- "إني أرحل
- لن ترحل.
ورهان منه ورهان مني. لكنه سقط مني. سقط مني أحد النبلاء. أحمد راحل يا سادة. أحمد كسب الرهان".
بكلمات منكسرة بطعم فراق لن تلملمه الأمنيات، كان على الفنانة السورية رغدة أن تبتلع جرعة الفقد رغمًا عنها، وهي تودِّع صديقًا، وتودِع حبيبًا لمثواه الأخير، بعدما خسرت رهان الحياة وكسب هو رهان الموت.
"Tell he is a A great Actor"، "Yor are Excellent Actor"- تعليقان متتاليان للممثل العالمي روبرت دي نيرو، ورئيس مهرجان موسكو السينمائي 1987، متحدثين عن أداء أحمد زكي وسط حضور طاغ من المبدعين السنمائيين. وكان قبله تصريح للممثل العالمي عمر الشريف: "أحمد زكي أفضل منا جميعًا، ولو كان يجيد اللغة الإنكليزية، وساعدته الظروف التي ساعدتني لسبقنا إلى العالمية".
كي تقترب من إنسان لا بد من أن ترى ما يقول، لتُحكم نظرتك فيما يؤمن من أفكار، وفي هذا العرض لا أتحدث عن حياة وإنجازات أحمد زكي، لكني أريد الحديث معه بفلسفته الفطرية، ربما أقترب أكثر من رقائق خامة خافتة، نحسبها كذلك وهي في حقيقتها ذات أثر بالغ.
في كتابه "في صحة أحمد زكي... مشواري معه من أول لقطة إلى آخر لحظة!" (دار ريشة للنشر والتوزيع، 2024)، يذكر الكاتب الصحافي عادل حمودة حديثًا جمعه بأحمد زكي في مطعم فندق "السلاملك" مصادفة، وهو يطرق باب الـ 50 من عمره، قائلًا: "إنني لا أستطيع أن أزعم أن عنفواني في ذلك الوقت لا يزال على حاله اليوم... في فيلم ‘البريء‘ نزلت ترعة راكدة ملوثة حتى يكون المشهد طبيعيَّا، وفي فيلم ‘موعد على العشاء‘ دخلت في أحد صناديق مشرحة حقيقية حتى تحصل سعاد حسني على ردة فعل طبيعية، وكتمت نفسي من رائحة "الفورمالين" وفي فيلم ‘الهروب‘ تسطحتُ على ظهر القطار وكدت أموت... عندما يكون نسيج قليل لا بد من أن تكون بارعًا في التفصيل، ثم إنني لا أعرف كيف أجسّد الشخصية التي أمثلها ما لم يلبسها جهازي العصبي".
هنالك تصالح هادئ مع النَّفس في شخصية أحمد زكي الحقيقية، لكنه بقدر هذا التَّصالح لا يحب الجهر به سوى لخواصه من المقرَّبين، وقلَّما يجيب أحد عن فحوى إيمانه بطريقة فلسفية يضمرها الآخرون كي يتم استثمارها في لقاء تليفزيوني مثلًا أو خلال حدث عام، لتُحدث عمل "بوم". ولعل قوله عن النسيج والتفصيل والتَّلبس، يأخذنا إلى اكتشاف اتّكاء أحمد زكي الممثل على أحمد زكي المثقف بشكل فنِّي.
مارس أحمد زكي غريزة إشباع التقدير الذاتي بعدما مرَّ بحالات متعددة من جوع إثبات الذات فيما قبل البدايات، ذاق اليتم قبل أن يعي معناه، وارتوى من التشتت المكاني في السكن مرارًا، وإن أراد بفلسفته أن يخفف من وطأة العقوبة الحياتية في سؤال زميل له عن مسكنه: "الدقي ومصر الجديدة والعباسية وشبرا وروض الفرج معًا"، أراد التَّفكُه لكنه سرد بشيء من حزن: "إنها شقق أناس طيبين استضافوني فيها، لكن بشرط ألا تزيد مدة الاستضافة على ليلة واحدة في كل شقة".
ليس من غرابة فعله بعد أن جرت الأموال في يديه؛ أن يمتلك عدة شقق في أماكن مختلفة، لكنه لا يحس فيها بالأمان؛ أمان يتمثَّل في قربه من عَربة فول!
ربما يُتوقع من نجم مثله ألا يبوح بمتناقضات الأفكار كقوله مثلًا:
"الإنسان ممكن يترك أشياء من كثرة ما يحبها".
"ممكن تحب امرأة وتعجز عن التفاهم معها أو لا تستطيع تقبّل طبيعتك الشخصية أو أسلوبك في تناول الطعام أو طريقتك في النوم أو ترفض أصدقاءك؛ في هذه الحالات لا مفر من الانفصال ولو كان الحب تجاوز الروعة والنشوة والرغبة".
وكأن القول يندرج تحت قول مأثور: "ومن الحب ما قتل"، وفي ذلك تبدو فلسفة الحقيقة بدون تجمَّل هي البائنة في إجابته، هو حقيقي في إنضاج ما يؤمن به بقوله، ليس هناك ما يكتمه، ففي قوله: "أنا أحب إذًا فأنا مذبوح"، و"لم يحدث أن وجدت ما تمنيت وما تخيلت في المرأة فلو حدث تزاوج روحي افتقدت التوافق العقلي وإذا عثرت على التوافق العقلي هربت منا القدرة على التسامح".
إذًا، فالأمر في علاقته بالمرأة ذو اتجاهين متعاكسين، يخالف أحدهما الآخر وفق أنموذج تهافت الضرورات، هي بالضرورة تعكس تداعيات حالة اليتم الأولى التي حفرت في وجدانه كثير الألم.
كان امتحان القبول للمعهد العالي للفنون المسرحية مرتكزًا على الإقناع والموهبة والقبول، إلا أنه في حالة أحمد زكي كان الصمت هو الفصل في قبوله، إذ صدمه سؤال للدكتور علي فهمي: "يا أحمد إنت عايز تمثل ليه؟"، وكان السكوت سيد الموقف، وكان سكوتًا من ذهب، جعله ينجح في الاختبار الشَّفهي، وكانت الإجابة ستسقطه!
"لقد مثلتُ مسرحيات ‘وليم شكسبير‘ و‘هنريك إبسن‘ حين كنت في المعهد، لكنَّ ‘لقمة العيش‘ أجبرتني على مسرحيات كرهت نفسي عندما شاركت فيها، بل كرهتُ المسرح الذي أحببتُه وأنا طالب في الثانوية الصناعية، ولم أعد إليه بعد أن أعطيتُه ظهري".
لم يكن لديه منفذ آخر للإفلات من ضنك العيش، إلا التنازل بعض الشيء، ليمشي المركب ولو لمامًا، أفضل من أن يغرق بكامله. وحالفه الحظ أن جعل من يطبطب عليه في أوقات الشدة، العم صلاح جاهين، أمدَّه بما كان يحتاج من أبوَّة عند الاحتياج ومزيدًا من التَّوجيه، ومنه: "عليك أن تعرف كيف تصل إلى الناس كائنًا من كانوا، ولن تنتظر حتى يتعلم الأمي ويثرَى الفقير، فربما تأخذ العملية مائة عام وأكثر".
عبّر عن الناس بصدق، ليكون حنجرة من لا يقدر أن يصرخ، وحلم من يخاف الكوابيس، وعين من لا يستطيع البكاء.
كان يؤمن بأن اللحظة الفارقة في حياته الفنِّية ستأتي حتمًا، وقد جاءت فعلًا بدور كبير؛ دور مثّل فيه حياة الأديب طه حسين حيث أبدع في أداء الدور بشكل لافت وحقيقي، حتى بات لا ينفك عن دور طه حسين! أصبح هو طه حسين في أثر سيكولوجي غريب! وتعدّاه إلى نوع سيكوسوماتي جعل جسده يتأثر بما تقمصه.
شخص بهذه التركيبة العجيبة لم يكن من السهل أن يتنازل عن الأداء الأمثل للدور الذي يمارسه، بل ويعيشه، هو شخص لا يُمثِّل أو يمتهنه ليعتاش منه، كان يعيش ليمثّل، ولذا لم يكن يتورّع عن إبداء رأيه السلبي بعد نجاح دور فعله ونال الاستحسان به: "هذا الفيلم فيه خمسة مشاهد كان يجب أن أعيدها، لكن المخرج لم يسمح، وكدت أن أقتله يومها لكنه نجا من يدي!"
كان عادل حمودة صديقًا لأحمد زكي، يحاول أن تكون صداقته على مقاس الحاجة الضرورية لا على مقاس الاتساع الزمني، حتى إذا زادت الحاجة أصبح الاتساع الزمني محصِّلًا ذاتيًا، بدا كالمغناطيس الذي يتلمس الوجع ليلتقطه ويخفِّف أثره في حياة أحمد زكي.
كانت أكثر تلك الالتقاطات غموض أحوال الفنان في الحياة، فلا يجب أن تكون حياة الفنان مشاعًا، وكأنها شقة دون سقف! اتبع أحمد زكي أسلوب التَّلميح دون التَّصريح، وبدا هذا الأمر مقنعًا، بل وجعله ضروريًا في مسيرته، أن تفتح ألف سؤال بدون إجابات، حتى لا يختلط الحابل بالنَّابل.
أحمد زكي وعبد الناصر
يقول أحمد زكي عن دوره في فيلم "ناصر 56": "بعدما انتهيت من تصوير مشهد خطابه في ‘الأزهر‘ كدت أقع من على سلم المنبر، بعد أن حملت هم عبد الناصر وهو خائف على البلد، وفهمت وأنا أراجع الخطاب قبل تصويره أنه كان في قمة قوته لأنه يشعر أنه صاحب قضية عادلة وعنده الحق في ما فعل، وفي الوقت نفسه كان في قمة ضعفه من شدة خوفه على البلد الذي قد يعاد احتلاله في مؤامرة شاركت فيها ثلاث دول، وبين قمة القوة وقمة الضعف كان يتلمس في الناس الدعم، وفي الوقت نفسه يتوجه إلى الله بالدعاء".
يمثل التجسيد في عمل أحمد زكي نمطًا فعليًا في التمثيل أو مشوار إبداعه، كان يعلم أنه يتقن ويتفنن ويفاخر في ذلك حيث يقول: "الشخصية تدخل إلى عقلي لتتجمع فيه تفصيلاتها الصغيرة المميزة، ثم أندمج فيها حتى أدفن نفسي فيها، فأصبح أنا هي وهي أنا".
لم يخف حين ينفلت منه عقال الشخصية أن يتصل بمدير أعماله محمد وطني الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ليخبره بأن عبد الناصر هرب منه!
وإذا به يعود صباحًا بعد نوم لما كان يقوم به!
هذا التجسيد جعله يفصح مرة عن رأيه في الشعب لعادل حمودة: "إن الشعب ليس نصًا مقدسًا لا يمكن المساس به، ولكنه أرض سياسية، أرض بكر، يمكن للفن أن يزرعها حماسًا وحرية في اتجاه التنمية".
هل يمكن أن نسارع للقول إن الفنان ليس إلا سياسيًا يشتغل في الفن!
لم يكن أحمد زكي يحب التَّجمعات بأنواعها، كان يحب الظهور في أعماله ليرى الجمهور ويكون معهم، هي النَّرجسية المُحكمة إذًا لهدف فني.
أن تكون صديقًا يعني أن يكون أساس ذلك الثِّقة، وهذا ما فشل فيه أحمد زكي منذ طفولته، منذ أن عانى اليتم وكأنه فقد كل ثقته في العالم، حتى أنه لم يكن يثق في الورق، فيعيد قراءة السيناريو مرات كثيرة، حتى لا تتفلت أمام عينيه عبارات هنا أو هناك.
يقول في شهاداته مع عادل حمودة في "روز اليوسف":
"أنا أدافع بشراسة عن جيلي، وأدافع عن 25 سنة من تاريخنا الذي لا بد أن يحترمه الجميع، ولو أراد أحد آخر أن يدافع عن فئة فليكن، ولكن ليس عليه أن يهاجمها ويلغي مشوارنا في كلمتين ينطق بهما".
"في أقلامنا تناولنا كل الموضوعات والقضايا السياسية والاجتماعية، ولم نتردد في تشريح الواقع بألوان فنية متعددة".
"الكتابة للسينما صنعة والأداء المتقن صعب، على خلاف زمان كان الأداء هادئًا ومستقرا، وكانت الشخصيات في الحياة واضحة (يا أبيض يا أسود)، لكنها أصبحت بعد ذلك بمئة وش".
أما في الشهادة الثانية فقال:
"أردنا أن يُظهر الإنسان على الشاشة بحالة (اللخبطة) التي يعيشها، وبعدم قدرته على مواجهته مشكلاته".
"دعونا نجعله يشاهد نفسه على الشاشة".
أما شهادته الثالثة:
"في رأيي أن السينما قديمًا كانت معنية بتقديم الأحلام على الشاشة، لكن اليوم نجحت السينما في تقديم الواقع، وترجمته ترجمة أمينة على الشاشة بالشكل الذي جعل المواطن يرى نفسه فيها دون تزييف".
إننا أمام شهادات يحاول فيها أحمد زكي ليس الدفاع عن نفسه، وإنما التوضيح ونقل الصورة الحقيقية التي يؤمن بها، مظهرًا الفكرة الأساسية في صناعة السينما الجديدة: التمرّد الذي اكتسبه جيله.
في إحدى مقابلاته الأخيرة مع عادل حمودة بعد تدهور حالته قال: "نعم أريد أن يراني الجمهور وأنا مريض، حتى إذا شفيت يدرك شراسة الحرب التي خضتها، وإذا متّ فإن صورتي الأخيرة يمكن أن تستخدم في عمل فني إذا ما جاءت سيرتي.
"أنا حلمي كمواطن مصري عربي أن يعرف الناس حقيقة ما يسمعون. نفسي يعرفوا يعني إيه تأميم؟ يعني إيه ضربة جوية؟ ما حدث في ثورة 1919؟ نفسي السينما تقدم تاريخنا صح وتهتم به، وأنا كمواطن ومشخصاتي يهمني ما يشغل رجل الشارع ورصد أحلامه وأحزانه وطموحه بأمانة. دي شغلتي، لكن يا ريت لا يتهموني بأنني أعمل شخصيات تاريخية".
إذًا، نحن أمام مشروع فنان حقيقي، لم يكن ليكون كما كان يريد ويُراد له، يبدو أن خواتيم الأقدار لا تتيح لأصحاب العوالم المتعددة أن تبرق أكثر إلا نادرًا، فإما أن تنال حظًا من الشهرة أقل من إمكاناتها، وإما أن تنالها وهي لم تعبِّر بعد عن مشروعها الكبير.
هكذا كان أحمد زكي ملتهبًا في مسيرته، يبحث عن دور يُشبعه، دور يشعره بالوصول لعتبة الاكتمال، وقد كان أوله في فيلم "ناصر 56" الذي تحدَّى فيه الكثير ممن راهنوا على صعوبة تأدية الدَّور، لاختلافات فسيولوجية، لكنه تغلَّب عليهم، وبعث عبد الناصر من جديد، واستدعى السادات في عمل آخر، وكاد أن يستدعيَ كلَّ قادة مصر، ليعرف الناس ماذا حدث وكيف؟ لكن القدر أوقفه قائلًا: يكفيك ما وصلت إليه.
قبل أن أقرأ ما يرويه عادل حمودة في كتابه "في صحة أحمد زكي"، كانت لدي فكرة أن الممثل مجرد موظف يقوم بأداء مهمته وينصرف إلى حياته ليتمتع بالأموال التي يجنيها، لكني بعدما قرأت، أيقنت أن هذه الوظيفة - إن أردنا اعتبارها وظيفة - تصيب مؤدّيها بعدة أمراض، أولاها أمراض الجهاز العصبي؛ فكيف يمكن أن يعمل موظف على تكرار عمل يقوم به عشرات المرات ليُتقن التقاطة واحدة، ويسترق ذلك ساعات طوال دون أن يعترض، ناهيك عن المشاعر المتضاربة المطلوبة منه، إضافة للمشاهد غير المركبة تراتبيًا، فمشهد ضحك يتبعه مشهد محزن دون فاصل بينهما، فمشهد القُبل، مثلًا، في أي فيلم يكون عليه من الحاضرين عشرات الأشخاص المهنيين، إلى غير ذلك من لجوء المخرج لزوايا إثارة والواقع غير ذلك.
كما أن هناك إجهادًا جسديًا لا يقل عما سواه من أجهزة الجسم المتعرّضة لجهد عضلي قد تؤدي للموت أثناء التصوير.
وأما التأثير الواقعي الأكثر على الممثل؛ فيذهب إلى حياته الاجتماعية حتى يصل لندرة توافق فنان بالاقتران بفنانة في مجال عمله، أو حضور مناسبات اجتماعية، أو كالتزام بمواعيد الموظف الحكومي أو الخاص، فلا تعترف مهنته بالأحوال الجوية؛ هي مهنة مقيَّدة بالتجارة، الربح فيها ثمار، والخسارة فيها أشواك، النجاح فيها دخول تاريخ، والرسوب فيها دفن بدون جنازة أو مأتم.
صنع أحمد زكي نفسه لأنه كان يريد ويعلم أنه سيصل. وأجاد في تصوير حال الناس فأصبح منهم وبهم، أراد أن يُصوِّره مبتسمًا، فمثَّل فيلم "اضحك علشان الصورة تطلع حلوة"، فحيَّته الناس في جنازته بكأس قلوبهم وحبهم له: "في صحّة أحمد زكي".