}
عروض

عن مذكرات سليمان النابلسي (4/4): لماذا مُنعت من التداول؟

هاني حوراني

17 ديسمبر 2024


إقالة حكومة النابلسي

في مقدّمة سرده لحادثة الزرقاء (13 أبريل/ نيسان 1957) أو ما عُرف بالمحاولة الانقلابية، والتي يقول سليمان النابلسي إنها كانت "حادثة مبيتة"، يعرج على استقالة حكومته، فيقول إن الملك بعث رئيس ديوانه (يوم 10 أبريل/ نيسان 1957) ليطلب منه الاستقالة، وقد اعتبرها إقالة. وجاء في ختام ردّه على رسالة الملك: "ولما كنت رجلًا ديمقراطيًا أتقيّد بنصوص الدستور، فما عليّ إلا أن أستجيب، ولذلك أقدّم إليك هذه الاستقالة التي هي بمثابة جواب على إقالتي، راجيًا قبولها" (ص 279).

يكشف النابلسي في مكان آخر من مذكراته (ص ص 285/284) عن محاولة أخرى، سابقة لإقالة حكومته، وإن لم يذكر تاريخ تلك المحاولة. يقول النابلسي: "أتذكر هنا أن الملك حسين كان يريد التخلص مني عندما ذهبنا إلى اجتماع التضامن العربي في القاهرة. جاءني من يقول بأن الملك حسين يريد أن يستبدلك"، وينقل على لسان الراوي قول الملك: "على أي شيء شايف نفسه سليمان النابلسي؟! سآتي برئيس وزارة له نفس الشعبية التي لسليمان، وله نفس الاتجاهات التي لسليمان النابلسي، ونخلص من هذا الرجل".

يعود النابلسي ليقول: "نسيت الحادث. وفي يوم كنت بمكتبي في رئاسة الوزراء، وجاء حكمت المصري وأحمد طوقان، وطلبا مني أن ننزل إلى فندق فيلادلفيا، وطُلِبَ مني ألا ينزل معي بقية الإخوان، فقلت من يأتي؟! فقالا: يأتي عبد الحليم (النمر) وشفيق (ارشيدات)، ويتابع: نزلت إلى الفندق وذهبنا إلى غرفة أحمد طوقان، وإذا هناك الدكتور حسين الخالدي ينتظر قدومي.

(...) يقول الدكتور الخالدي موجّهًا الكلام لي: "أنت تعرف أنني أقدّرك وأحترمك وأقدّر جهادك ونضالك، ونحن في خط واحد وطريق واحد. لقد أرسل ورائي الملك حسين وطلب مني أن أؤلف الوزارة، وقد استأذنت الملك حسين أن يعفيني، وقلت له إن هذه حكومة وطنية جيدة في تسيير الأمور على خير وجه، والشعب معها والجيش معها، ولا داعي لتغييرها. فأصرّ على إجراء التغيير، وطلب مني أن أؤلف الحكومة، لكني اشترطت عليه هذا الشرط. وهو: إذا وافق الحزب الوطني الاشتراكي على أن يتعاون معي في هذه الوزارة فأنا أؤلفها، وإذا لم يقبل فأنا أرفض هذا التكليف. وأنا آت لأسألكم هذا السؤال: هل أنت على استعداد لأن تعطوني وزراء منكم لنعمل منهم حكومة بخطاكم واتجاهاتكم نفسها؟"".

فكيف أجاب النابلسي على هذا الطلب؟ يقول في مذكراته:
"دون أن أستشير الإخوان الحضور من أعضاء حزبه (حكمت المصري وعبد الحليم النمر وشفيق ارشيدات وأنور الخطيب) قلت له: لا. لا اعتباطًا ولا استعلاء، أو لأننا وطنيون أكثر منك، وإنما أنا لن أسمح للملك حسين أن يلعب الطابة برؤوس الساسة في هذا البلد. لا نسمح له بأن يلجأ إلى هذا الأسلوب (...) فكان من الأولى للملك أن يدرس الوضع معي لايجاد مخرج للقضية، وأنت تشترط شرطًا غير وارد. ونحن لن نسمح للملك بتجاوز رئاسة الوزراء".

بنبرة غاضبة يتابع النابلسي روايته، ويقول: "أنا يا دكتور حسين خارج من نقاش برلماني حام، أخذت الحكومة 39 صوتًا من 40، هذا (التكليف) من الملك خروج على أبسط قواعد الديمقراطية... بأي حق يأتي بك ويقيلني؟".

وهنا ربط النابلسي بين ما سمعه من أحدهم عن رغبة الملك في التخلص منه، وبين دعوته للدكتور حسين الخالدي لتأليف حكومة جديدة. ويضيف النابلسي "وعلمت أن الملك استدعاه من القدس إلى قصر المصلى في الشونة، وقال له ’حضّر حالك، فقد نستعين بك في وقت قريب’، وبعد شهرين استدعاه وكلّفه بتأليف الحكومة". وتنتهي رواية النابلسي بقوله "خرج الخالدي وذهب إلى القصر وحَدَّث الملك بما جرى معه واعتذر له عن التكليف، فقبل الملك هذا الاعتذار" (ص 286).

إثر استقالة النابلسي اجتمع قادة الأحزاب المؤتلفة في مكتب الحزب الوطني الاشتراكي، حيث قرّر هؤلاء البحث عن حل وسط يحمي مكاسب الحركة الوطنية، يُبقي على الصلات مع القصر، واتفق على شخص عبد الحليم النمر، لتشكيل الحكومة المقبلة، فهو حسب تعبير النابلسي "شخص متزن وحكيم لديه تجربة، ويتمتع بسمات الزعامة في البلاد". "وبدورهم دعا قادة الجيش، علي أبو نوار وعلي الحياري ومحمد المعايطة، إلى اجتماع في معسكر العبدلي، حضره العديد من أقطاب السياسة، في مقدمتهم سعيد المفتي، ولم يحضره أحد من الحكومة المقالة أو قادة الائتلاف الحزبي، حيث اتفق في الاجتماع على تكليف عبد الحليم النمر برئاسة الحكومة الجديدة. وذهب سعيد المفتي إلى الملك وقال له: ’إن الجيش يطلب تكليف عبد الحليم النمر بتشكيل الحكومة الجديدة’، وقد وافق الملك، حيث استدعى النمر في اليوم التالي وطلب إليه تشكيل الحكومة".

وفي الوقت الذي كان النمر يستعد لتأليف الوزارة الجديدة، وقعت حادثة الزرقاء، حيث تمرّد الجنود ضد معن أبو نوار، قائد اللواء، الذي كان يجري تدريبًا على مناورة عسكرية، وقد اتهم ضباط صف أبو نوار بمحاولة إبعادهم إلى منطقة خو النائية للانقلاب على الملك، وتوجهوا إلى عمان لمنع الانقلاب المزعوم. وعندما علم الملك حسين باندلاع التمرّد وتبادل إطلاق النار في معسكر الزرقاء، توجّه مع علي أبو نوار، رئيس أركان الجيش، إلى الزرقاء، وفي الطريق تعرّف الجنود المتمرّدون على علي أبو نوار، وكادوا يفتكون به، فأرجعه الملك بسيارة إلى القصر، وأكمل طريقه إلى الزرقاء، حيث خطب في الجنود الثائرين، وطمأنهم على سلامته، وشكرهم على وقفتهم هذه.

بعد تمرّد الزرقاء فشلت محاولة تشكيل حكومة عبد الحليم النمر، واتفق على عقد مؤتمر وطني في القصر، وفي 15 أبريل/ نيسان 1957 كلّف حسين فخري الخالدي بتشكيل الحكومة الجديدة. وقد ضمّت ثلاثة رؤساء حكومات سابقين هم: سعيد المفتي وفوزي الملقي وسليمان النابلسي، وقد كُلّف الأخير بحقيبة الخارجية والمواصلات. ولم تستمر الحكومة طويلًا، حيث استقالت تحت الضغط الشعبي، ولا سيما دعوة مؤتمر نابلس إلى الإضراب العام.

من اليمين: معن أبو نوار- علي الحياري- حسين فخري الخالدي- حكمت المصري


النابلسي تحت الإقامة الجبرية

يصف النابلسي في الفصل السابع والأخير الأجواء القاتمة التي سادت البلاد بعد إقالة حكومته، ومن ثم إقالة حكومة الخالدي التي خلفتها، والتي لم تتح لها فرصة المثول أمام البرلمان حتى يمنحها الثقة. ويقول: "نحن كحزب سياسي يشعر بمسؤوليته تجاه بلده وأمته، يريد استقرارًا للبلاد يحقق لها الهدوء ويحمي المكاسب التي حققتها الحركة الوطنية خلال السنوات 1955-1957 تركنا الأمور تجري على الطريقة الديمقراطية"، فبعد أن قبل الملك استقالة حكومة الخالدي كان يفترض أن يأتي بأي شخص من المقرّبين له (لتشكيل حكومة جديدة)، والمهم أن يلجأ هؤلاء إلى البرلمان من أجل الحصول على ثقته وممارسة الحكم تحت إشرافه وهيمنته ورقابته. لكن هذا لم يحدث" (ص 286).

يُذكر هنا أن حكومة إبراهيم هاشم التي تشكلت يوم 24 أبريل/ نيسان 1957، أي في اليوم نفسه الذي استقالت فيه حكومة الخالدي، قد أعلنت الأحكام العرفية فورًا، وفرضت نظام منع التجول على كافة المدن في ضفتي الأردن، وذلك ردًا عل مقررات مؤتمر نابلس (1957/4/22) الذي دعا إلى سحب تأييد الأحزاب بحكومة الخالدي، وإلى الإضراب العام والتظاهر. هذا ولم تلبث أن قامت حكومة هاشم بحل الأحزاب السياسية القائمة، رافعة غطاء الشرعية عن الحزب الوطني الاشتراكي وبقية أحزاب المعارضة.

وعلى الرغم من أن سليمان النابلسي لم يتعرّض في الأيام الأولى لإعلان الأحكام العرفية للاعتقال أو المضايقة، حيث لازم بيته، إلا أن الجيش نزل إلى الشارع، وكان معبّأ للصدام مع المواطنين، ويروي كيف أدّت الأحكام العرفية إلى إشاعة الإرهاب واعتقال المواطنين لأقل شبهة، كما أدت إلى مضاعفة عدد العاملين في المخابرات المدنية والعسكرية حتى وصل عددهم، حسب النابلسي، إلى عشرين ألفًا، و"أصبح الرعب والإرهاب سائدين".

وضع النابلسي في الإقامة الجبرية، بعد أيام قليلة من الحرية، ويقول: "لم يعد يسمح لي بالخروج لأن الشرطة أمام بيتي، ومنعت من الزيارات ومنع أي شخص من زيارتي حتى أهلي وأقاربي وأخوتي".

ويصف كيف أن ابنه، الذي كان طالبًا، كان يُفتش يوميًا عند ذهابه للمدرسة وعند عودته وحين يخرج بعد الظهر. وكيف أن الجنود المكلفين بفرض الإقامة الإجبارية عليه وصل أذاهم إلى الجيران، مما اضطره إلى الانتقال إلى بيت آخر. يقول النابلسي: "كان الجنود كثيرًا ما يدخلون منزلي ويفتشونه ويقلبون الأثاث والملابس في كل غرفة ثم يخرجون".

خلال إقامته الجبرية في المنزل، أصيب النابلسي بالفتاق، وسبّب له هذا آلامًا مبرحة، وبعد وساطات عديدة مرّت بالحرس إلى وزير الداخلية ومن ثم رئيس الوزراء وقائد الجيش (!!) سمح له بالانتقال إلى مستشفى الهلال الأحمر، حيث خصّصت له غرفة فيه للإقامة فيها كسجن انفرادي لمدة 15-20 يومًا، كان يعاني خلالها من آلام الشديدة. ويصف كيف نقل بعربة مغلقة تحتوي على نافذة ضيقة (10 × 10 سم) وأعيد إلى بيته بذات الطريقة، وخلال الذهاب والإياب، يقول النابلسي، "لم أر مخلوقًا في شوارع عمان".

وبعد سلسلة من التداعيات حول ما مرّ به أثناء إقامته الجبرية لمدة تزيد على أربع سنوات، يقول النابلسي: "كانت حياة الاعتقال في المنزل طويلة ومضنية، كان بعض الحراس أناسًا بلا خلق ولا شرف"، ويورد أمثلة عن ذلك، بعضها مضحك ومثير للسخرية، مثل إشاعة أطلقها عادل بكمرزا ونسبها إلى المخابرات التركية (وكان بكمرزا مرافقًا عسكريًا للنابلسي خلال فترة رئاسته للحكومة، وألّف بعد ذلك كتابًا تشهيريًا به). ومفاد الإشاعة أن الحكومة المصرية سوف ترسل طائرة لتحرير النابلسي وتهرب به من منزله، وهو ما دفع السلطات إلى إحاطة منزل النابلسي بمئات الجنود "لمدة أسبوعين أو أكثر" (ص 294).

يتهم النابلسي الشريف ناصر بن جميل، خال الملك حسين، ووالدة الملك زين، بأنهما المتسببان بالمضايقات التي مرّ بها خلال إقامته الجبرية في منزله، ويستذكر كيف أنه وقف في وجهها في عهد حكومته، عندما حاولت أن تتصرف "كما لو أنها الحاكمة الفعلية في البلد"، وحال دون أن تتدخل في شؤون الدولة، و"أنه لم يسمح لأحد بأن يزاحم الملك حسين على حقوقه الدستورية" (ص 295).

والواقع أن الفصل السابع مليء بالاسترسالات والتداعيات حول أحداث مر بها، أثناء حكومته أو حكومة الخالدي، ومنها حادثة لجوء علي الحياري، رئيس أركان القوات المسلحة، إلى سورية، بعد أيام من تعيينه بهذه الرتبة من جانب حكومة الخالدي، وحلول حابس المجالي في هذه الوظيفة. ويسرد ما يعرفه عن المحاولات الانقلابية التي تتالت ونسبت إلى الأخوين صادق الشرع وصالح الشرع ود. رفعت عودة، وكذلك إلى العقيد عبد الله المجلي الخريشة.

من اليمين: حابس المجالي- كمال ناصر - نعيم عبد الهادي- سعيد المفتي


أثناء إقامة النابلسي الجبرية في بيته شكّل هزاع المجالي حكومته الثانية (1959-1960)، وما يلفت الانتباه هنا هو تغيّر موقف النابلسي من هزاع "الذي استفاد من تجربة حكومته الأولى وتلقى دروسًا أثبتت له أن السلطة وحدها لا تكفي، وأنه من الواجب أن يحصل على دعم شعبي". ولفت نظره موقف المجالي الذي نادى بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال أو الانفصال عن الأردن، لو شاء ذلك، "وهذا شيء جديد لم يسبق إليه أحد".

يختم النابلسي مذكراته بنوع من التقييم لرجالات الحركة الوطنية الأردنية. وهو يستهل ذلك التقييم بامتداح الحركة الوطنية الأردنية التي يراها "رائدة وقائدة ومثالية في صبرها واحتمالها"، فلم يكد يمضي عقد من السنين بهذا التعذيب والبطش والقتل السجون والمعتقلات وقطع الأرزاق والتهديد بالموت والنفي عن الوطن، ما لبثت هذه الحركة عندما وجدت متنفسًا بسيطًا، إلا ونهضت من جديد وقارعت وقاومت ودافعت عن الشعب، و"قادته إلى آفاق جديدة في التحرر والاستقلال" (ص 304).

يضيف النابلسي: "وكانت الحركة الوطنية الأردنية بعد عام 1957، بعد أن امتلأت السجون بالمعتقلين والمعتقلات الذين تجاوز عددهم الألفين من مناطق المملكة كافة، وخاصة في الضفة الشرقية، واحتمل المعتقلون ما احتملوه، من ضباط ومحامين ومهندسين وأطباء ونقابيين ونواب وعمال ومعلمين وطلبة وبقية أفراد الشعب".

واضطر قسم من قادة الحركة وبعض الشباب الذين كانوا يخشون على أنفسهم من التعذيب إلى مغادرة البلاد. "غادر بعضهم مثل إخواننا البعثيين لأن لهم مراجع وركائز في بلدان عربية عديدة، فذهبوا من أجل العمل المشترك، واضطر بعضهم مثل رجال الحزب الوطني الاشتراكي إلى البقاء هناك في المنفى، مثل أخينا الكبير المناضل الأستاذ شفيق ارشيدات (...) وبعد ذلك لحق به نعيم عبد الهادي وسعيد العزة وكمال ناصر (...) وفي سورية تجمّع اللاجئون السياسيون الأردنيون في مجموعات. كان هناك الدكتور عبد الرحمن شقير ويحيى حمودة وعبد الله الريماوي وعبد الله نعواس وكمال ناصر وعشرات من الشباب المثقفين".

ويرى النابلسي أن سورية كانت تساعد بعض جماعات المعارضة الأردنية وتهيئ لهم السلاح ووسائل النقل والنفقات، لكن هذه الجماعات ربما كانت مصدر إزعاج للسلطات الأردنية، لكن ما كان لها أثر في تغيير الأوضاع الداخلية. وختم النابلسي كلامه بحكم صريح بعدم جدوى اللجوء السياسي في الخارج، "في بلد له أوضاع مثل أوضاعنا"، وأنه لا بد من اعتماد أساليب أخرى، لا سيما "النضال في البلد والتصدّي للأذى واحتمال المكاره، مما يعطي شعبنا قوة ودعمًا واندفاعًا أكثر بكثير من بيانات وخطابات تذاع في الإذاعة والتلفزيون من بلدان أخرى، من أناس يجلسون في أمان واستقرار".

كما أن اللجوء إلى الخارج أعطى أسلحة أشهرتها الحكومة في وجه الحركة الوطنية، مثل قولها إن هؤلاء "مأجورون لسورية ومصر والعراق، وإنهم عملاء يتقاضون الرواتب ومأجورون من أجل تخريب البلاد"، ويقر النابلسي بأن مصر قدّمت الأموال إلى الضباط المعتقلين في السجون لإعالة أسرهم، وبأن بعض هذه الأموال كانت تذهب إلى معتمدين فاسدين، يلعبون القمار بها!

خاتمة

بعد هذه القراءة المستفيضة لـ "مذكرات الرئيس سليمان النابلسي"، والتي حرصنا فيها على تغطية أهم محتوياتها نشير هنا، سريعًا، إلى بعض الملاحظات والاستنتاجات التي خرجنا بها:

1- ينتمي كتاب "مذكرات الرئيس سليمان النابلسي" إلى ما يعرف بـ"التاريخ الشفوي"، وهو بالرغم من العنوان الذي يحمله، أقرب ما يكون إلى السيرة الذاتية المروية شفويًا، والتي قام د. علي محافظة بتسجيلها وتحريرها. ولست أعرف سبب إطلاق صفة المذكرات عليها، فهي ليست مذكرات مدونة على يد صاحبها، أي سليمان النابلسي، حيث إن النص يعبّر عنه السطر الثاني من عنوان الكتاب، أي "حديث شفوي أجراه معه وحرّره د. علي المحافظة".

والواقع أن انتماء الكتاب إلى فئة التأريخ الشفوي لا ينتقص من أهميته، بل إنه، بهذه الصفة، يتمتع بمواصفات تضفي عليه قيمة خاصة، حتى وإن انطوت، في المقابل، على بعض العيوب أو النواقص. فمن الناحية التاريخية تكمن أهمية الكتاب في أنه يمثل وثيقة كاشفة لشخصية سليمان النابلسي، نشأته، خلفيته العائلية، تعليمه، ثقافته السياسية، طباعه وسماته القيادية. وهو بهذا المعنى وثيقة تاريخية هامة ما كان من الممكن أن نحصل عليها، لولا مبادرة د. علي محافظة إلى تسجيل سيرة النابلسي وروايته عن تجربته السياسية. وتزداد أهمية هذه الوثيقة الشفوية أن النابلسي، حسبما نعرف، لم يترك وراءه مذكرات مدونة عن حياته ومسيرته السياسية. وبهذا المعنى فإن هذه السيرة الشفوية، أو المروية، على لسان صاحبها تعوّض بعض الشيء عن غياب مذكرات مدونة بقلمه.

2- يلاحظ قارئ سيرة النابلسي، كما رواها د. محافظة، وحافظ على روحها ولغتها، أنها اتّسمت بقدر كبير من العفوية والتلقائية، بل بالصراحة، والتي لا تحدّها ضوابط أو حسابات مسبقة. فقد أدلى النابلسي بروايته هذه عن حياته وتجربته، وهو في سن متأخرة، أي في وقت لم تعد له طموحات سياسية تلجمه أو تحدّ من صراحته. وهو الأمر الذي دفع أحفاده، بعد أن باتوا جزءًا من "سلالة سياسية"، إلى إبداء تحفظاتهم على نشر أقوال جدهم بحق عدد من الشخصيات السياسية، مراعاة لمشاعر ورثة تلك الشخصيات، الأمر الذي اضطر د. علي محافظة، إلى حذف مجموعة من الأسماء التي تعرّض لها النابلسي في روايته الشفوية، بناء على طلب أولئك الأحفاد.

وأغلب الظن أنه لو قيّض للنابلسي فرصة مراجعة روايته الشفوية، كما سجّلها له د. محافظة، لقام بتنقيحها وتخفيف لهجتها. لكن النابلسي توفي مباشرة، بعد إدلائه بها، ولم تسنح له، من ناحية أولى، فرصة استكمال روايته لسيرته، حيث توقفت عند مطلع الستينيات، كما لم يتمكن من مراجعة ما أملاه في سيرته المحكية، أو إعادة صياغة بعض الفقرات والعبارات التي صدرت عنه والتي قد تكون موضع جدل، سواء للتوضيح أو الإضافة أو الحذف. ومن المرجح أن د. محافظة لم يجد بدوره أن من حقه أن يقوم بتشذيب رواية النابلسي، وتخفيف منسوب الصراحة فيها، وهكذا يجد القارئ أن سليمان النابلسي في سيرته هذه لم يوفر أحدًا من خصومه من الغمز واللمز، بل إنه تعرّض بالنقد لأفراد في الأسرة المالكة في الأردن، ولبعض الضباط الأحرار، ولا سيما علي أبو نوار، وحتى بعض رفاقه من قادة الأحزاب الوطنية.

تعرّض الكتاب إلى المصادرة والمنع من قبل "هيئة المرئي والمسموع" في الأردن حيث أبلغ الناشر بقرار منع دخول الكتاب المذكور أو توزيعه في الأراضي الأردنية


3- تنبع أهمية سيرة سليمان النابلسي، كما دوّنها د. محافظة، من أنها ألقت ضوءًا كاشفًا على شخصية سياسية استثنائية، تمرّست بالعمل العام مبكرًا، حيث انخرط منذ شبابه في النضال السياسي ضد المعاهدة الأردنية - البريطانية الأولى لعام 1928، وشارك في نشاطات التشكيلات السياسية، الشبابية والحزبية مثل "عصبة العمل القومي"، وقاد أثناء دراسته الجامعية "جمعية العروة الوثقى" في الجامعة الأميركية ببيروت، وساهم في تأسيس "الحزب العربي الأردني" و"الجبهة الوطنية"، وأخيرًا تولى قيادة "الحزب الوطني الاشتراكي". وإلى جانب تجربته السياسية وثقافته الواسعة، فقد تدرّج في الوظائف الحكومية، من معلم مدرسة إلى موظف في وزارة المالية وديوان رئاسة الوزراء إلى وزير وسفير، ما أهّله للعب دور رجل الدولة والزعيم السياسي، صاحب الشخصية الكاريزمية المؤثرة، وقائد للحركة الوطنية الأردنية منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي.

والواقع أنه، وجرّاء هذه الخصال، لم يكن مستغربًا أن يستشعر النابلسي أنه منذور للعب هذه الدور القيادي، ولذلك قرّر، في نهاية الأربعينيات، أن الوقت قد حان للاستقالة من الوظائف الحكومية والتفرغ للعمل السياسي والحزبي (انظر ص 133).

وهكذا استطاع مبكرًا أن يجمع من حوله نخبة سياسية مثقفة، شاركته في تشكيل العديد من الأطر السياسية التي قادت إلى ولادة الحزب الوطني الاشتراكي في عام 1954، إذ سبقته تشكيلات أخرى مثل "الحزب العربي الأردني" و"الجبهة الوطنية". وقد ضمت النواة الرئيسية لتلك التشكيلات عددًا من النواب التقدميين الذين توفرت لديهم خلفيات عائلية واجتماعية نافذة ومؤهلات مهنية متقدمة. وقد توسعت تلك النواة بعد وحدة الضفتين، لتضم بدورها شخصيات تتمتع بالنفوذ الاجتماعي والمؤهلات المهنية التي سمحت لها، حتى قبل تشكيل الحزب الوطني الاشتراكي، بالوصول إلى البرلمان.

4- تظهر سيرة النابلسي، كما رواها للدكتور محافظة، مدى اعتداده بنفسه، وسرعة غضبه وحدّته، إذا ما تم تجاوز دوره، ومكانة المؤسسة التي يمثّلها، فقد بادر، عام 1955، إلى دعوة قيادة الحزب الوطني الاشتراكي إلى فصل هزاع المجالي من الحزب لمخالفته قراره المعارض لحلف بغداد.

بل إن النابلسي لم يتورّع عن التهديد بالاستقالة عندما تجاوزه الملك حسين وكلّف بهجت التلهوني، رئيس الديوان الملكي، بنقل رسالة إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

ولقد تسبّب هذا الاعتداد المفرط للنابلسي في خلق فجوة بينه وبين الملك حسين، الأمر الذي انتهى إلى محاولة الملك إبعاده عن منصبه كرئيس حكومة واستبداله بشخصية أكثر ليونة منه، خاصة وأن الملك حسين كان، بدوره، يسعى لبسط سلطته المطلقة، بعد أن تخلص من "غلوب باشا"، من خلال عملية "تعريب" قيادة الجيش الأردني.

ومن الملفت أن الملك الراحل لم يبادر إلى إعادة النابلسي إلى مؤسسات الحكم، في الوقت الذي قام فيه بـ"توزير" العديد من معارضيه، لا سيما من الضباط الاحرار. وفي أحسن الأحوال تم ضم النابلسي إلى عضوية مجلس الأعيان.

والواقع أن الوثائق البريطانية عن تلك الحقبة تظهر أن المسؤولين الإنكليز كانوا يميّزون ما بين النابلسي وبعض أعضاء حكومته من المتشدّدين، وأنه كان يمكن الوصول معه إلى "حلول وسط" بشأن المساعدات الأميركية للأردن و"مبدأ أيزنهاور". لكن مناخات الحرب الباردة في العالم، وفي الشرق الأوسط، كانت تحول دون عودة النابلسي إلى الحكم مرة أخرى.

5- ربما كان الأمر الوحيد الذي يضعف هذه الرواية الشفوية لحياة سليمان النابلسي، هو خلوّها من التحقيق والتدقيق التاريخي في الأحداث التي يرويها، في هذه السنّ المتأخرة لصاحب السيرة، حيث كان من المفترض عدم الاكتفاء بمجرد تعريف الأشخاص الذين ورد ذكرهم في سيرة النابلسي، وهو جهد ليشكر عليه د. عبد الله العساف، لكنه بكل تأكيد لم يكن كافيًا.

ذلك أن تحقيق الكتاب وتعزيز دقة سرديته الشفوية بنوع من الإسناد التوثيقي للوقائع، من خلال تحقيق خلفية هذه الوقائع سياقها وتأريخها، بدلًا من تركها مروية على سجيّة المتحدّث. بقدر ما هي مهمة شاقة بقدر ما هي ضرورية، حيث نجد أن رواية النابلسي في الفصول الأخيرة من سيرته، ولا سيما في الفصل الأخير منها الذي يحمل عنوان "الانقلاب على حكومة النابلسي"، يتخللها الكثير من الشطط والانتقال من موضوع إلى آخر، ليس له علاقة بعنوان الفصل.

وأخيرًا...

من المؤسف أن الكتاب الذي نحتفي بصدوره وعرض محتوياته هنا تعرّض إلى المصادرة والمنع، من قبل "هيئة المرئي والمسموع" (وهي المؤسسة التي حلت محل "دائرة المطبوعات والنشر")، حيث أبلغ الناشر ماهر الكيالي، مدير المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بقرار منع دخول الكتاب المذكور أو توزيعه في الأراضي الأردنية.

وهكذا فإن الزعيم الراحل سليمان النابلسي عاد ليعاقب بعد وفاته بنحو نصف قرن، كما عوقب في حياته، حيث زجّ في السجن 17 مرة، وأقيل من رئاسة حكومة منتخبة من البرلمان بعد أقل من نصف عام على تشكيلها، ووضع قيد الإقامة الجبرية لسنوات طويلة، قبل أن يستعيد حرية الحركة. وهو أمر مستهجن في عهد يرفع راية "التحديث السياسي".

لكن مصادرة كتاب "مذكرات الرئيس سليمان النابلسي"، لم تمنع "رابطة الكتاب الأردنيين" من إقامة حفل إشهار له، مساء يوم 18 أغسطس/ آب الماضي، والذي قصد منه تكريم معد الكتاب د. علي محافظة، والتعريف بكتابه عن النابلسي، ولعل هذا هو أغرب حفل إشهار لكتاب ممنوع من التداول؟!

ويذكر هنا أن سليمان النابلسي حظي بأكبر عدد من الكتب والأطروحات الجامعية والأبحاث المنشورة عنه، بالمقارنة مع بقية رؤساء الحكومات الأردنية السابقين، ما يؤكد مكانته التاريخية الفارقة، رغم أنه لم يقض في الحكم أكثر من بضعة أشهر معدودة.

*باحث في التاريخ السياسي الاجتماعي الأردني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.