، وتفسّر هذا التحوّل بعوامل أخرى..". كما أن الكتاب يتابع دراسة أهمية الأندلس في الاستشراق الإسباني، ويتعلّق الأمر بتناول الباحثين الإسبان لمسألة غزو المسلمين لإسبانيا، حيث إن الغالبية العظمى منهم تذهب إلى أن المسلمين قد غزوا بالفعل هذه البلاد، وحتى أنّ بعض الباحثين المسلمين قد ذهب إلى أن المسلمين فتحوا "عنوة" جهات عدة من الأندلس. وهي أمور قيد الدراسة.

غزو أم فتح؟

يعالج المؤلّف فكرته الأساسية في بابين اثنين. يركز في الباب الأول على "فتح الأندلس في الدراسات الإسبانية المعاصرة"، عبر فصلين أيضًا، يتناول الفصل الأول تعريفًا بالأندلس، وأهم المواضيع التي اهتمّ بها المستشرقون الإسبان المعاصرون، في حين يخصص الثاني للتعريف بأهمّ المصادر التاريخية التي اعتنت بدراسة فتح الأندلس، سواء المصادر العربية أو اللاتينية. أما الباب الثاني فيتعمّق المؤلف من خلاله في التعريف بأطروحة إنكار "الفتح" وإثباته، بمناقشة المقولات المتناقضة في هذا الإطار. ويختم بجمع النتائج التي توصّل إليها، واقتراح آفاق جديدة للبحث بمواضيع مرتبطة بالوجود الإسلامي في الأندلس.

منذ البداية ينظر المؤلّف يونس المرابط إلى الأندلس بوصفها فضاءً جغرافيًّا أوّلًا، كما أنها تمتد في الوجود الإسباني فتشكّل حضارة وثقافة وتاريخًا عريقًا يضرب بجذوره عميقًا في شبه الجزيرة الإيبيرية، رغم محاولات محو هذا التاريخ على امتداد التاريخ، ومن مفكّرين كثر، كما يقول المرابط، أمثال كلاوديو سانشيز ألبورنوث، الذي "ينطلق من فكرة أن إسبانيا المسيحية رفضت الإسلام دائمًا كديانة دخيلة، وحاربته إلى أن تمكنت من استرجاع هويّتها الوطنية على يدي الملكين الكاثوليكيين إيزابيل ملكة قشتالة وفرناندو ملك أراغون"، في حين يرى أميريكو كاسترو أن الإسلام كانت له مساهمة كبيرة في صنع هوية إسبانيا، ولم يكن "آخرَ" مختلفًا عن الذات الإسبانية، بل "كان جزءًا لا يمكن أن يتجزّأ عنها". والشاهد على ذلك الحضارة الأندلسية التي لا يمكن إنكارها، حضارة قامت في حين كانت إسبانيا وأوروبا تعيش عصور الظلمات، وهو ما يشهد به الأوروبيون... ويستشهد المؤلف بقول توماس أرنولد وألفريد غيوم "لا يمكن إنكار الحضارة الرائعة والحياة الاقتصادية المنظمة اللتين أقامهما مسلمو إسبانيا...".

وجهات نظر متصادمة

أحد المؤسّسين لأطروحة إنكار الغزو الإسلامي لإسبانيا، إغناسيو أولاغوي فيدلة، يرفض مقولة أن تخلف إسبانيا يعود إلى الغزو الإسلامي، فبعد بحث طويل ينتهي إغناسيو إلى أن المسلمين لم يكونوا غزاة لنشر دعوتهم ودينهم، ويستدلّ على ذلك بما أجمع عليه المؤرّخون، ويقدم صورة خاصة لكيفية انتشار الإسلام وثقافته بين الإيبريين، والعوامل التي أسهمت في التغيير، ولا علاقة لها بالغزو المزعوم. بل إنه يؤكد على دخول أهل الجزيرة الإسلام، و"اتخاذهم الثقافة العربية مكوّنًا أساسيًّا من مكوّنات هويّتهم في مطلع القرون الوسطى".

ويعتقد عدد من المؤرخين الإسبانيين والغربيين أيضًا، أن مسألة الغزو ليست سوى أسطورة اخترعها وروّجها بعض "الإخباريّين االقدماء"، بينما حقيقة ما اكتشفه البعض منهم هو أن انتشار الإسلام وثقافته، هو كون الإيبيريين لم يكونوا على النصرانية الكاثوليكية، بل كانوا يدينون بالنصرانيّة الـ"أريوسية" التي ترفض عقيدة التثليث، وتتشبث بالنصرانية الأصلية القائمة على عقيدة التوحيد. وهو ما سمح لهؤلاء النصارى بأن يمتزج الإسلام بها طيلة مدّة ليست قصيرة، قبل أن يتحوّلوا كليًّا للعقيدة الأسلاميّة بعد استيعابها. ويستدلّ أولاغوي على رؤيته هذه بشواهد منسيّة أو مهمَلة من التاريخ الدينيّ والفكري والفني والمعماري للجزيرة.

ومن وجهة نظر نقيضة، يتبنى البعض نظرية الغزو، ويمثلهم ألخندرو غارسية سان خوان في كتاباته وحواراته التي تنقض نظرية أولاغوي وأمثاله، وبحسب مقدمة العسري فإن سان خوان تمكن من خلخلة بعض الأدلّة في نظرية أولاغوي التي تُنكر "الغزو"، وظل الجدل بينهما، وقد وقف مؤلّف الكتاب الذي نحن في صدد مراجعته، يونس المرابط، على قسم هامّ من السجالات العلمية والمشاحنات بين المؤرخين والجامعيين، وناقش حجج الفريقين في كتابه هذا، وهنا تكمن أهمية الكتاب، فضلًا عمّا يتضمنه من سؤال حول علاقة الهوية الإسبانية وخطابها بمسألة غزو المسلمين من عدمه، وبيان أن تيار سان خوان هو الغالب والمنتشر بين الإسبانيين وطوائفهم ومؤسساتهم العلمية.

من الخاتمة          

لعلّ من أبرز ما يختم به المؤلف كتابه هذا، التأكيد على الحضور الإسلامي/ العربي، وأهميّة هذا الحضور في تاريخ إسبانيا خصوصًا، وتاريخ أوروبا عمومًا، وهو حضور حضاريّ استمرّ اكثر من ثمانية قرون (711م- 1492م).، وتشهد عليه الروايات التاريخية العربية واللاتينية، فضلًا عن الشواهد المادية من آثار وقطع نقدية وأختام رصاصية، وأبحاث أركيولوجية وحفريات مستمرة حتى أيامنا هذه، ومعلومات ودراسات لا تتوقف، وخلاصات تتعلق بالخصائص وحتى المميزات والصفات البيولوجية للشعوب التي عبرت من شمال أفريقيا إلى العالَم كله وليس إسبانيا فقط. كما يؤكد الباحث عمق هذا الحضور، وتأثيره في تكوين مختلف مقوّمات هويّة الأمة الإسبانية وحياة السكان هناك. وهو ما يعترف به الأكثرية من المؤرخين والمفكرين، باستثناء من يحملون أيديولوجيا التمركز على الذات دينيًّا وعرقيًّا.

بل إن المؤلف لا يتورّع عن الحديث حول ما يسمّيه "شرقًا أليفًا"، وذلك نقلًا عن الكثير من الباحثين والدارسين الإسبان، ومن ذوي الاختصاصات المتعددة، ومختلف المجالات المعرفية؛ في التاريخ والجغرافيا والأدب والفنون والزراعة والعمارة... خصوصًا أن موضوع الأندلس يشكّل سؤالًا أساسيًّا في الدراسات الإسبانية المعاصرة، وذلك بالنظر للارتباط الوثيق بها بالنسبة إلى الإسبان عمومًا، وللدارسين منهم بصورة خاصة، حيث ركزوا على هذه السمة المميّزة للأندلس وحضارتها العربية/ الإسلامية، مع قدر من التنوّع والتعدد في جوانب الاهتمام المتعلق بها. وما يزال هذا الاهتمام مستمرًّا.

وإلى ذلك، وأخيرًا، لا ينكر المؤلّف أن هذا "الفتح"، "تمّ عن طريق عبور عسكريّ منظّم من شمال أفريقيا إلى الضفّة الإيبيرية، واشتباك عناصر أفريقية عربية وأمازيغية مع عناصر إيبيرية قوطيّة"، ولكنه يضيف أن "هذا العبور سبقته ورافقته وجاءت بعده، وعلى مدى سنوات، هجرات كثيفة أدّت إلى الاستقرار في أرض شبه الجزيرة الإيبيرية، واختلاطها وتزاوجها مع العناصر المحلية، مما نتج عنه تأثير وتأثر بين الطرفَين". كما يلفت الباحث إلى مسألة التعايش بين المسلمين العرب من جانب، ومختلف الانتماءات الدينية والإثنية الإسبانية من جانب آخر، مع أن ثمة دراسات لا تتوقف عند هذه الحقيقة: التعايش الناجم عن سماحة الإسلام ومبادئ العيش المشترك واحترام معتقدات الغير... إلخ.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.