}
عروض

الحفر في الحقل السيكولوجي للتوتاليتارية

عمر كوش

18 ديسمبر 2024


ارتبط مفهوم التوتاليتارية، بوصفه مفهومًا حديثًا، بمفهوم الدكتاتورية، حيث أطلق على العديد من الأنظمة السياسية في مختلف بلدان العالم، خاصة في القرن العشرين المنصرم، ووسم المفهوم الكلاسيكي للتوتاليتارية الدولة التوتاليتارية بعدد من الصفات والعلامات، مثل سيادة الحزب الواحد، والدور الموجّه للأيديولوجيا، ومحو الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع، وتضخّم دور الأجهزة الأمنية بما يؤمّن سيطرة القمع والإرهاب على رقاب الناس، وتقديم دور السلطة على دور الدولة ومؤسساتها... إلخ. وباعتبار أن المفاهيم تتغاير باختلاف مركباتها وحمولاتها ومدلولاتها، عبر ترحالها المعرفي، من عصر إلى آخر، وعبر حركات أقلمتها في الأقاليم المعرفية والجغرافية، فإن تمظهرات التوتاليتارية كانت محط تناول عدد من الفلاسفة والمفكرين، حيث نظرت لها الفيلسوفة حنه أرندت، وكذلك ميشيل بوغنون موردان، وغوستاف لوبون، وليوبولد نيومان وسواهم. ويعتبر أستاذ علم النفس السريري في "جامعة غينت" البلجيكية، ماتياس دسميت، في كتابه "سيكولوجية التوتاليتارية" (ترجمة مالك سلمان، بيروت، دار الساقي، 2024)، أن جوهر التوتاليتارية يكمن في الحقل السيكولوجي، حيث تنبني الدكتاتوريات على آلية سيكولوجية بدائية، تتمثل في تخليق أو بالأحرى إيجاد مناخ من الخوف بين أفراد الشعب، مؤسس على الوحشية الكامنة للنظام الديكتاتوري، أما التوتاليتارية فتتجذر في العملية السيكولوجية الخبيثة المتمثلة في الجمهرة (النزعة الجماهيرية). ويمكن من خلال التحليل الشامل والدقيق فهم السلوكيات الصادمة للشعب الخاضع إلى النظام التوتاليتاري، بما في ذلك استعداد الأفراد للتضحية بأرواحهم ومصالحهم الشخصية تضامنًا مع الجماعة، أي الجماهير، والجهوزية العالية لقمع المعارضة، والحساسية المفرطة للتلقين العقائدي الذي يبنى على الدعاية.

وعليه، فإن الجمهرة في جوهرها هي نوع من التنويم الجماعي الذي يدمّر الوعي الذاتي الأخلاقي للأفراد، ويقوّض قدرتهم على التفكير النقدي. ففي ألمانيا، دفعت نظرية عرقية، روّج لها ديماغوجي متعصب، جزءًا من الشعب إلى اعتناق طريقة غريبة في التفكير، فأقدم البعض على الوشاية بأقربائهم وزملائهم الذين لم يكونوا برأيهم موالين بشكل مطلق للشعب الألماني وزعيمه هتلر، وتقبّلوا فكرة إبادة المعاقين وأصحاب العاهات والأمراض المزمنة، وإبادة ما سمّوه الأعراق الأدنى. وفي روسيا جرى الترويج لعملية مادية تاريخية لتأسيس مجتمع خال من الملكية الخاصة، وتُمسك فيه البروليتارية مقاليد السلطة والحكم، كما قاموا بعملية إبادة للمعارضين ومن اعتبروا خونة، وجرى ترحيل ملايين الروس إلى معسكرات الأعمال القسرية والشاقة. وشكلت كل من النازية والستالينية نوعًا من الحكم عرف باسم التوتاليتارية.

ولقد اختلفت الأنظمة التوتاليتارية عن الديكتاتورية من حيث تنظيمها الداخلي وآلياتها، حسبما بيّنتها حنه أرندت، إلا أن دسميت يعتبر أن جوهر هذا الخلاف يظهر على مستوى سيكولوجي، حيث تتأسس التوتاليتارية على عملية اجتماعية سيكولوجية تتجسد في الجمهرة أو الجماهير. وظهرت في القرن الحادي والعشرين مؤشرات تدل على نشوء نوع جديد من التوتاليتارية التكنوقراطية، التي تتجلى في التنامي الملحوظ لتدخل الأجهزة والوكالات الأمنية، التي تقوم بفتح البريد، ومراقبة الهواتف، وتفتيش الأنظمة المعلوماتية، وتركيب أجهزة المراقبة، وتنامي الرقابة، وقمع الأصوات البديلة، وخاصة خلال أزمة كورونا، حيث تلاشى الدعم للمبادئ الديمقراطية الأساسية، وفرض برنامج تلقيح تجريبي كشرط لارتياد الأماكن العامة وسوى ذلك من المؤشرات والإجراءات، ونشأ نظام شمولي من البيروقراطيين والتكنوقراطيين.

يتناول دسميت الطريقة التي أوصلت بها الرؤية الميكانيكية للعالم المجتمع البشري إلى سيكولوجية محددة خلال القرون الأخيرة، وذلك عندما وقع المجتمع بشكل تدريجي في قبضة أيديولوجية ميكانيكية متعصبة تحولت إلى نوع من العقيدة والإيمان الأعمى، بعد أن انتهت المقاربة العقلانية للحياة إلى نوع من العجز عن التعاطي مع الخوف والقلق، وعملت النرجسية والهوس التنظيمي على تعميق المشكلة بدلًا من حلها، مما أفضى إلى الإنهاك السيكولوجي للشعب الذي يتوق إلى سيد مطلق، فراح يبحث عنه وفقًا للرؤية السائدة عن الإنسان والعالم في الأيديولوجيا الميكانيكية. وأفضى ذلك إلى تنامي الشعور بالعبثية والعزلة الاجتماعية، وتعلق الآمال بحل تكنولوجي للمشاكل المتأصلة في الوجود الإنساني والهيمنة المتزايدة على الفضاء العام من طرف خطاب مزيف يعتمد على الأرقام والإحصائيات، ويعمل على طمس الخط الفاصل بين الحقائق والخيال. كما أفضى إلى تنامي دور الخوف القلق في تعزيز توق الشعب إلى سلطة مطلقة. وشكل الوضع الشعبي الأرضية المثالية لنشؤ مجموعة اجتماعية برزت من خلال عصر التنوير وما بعده، كي تشكل الأساس السيكولوجي الاجتماعي للدولة التوتاليتارية، وتجسدت في الجماهير.

منذ نهايات القرن السادس عشر، حين ظهر غاليليو غاليلي، وتجرأ على تفسير واقعة تأرجح النواس أو الثريا من منظور علمي بحت، وبمنطق غير ديني، بدأ النهج العلمي في قول الحقيقة يأخذ مداه، ويتسع، حتى ساد، وبلغ أقصاه أوائل التاسع عشر، حين نهضت فئة من العلماء والمفكرين تقول بقدرة العلم الحصرية على مقاربة كل ظاهرة في الوجود، يتقدمهم أوغوست كونت، وإرنست رينان، وغيرهما. لكن الثورة الصناعية الحديثة، غيّرت العالم المادي، وقلبت أوضاعه رأسًا على عقب، عبر التصنيع والمكننة، ووسائل التواصل الجماهيري والإعلام، والمعرفة، العصية على التخيل والتوقع. وأفرز كل ذلك مشكلات كثيرة على المستويات العاطفية والاجتماعية والبيئية، وطاولت العلاقات بين الأفراد والجماعات، والروابط العائلية، وأخلّت بالتوازنات بين فئات المجتمع الواحد، وعمقت الشعور بالاستبعاد، من طرف فئة لأخرى، وبات المجتمع محكومًا في إطار حكم توتاليتاري. وساد التفكير العلمي الميكانيكي، الذي انتهجه أغلب الباحثين والعلماء، عبر تطبيق معايير علمية معتمدة في العالم، بغية إنجاح الاستثمار الطبي باستخدام الأدوية، والمكملات الغذائية... إلخ. ولم يتم الاعتناء بالعينات المدروسة بوصفهم بشرًا، الأمر الذي أفضى إلى نشوء كوارث على صعيد التجارب الطبية. كما أن النخبة التي تسلمت قيادة المجتمع والاقتصاد والسياسة، كادت أعمالها أن تبيد ثروات الأرض البحرية والنباتية والجوفية، وأشرفت على إحداث تغير دراماتيكي في المناخ العالمي، ستعاني البيئة من آثاره المدمرة، بسبب إفراطها في استهلاك خيرات الأرض، وتؤيدها شعوبٌ وجماعات، أفرادها مصابون بالعجز، والعزلة عن جاره أو قريبه، وكانت ذات الفرد في هذه الجماعات متشظية حسبما وصفتها الفيلسوفة حنه أرندت، واعتبرتها تمتلك الجاهزية كي تشكل المكون الأساسي للدولة التوتاليتارية.

ينظر المؤلف إلى الحشد بوصفه نوعًا محددًا من المجموعات، تتمثل ميزته الأساسية في تماثل أفراده، إذ يتساوى في الحشد كل الأفراد، ويفكر الناس سوية، ويميلون إلى التماهي مع نفس المثل والقيم. وقد سبق أن نوّه غوستاف لوبون إلى أن روح الجماعة تسيطر تمامًا على الروح الفردية في الحشود الجماهيرية، ويفقد الفرد التفكير العقلاني والقدرة على التأمل النقدي. كما يتم الاستسلام لدوافع مجردة من الأخلاق بشكل كامل. وتأتي السلطات التوتاليتارية كي تحث الجماهير أو الناس على التماهي معها ضد أنفسهم ووجودهم، وتقوم بجعلهم مثل الإنسان الآلي الذي يستجيب للبيانات والتقارير والإحصاءات، والمصاب بعجز كامل عن رعاية وجوده، وعن التعاطف، وتلقي الجمال، وتمثل الأفكار، والمبادئ، والقيم، والحقائق.

وفي عالمنا المعاصر، تعتمد الشمولية المستمرة على تنظيم خطاب يسعى إلى عقلنة اللاعقلانية وتقديمها في إطار يبدو ظاهريًا مدعومًا بالحجج والبراهين، لكنه يفتقر إلى عناصر الإثبات والإحكام، حيث يُدمج خطاب يدّعي العلمية بالحسّ الأخلاقي ومصلحة الجماعة والحفاظ على النظام العام، ولكن أي إحالة إلى واقع ما يجري بالفعل في الفضاء العام تبرهن على أن السلطات الشمولية لا تعير المسألة الأخلاقية اهتمامًا يذكر إلا في إطار توظيفاتها السياسية التي تصبّ في أطار تمكين الشمولية وتثبيتها.

يرى دسميت أنه جرى إحياء التوتاليتارية خلال أزمة كورونا، التي أفضت إلى وفاة ما يقارب الأربعة ملايين وثلاثمائة ألف شخص في أنحاء العالم، وما سبقها من أزمات صحية، وما رافقها من دراسات وأبحاث تتوخى "العلمية"، وظهر لدى فحصها والتدقيق فيها أنها كانت مغلوطة، وأنها أفضت إلى قرارات أقل ما يقال فيها إنها منحازة، وقهرية، وكانت تحثّ على إبادة فئة من المجتمع، أو استبعادها. وظهر أن البيانات المتعلقة بإحصاء الوفيات في الولايات المتحدة الأميركية والتي أظهرت أن 95 في المئة من الوفيات كانت ناجمة عن فيروس كورونا، غالطتها المراكز الأميركية المتخصصة بالتحكم بالأمراض، حيث بيّنت أن الوفيات من الكوفيد لم تتجاوز نسبة 6 في المئة من مجموع المتوفين، الأمر الذي يعني أن منْ قاموا بإعداد البيانات لم يأخذوا في حسبانهم متغيرات كثيرة، وواقعية، تسبّب الوفاة.

في الختام يدعو المؤلف إلى العودة لانتهاج مقاربة إنسانية شاملة، وإلى تقدير العلم الإنساني والاستفادة من القصص والأساطير والفكاهة والتجارب التي تنتج معرفة إنسانية متنوعة؛ إضافة إلى التماهي مع الوجود والمفاهيم والأشياء كنسق يسمح بالوصول إلى معرفة حقيقية وإنسانية.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.