لا شك في أن قراءة كتاب "تاريخ الجزائريين في بيت المقدس وفلسطين" للكاتب والباحث الفلسطيني إبراهيم باجس عبد المجيد المقدسي، البسيط والسهل والممتع، توضح وتجيب عن أسئلة كثيرة حول طبيعة الموقف الصارم الذي اتخذته الجزائر، دولة وشعبًا، تجاه ما حدث منذ اندلاع حرب غزة، مقارنة بغيرها من الدول العربيَّة.
من ناحية أخرى، يمكن الاستناد إلى الكتاب كمدخل لفهم أكبر وأعمق للحقائق والصلات والروابط التاريخيَّة بين البلدين، والتي لا شك في أنها ألقت بظلالها على الحاضر. كما تنبع أهميته من ضرورته البالغة للقارئ العادي، المهتم بالمعرفة العامة، والمحب للتاريخ تحديدًا. أيضًا، للمهتمين بالقضيَّة الفلسطينيَّة عمومًا، والعلاقات الجزائريَّة الفلسطينيَّة خصوصًا. إذ ثمة الكثير من الحقائق والمعلومات والوقائع التاريخيَّة المهمة الواردة فيه.
لا يتحدث الكتاب عن مجرد تعاضد عربي، أو تضامن سياسي، أو مشاركة من منطلق إنساني بين شعبين، بل عن امتزاج مستمر لعقود وعقود. هذا الامتزاج لم يكن قاصرًا أبدًا على الدم فقط، أو بالأحرى على الجهاد مع صلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين وانتهاء بالقضيَّة الفلسطينيَّة فحسب، بل يمتد إلى ما هو أكبر وأعمق. سواء على مستوى التاريخ المشترك في عمومه، أو الثقافة والعادات الاجتماعيَّة والدينيَّة، وأيضًا فيما يخص بعض الممارسات اليوميَّة وحتى الأطعمة أو الأكلات. صحيح أن الكتاب لم يتعمق كثيرًا فيما يخص الاحتكاك الثقافي واللغوي والاجتماعي، وأيهما تأثر بالآخر أو نقل له عاداته وتقاليده وإلى أي مدى، والتعمق في تلك النقاط تحديدًا، لكن ثمة ما يمكن أن نستنتجه بخصوص هذا النقص.
يؤكد الكاتب في مقدمته على أن ثمة الكثير من التقصير، حتى من جانب الجزائريين أنفسهم، فيما يتعلق بالكتب والدراسات والأبحاث المنشورة للتعريف والكشف عن تاريخهم فيما يخص الشأن الفلسطيني، وفرادة العلاقات التاريخيَّة هذه. والاقتصار أو التركيز على موضوعات مثل أوقاف الجزائريين في فلسطين، أو الهجرات خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين... إلخ. لذا، حاول المؤلف، قدر استطاعته، وفي ضوء المراجع المتاحة والمتوفرة واستحالة إنجاز المهمة بمفرده، التعويض عن هذا التقصير. مثلًا، محاولته المنقوصة التطرق إلى الدور أو الوجود الجزائري في العهدين الأيوبي والمملوكي، أو أوائل العهد العثماني في فلسطين. أيضًا، ذكره لأهم الأعلام والعلماء، والوظائف والمهن والصنائع، والحياة الاجتماعيَّة للعائلات والأسر، في مختلف أنحاء فلسطين. مع مروره، بالطبع، على بعض المحطات التاريخيَّة المهمة، وذكر أشهر الأوقاف، مثل وقف أبي مدين الغوث أو حارة المغاربة.
يوضح الكاتب والباحث إبراهيم باجس أن من بين أكبر العقبات والصعوبات التي واجهته، وستواجه أي باحث في تاريخ الوجود الجزائري القديم في فلسطين، الامتزاج والانصهار الجزائري في عموم المغاربة. حيث جرى إطلاق لفظ مغربي على كل من جاء إلى فلسطين من بلاد المغرب العربي الكبير. بالطبع، هناك من قدم من المغرب وتونس وليبيا وغيرها. لذا، صار من الصعب جدًا التمييز والفصل بينهم، حتى في حالة العودة إلى الأصول أو الأنساب المرتبطة بالمدن أو البلدات التي قدموا منها، مثل تلمسان، وبسكرة، وقسنطينة وغيرها، أو حتى في حالة تحدرهم من عائلات جزائريَّة كبيرة.
المثير، أيضًا، أن ثمة من آثر منهم الانصهار في المجتمع الفلسطيني. وعزف، في ظل الأخوَّة العربيَّة والإسلاميَّة، عن الانتساب أو التكنّي بكنيات أو أنساب ترجع لبلدات أو مدن أو عائلات بعينها. يضرب المؤلف المثل بالمناضلة الشهيدة دلال المغربي، فهي مغاربيَّة، لكنها جزائريَّة الأصل، من تلمسان. أو كاتب سمى نفسه "صلاح المغربي"، كتب كتابًا عن أصول عائلته الجزائريَّة في "جرجرة"، ورحلتها إلى الكرمل، تحت عنوان "من جرجرة إلى الكرمل"، وغيرها من الأمثلة الدالة. من هنا، كان التنويه إلى أن مصطلح المغاربة يعني عادة المغرب الكبير، أي ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.
في الفصل الأول، "هجرة الجزائريين إلى فلسطين"، يؤكد الكاتب على أن الوجود الجزائري في فلسطين ليس حديثًا كما يظن البعض، أي، بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر وتهجيرهم مع الأمير عبد القادر. مؤكدًا على أن الأمر يمكن تلخيصه في ثلاث مراحل: مرحلة من شاركوا في تحرير بيت المقدس مع صلاح الدين. ومرحلة من هاجروا بعد الاحتلال الفرنسي، وتلك المرحلة يقسمها إلى أربع موجات: بدأت أولاها في عام 1847، وكان آخرها في الفترة بين 1900 و1920. وكان عدد المهاجرين إلى فلسطين بعد الاستعمار الفرنسي يقدَّر بعشرين ألفًا. أما المرحلة الثالثة، فكانت بعد الاستعمار البريطاني، وكانت بالأساس بغرض الجهاد ضد المستعمر البريطاني، ثم المحتل اليهودي.
وبعيدًا عن الطابع الديني الأساسي للهجرات فقد كان لها، أيضًا، دوافع أخرى عديدة، سياسيَّة واقتصاديَّة وتعليميَّة. ساعد على هذا الاستفادة مما يعرف بأوقاف المغاربة، تلك التي كانت للجزائريين وعموم المغاربة، والموقوفة عليهم تحديدًا، ما سهَّل عمليات السفر والانتقال والإقامة والدراسة، وحتى العمل بالتجارة. وكيف أنه تدريجيًا، باتت بعض المهن حكرًا على المغاربة المستقرين في المدينة، مثل حراسة الأسواق وسعاية البريد والدلالة وتمهيد الطرق. وإن امتهنت الغالبيَّة العظمى منهم الفلاحة أو الزراعة أو الرعي، وغيرها من المهن ذات الصلة، التي أفرد لها الكاتب فصلًا بذاته.
اللافت، فيما يتعلق بالدور الراسخ ومدى الانصهار المتحقق للجزائريين في المجتمع الفلسطيني، أن الوجود الجزائري كان منتشرًا على امتداد التراب الفلسطيني من شماله في منطقة الجبل وإلى جنوبه في غزة. وهؤلاء جاءوا من مختلف بقاع الجزائر. من بسكرة وذوات وتبسة وتلمسان، أي، من الحدود التونسيَّة وحتى الحدود المغربيَّة. وعلى مر السنين، أقاموا قراهم ومجتمعاتهم الخاصة المزدهرة. ووصل الأمر إلى نجاحهم مثلًا في حل مشكلات ونزاعات كثيرة، وحتى حالات اقتتال داخلي، كانت بين الفلاحين والبدو في قرى عديدة، خاصة في الشمال.
أيضًا، يركز الكاتب على الوجود الجزائري منذ أيام الأمير عبد القادر في مناطق وأماكن بعينها، مثل قرية "عولم" في طبريا وغيرها، وأسباب التوطن فيها. وكيف أنه في مناطق الشمال تحديدًا كان الصدام الأول المسلح على أرض فلسطين للجزائريين ضد الاستيطان الصهيوني، حيث سقط أول الشهداء منهم. وكيف أفشلوا مشروع استيطان عكا الصهيوني، وجعلوهم يتجهون إلى يافا، بعيدًا عن القرى الجزائريَّة. ويذكر الكاتب كيف استقبل الفلسطينيون توافد أهل الجزائر والمغاربة عمومًا، وسمحوا لهم بالإقامة والعيش وامتلاك الأرض، بينما لم يقبلوا بهذا أبدًا بالنسبة للمستوطنين الصهاينة. بدورهم، كيف خاض الجزائريون معارك ضارية للدفاع عن قراهم وأراضيهم. كان من أشهرها تصديهم لمحاولة الاحتلال تجفيف بحيرة "الحولة"، وتحويل مجرى نهر الأردن، ووقوف عائلة الكبير الجزائري للجيش الإسرائيلي، حتى الرمق الأخير، ما استدعى تدخل الأمم المتحدة في الأمر.
بالطبع، كان الجزائريون في الجليل أول من نكَّلت بهم وانتقمت منهم العصابات الصهيونيَّة عام 1948، وهدمت قراهم التي تملكوها، ثم هجَّرتهم منها. خاصة أولئك الذين تمسكوا بأراضيهم وبالدفاع عنها، ولم يغادروها أو يبيعوها تحت وطأة الحصار والضغط والتجريف، وأيضًا إثقالهم بالديون الربويَّة. وكيف أن العديد منهم تخلوا عن الجنسيَّة الفرنسيَّة بعدما ساومتهم السفارات الفرنسيَّة على أراضيهم في فلسطين بغية منحها للجمعيات الصهيونيَّة، رغم وعدهم بتعويضات سخيَّة وأراضٍ في سهل البقاع بلبنان.
صراع الهويَّة هذا خصَّه الكاتب بفصل تحت عنوان، "المهاجرون الجزائريون وصراع الهويَّة"، والتنازع بين الهويَّة الجزائريَّة والفلسطينيَّة والعثمانيَّة والفرنسيَّة وحتى البريطانيَّة، وهذا لعقود طويلة، حملت فيها بعض العائلات أكثر من جنسيَّة، وتعرضت قراهم للهجوم حتى من العثمانيين بحجة كونهم رعايا لفرنسا. وإن كان الأمر، في النهاية، لم يسلم من بعض ضعاف الأنفس الذين رضخوا وباعوا، وتركوا قراهم، وكان الكثير منهم ضحايا لصراع هويات فرضت عليهم ولم يختاروها. ويذكر الكاتب، بدافع الحياد والإنصاف والأمانة التاريخيَّة، بعض النماذج، بالأسماء والأماكن والمساحات، وكيف أن القسم الأكبر كان في طبريا، ولملكيات أبناء وأحفاد الأمير عبد القادر الجزائري. وكيف تفرق جزائريو فلسطين أو الكثير منهم وعاشوا في شتات آخر ما بين الأردن وسورية ولبنان جراء هذا.
واستكمالًا لهذا الفصل الطويل والمفجع في التاريخ الجزائري الفلسطيني يورد الكاتب خريطة للقرى الجزائريَّة في الشمال الفلسطيني. مع ترتيب سردي لأسماء القرى التي مسحت ودمرت بفعل الصهاينة، لوقوفها مع المجاهدين الفلسطينيين أو انتقامًا ممن رفض بيعهم أرضه. مع ذكر موقعها ومساحتها وتعدادها السكاني وأبرز العائلات وبعض الملابسات الخاصة بها. ومنها: بيريا، والتليل، والحسينيَّة ودلاتة، وديشوم، وسمخ، وشعَّارة، وعمُّوقة، وعولم، والكساير. إضافة إلى هذا، يذكر تواجدهم ببعض المدن والقرى الأخرى، مثل صفد ويافا والناصرة والخليل واللد والرملة، وطبعًا في القدس. وكيف عاشوا في حارة المغاربة لقرون، وكيف هدمها الصهاينة فوق رؤوسهم بعدما رفضوا مغادرتها، ويذكر بعض الأسماء، وذلك في أعقاب حرب عام 1967.
الفصل الثالث، "أوقاف الجزائريين في بيت المقدس وفلسطين"، يتناول فيه بالتفصيل الأوقاف المغاربيَّة في فلسطين، سواء في بيت المقدس أو غيرها، وبالأخص الجزائري. ماهيتها وطبيعتها وأنواعها وتاريخ وقفها، وهل هي لأفراد أو غيره، وأيضًا تلك الخاصة بالنساء وتحمل أسماءهن. وتلك الواقعة خارج بيت المقدس، كما في غزة مثلًا. حتى أنه يذكر أن ثمة أوقافًا مقدسيَّة في الجزائر، أنشأها وأقامها الجزائريون في بلدهم لتكون رافدًا لدعم بيت المقدس وأهله وصمودهم. وأنها من بين نماذج وأمثلة للأوقاف المقدسيَّة خارج مدينة القدس. وفي نهاية الفصل، يحث الكاتب أهل الجزائر على المطالبة باسترداد أوقافهم وأملاك آبائهم وأجدادهم من الصهاينة، والمطالبة بتعويض الجزائريين الفلسطينيين عما لحقهم من أذى وقتل وتهديم قرى وتهجير.
ثم، في خمسين صفحة تقريبًا، يذكر المؤلف أعلام الجزائر، في فصل بعنوان "أعلام الجزائريين في بيت المقدس وفلسطين". وفي آخر موجز، تحت عنوان "الحياة الاجتماعيَّة للجزائريين في فلسطين"، يعرج سريعًا، مع الأسف على تلك القضيَّة المهمة والحيويَّة جدًا. وإن كان قد ذكر أن "الكسكس" من بين الأطعمة التي حرصوا على طبخها، والمعروف في فلسطين باسم "المفتول"، وأنهم كانوا يعدونه في المناسبات مع حلوى يسمونها البغرير، أو ما يشبه القطائف الآن.
في السياق ذاته، يلفت الأنظار إلى الجالية التي استوطنت الجليل، وكيف أنها لم تكن متجانسة إثنيًا ولغويًا، مثلًا. إذ، منها العربي والأمازيغي، وغيرهما، لكن أفرادها عاشوا في وحدة وحفاظ على الهويَّة والأبعاد الثقافيَّة والاجتماعيَّة، كالملبس وعادات الزواج والطعام. وكيف أن أهل الشمال من الجزائريين ظلوا يتكلمون البربريَّة حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومثلًا، توظيف الأمازيغ للهجتهم الخاصة كشيفرة في دعم المجاهدين ومساندتهم ضد المستعمر البريطاني والعصابات الصهيونيَّة. كما يذكر الجمعيات المغاربيَّة والجزائريَّة التي تأسست في عموم فلسطين. ويختتم بدور هذه الجمعيات، حتى تجاه أفراد الجاليات الجزائريَّة المهجَّرة في الأردن وسورية ولبنان، والحفاظ على الترابط الاجتماعي وتقديم يد العون والمساعدات فيما بينهم.
في فصل بعنوان، "مهن الجزائريين في فلسطين"، نعاين بخلاف الوظائف والمهن المعروفة وظيفة مثل، شيخ المغاربة، وكان آخرهم محمود بن أحمد المصلوحي حتى وفاته عام 2019. أو القائم على نظارة أوقاف المغاربة. وهذا بعيدًا عمن قاموا بأدوار مثل نسخ الكتب أو شغلوا مناصب علميَّة من تدريس وإفتاء وقضاء، وأخرى إداريَّة خدماتيَّة.
وفي فصل "جهاد الجزائريين في فلسطين" يذكر أن المجاهدين على أرض فلسطين كانوا ثلاثة أقسام: من ساهموا في تحرير بيت المقدس مع صلاح الدين أثناء الحروب الصليبيَّة. ومن جاءوا مع الأمير عبد القادر فرارًا من الاستعمار الفرنسي أواخر القرن التاسع عشر. ومن تطوعوا للجهاد في أرض فلسطين ضد المستعمر البريطاني والاحتلال الصهيوني. وأنهم جاءوا من كل مكان تقريبًا، من تبسة في الشرق وحتى تلمسان في الغرب، ومن وهران في الشمال إلى توات في الجنوب.