قد تبدو كتابة اليوميات ترفًا فكريًا لا يعدو كونه ممارسة شخصية بحتة، رغم انتشارها؛ بل وحرص البعض على تقصي يوميات الكاتب أكثر من نتاجه الأدبي، أو الفني بشتى صوره ومسمياته. أعزو ذلك إلى القرب الذي تمنحنا إيّاه اليوميّات، كأنّها تزيل ستار الشبّاك الذي كان يحجب إنسانيّة الكاتب وسلوكه المنزليّ، ناهيك عن روتين يومه وأفكاره الأولى. ولا تؤثّر المعرفة بنشرها من عدم معرفته ــ كثيرًا ــ على مضمونها وسبكها؛ لأنّه سيعود إلى إطارها المسمّى: يوميّات، ليلتقي بالواقع الكاشف عن ماهيّتها.
في "يوميّات الحرب على غزّة"، وهو العنوان الفرعيّ بعد: "كتابة خلف الخطوط"، ورغم المواجهة مع الحرب عبر الصوت والصورة، وما تناقله وما زال ينقله الإعلام وفيًّا وعلى عهده، إلا أنّ فعل الكتابة يحيل إلى مواجهةٍ أعنف تنقش في أعتى الجدران صلابةً أثرها، ولا تسمح إلا بخلودها، كما قدّم الدكتور عاطف أبو سيف: "إنّ ممارسة الكتابة وقت الخطر هي جزءٌ من القتال من أجل الحياة، والنضال من أجل عدم الفناء. بذلك، فالكتابة ليست ترفًا ولا هي هواية، بل وسيلة قتال وتعبير آخر من تعابير المواجهة". نُشرت اليوميّات عبر وزارة الثقافة الفلسطينيّة في ثلاثة أجزاء، وضمّت عددًا من الكتّاب والفنّانين في غزّة. ربّما لو لم تكن الحرب جمعت أقلامهم لتخطّ بحال الألم والخوف والبرد والجوع والعتمة... بحثًا وأملًا في ثنائيّة مضادّة لهذا الحال؛ لكنّا قرأنا عن يوميّات لا تقلّ دهشتها، إلا أنّ موضوعها بالتأكيد سيغدو الأمان والحلم والفرح الذي يليق أكثر بالغزّيين.
تضعك اليوميّات أمام اختبار التحمّل والصبر، وتحكي عن ذكريات بيتٍ غدا تحت القصف رمادًا! بيتٌ للجميع، لم تخلُ تجارب الكتّاب من ذكره، حتى أفردت بيسان نتيل رسالة تعزية لكلّ تفاصيله المتروكة تحت الركام تقول فيها: "سلامٌ لنخلة البيت الواقفة على الباب، أما زلت قادرة على الوقوف؟... لأصيص النعنع على شبّاك غرفتي، ولكلّ البيت سلام... أيّها البيت العزيز، يعزّ علينا أن تموت وحيدًا، يعزّ علينا أن تتركنا وحيدين، يوجعنا أنّنا عرفنا بعد انسحاب جيش الاحتلال أنّك قد متّ. كم ليلة كنت وحدك تبكي! كم ليلة كان صدى صوتنا في داخلك كالترانيم! وماذا فعلت قبل سقوطك الأخير؟".
وتحكي اليوميّات عن الشارع "أنا والشارع نكره بعضنا... سوف نبحث عن مأوى، وأيّ مأوى هذا؟ إنّها الخيمة"، يبحث سائد حامد أبو عطيّة عن خيمة وعن صراخٍ يستحضر روح طفلتيه "ميرا" و"تالا"، اللتين فقدهما في الحرب. أمّا أكرم الصوراني فيصف "الحرب اليوميّة التي يخوضها الناس مع وحش الجوع، مع غول الخيمة، مع قذارة الحطب، مع الماء غير الصالح للشرب، مع المرض، ومع العلاج، ومع الفشل في تدبير كثير من أمورهم المعيشيّة تكاد تكون أقسى بكثير من شكل الحرب التقليديّ" ويكرّر سبعًا بعدد المثاني: "من الحرب فصاعدًا بات كلّ شيء أكثر سخافة!!".
أقف خجلًا أمام نقل التجارب، واختيار البعض، وترك الآخر، ويكمن عجز السرد عن الإحاطة بثنايا القصص، وترتيب رحلة الانتقال من البيت إلى الشارع إلى الخيمة إلى الركام إلى اللاشيء، وكأنّ اختصارها ينزع عنها عظيم أوجاعها، إلا أنّ هذا القليل/ الكثير كاشفٌ لا محالة.
وتحت براثن الشقاء والمعاناة يكتب ناهض زقّوت: "الحرب... يومٌ غير عاديّ، ليتناول عيون النازحين في حالة الذلّ والانكسار والجوع، والحياة في غزّة، التي أصبحت عبارة عن طوابير، طوابير أمام تعبئة المياه، طوابير أمام المخابز، طوابير أمام شحن البطّاريّات... ومن روايات الطوابير الغزّاويّة: أنّ أحد الإخوة اتّفق مع أخيه أن يبقى في طابور الحصول على ربطة خبز، وهو سوف يذهب ليدفن أخاهم الآخر الشهيد".
أمّا سماهر الخزندار فأخذت تقرأ السلوك البشريّ من حولها، "يعبّر الأطفال عن مخاوفهم وأحزانهم بسلاسة وتلقائيّة، ولا يخشون من أن يتّهمهم أحدٌ بالجبن. أمّا الكبار، وخاصّة الرجال، فيخرج توتّرهم وخوفهم على هيئة شجارات يوميّة، تعلو أصواتهم ويكادون يشتبكون بالأيدي، لأنّ أحدهم مثلًا وبّخ ابن الآخر، يقسمون على أن تكون الحرب آخر عهد لهم معًا في الصباح، ثم يشربون الشاي، ويحلّلون الأخبار حول الراديو في المساء". ثمّ تنتقل إلى النساء لتفصح عن وعيها بالملاحظة والتشاركيّة معهنّ بطبيعة الحال؛ "النساء أكثر تفاهمًا، وأكثر معاناة لأنّهنّ يجب أن يتعاملن مع مخاوف الكبار والصغار... في حالتنا نتشارك مأساة النزوح ستّ سيّدات، معلّمة، وصيدلانيّة، ومدير عامّ، وطبيبة أسنان، ومبرمجة، وصحفيّة، لكنّنا جميعًا نتشارك أعباء حياة (التخييم) البدائيّة". وللنساء عند فاتنة الغرّة لباسهنّ "الذي تتميّز به نساء غزّة من الطبقات كافة، وعلى اختلاف المستويات، ثقافيّة كانت، أو اجتماعيّة، أو جماليّة، هو ثوب الصلاة". وما ذلك إلا استجابةً للوقت المتاح، كما تعبّر نعمة حسن "ألبس دائمًا حجابي وملابسي كاملة أثناء نومي. الحروب لا تنتظر جهوزيّتنا".
تعبٌ كلّها الحياة، والأبشع، كما يكتب إبراهيم حمدان "أن يختار لك القدر ألا تموت في الحرب، لأنّ نجاتك من هذا الموت المحقّق ستنبت أسبابًا للموت لم تكن تتربّصك من قبل، كاليأس، والاكتئاب، ولعلّ أسوأهما معقود في سؤال لماذا نجوت أنا من دون غيري؟". لا إجابات، فقط بكاءٌ مؤجّل على رأي حيدر غزالي، واصفًا صمت "أبو نصّار"، أو عناقٌ أخير في نموذج حرب كتبه خالد شاهين "سيّدة مسنّة ملقاة بين الجثث، يقترب البشمهندس خالد ليساعدها، رفضت خوفًا عليه، وعلى زوجته وطفلته، مردّدة عبارتها الأخيرة، اذهب يا بنيّ لا وقت أمامك، ودعني أموت هنا بين أولادي وأحفادي...". ومن أسباب الموت اختلاف الظرف: عند الدبّابات/ بعد الدبّابات "كنقطة تحوّل كبرى في حياة فايز شكري أبو عون وحياة جميع النازحين من دون استثناء، هو "حاجز الموت"، هو القلق الزائد عن الحدّ على مصيرنا ومصير عائلاتنا، حيث يتمركز جنود الاحتلال لمراقبة حركة نزوح المواطنين من الشمال إلى الجنوب، هو جثث وأشلاء ملقاة في وسط وعلى قارعة الطريق، لم يجرؤ أحد من النازحين على التوقّف عند أيّ منها... هو كنزوح آبائنا وأجدادنا عام الـ48، هو حين أُهينت الكرامة، وأصبحنا كالغرباء في وطننا".
الفقد العامل الثابت المشترك بين التجارب المكتوبة، وتلك التي لم يمارس أصحابها الكتابة. ينقل محمود أحمد البسيوني: "حديثٌ دار بين طفلين... سمعناه يقول: ماتت أمّي، ومات أبي، ولا زال إخوتي تحت أنقاض البيت. يسأله متعجّبًا: ولماذا تقفُ في طابور الخبز؟! من ستطعم بعدهم؟! يجيبه كأنّه يقول إنّه سيطعم الركام والدمار، علّه يستحي ويترك له أحد إخوته، أو صورة كانت على الحائط تجمعه بهم، وكم من عائلةٍ تركت وريثًا على الأرض ورحلت إلى السماء... وحدها السماء من تستحي حين نصبح أكبر من حجم القنابل ونطعمها بأكفّ الدعاء أن تعيد لنا من رحلوا من دون وداع". وكم من رسالة نصّيّة أرسلها حكمت يوسف للاطمئنان على بلال جاد الله، لكن هذه المرّة بلا جدوى بعد ثبات استشهاده.
وللمفارقة وقعُها، فتكتب يارا زهد تأمّلات فنّان، فإذا بالواقع يقتل حتى حلم الفنّان، تقول: "إنّها غزّة التي تحوّلت إلى لون رماديّ، وصرنا لا نرى غزّة إلا بالرماديّ، ولم نعد نملك لونًا لنرسم حياتنا فيه سواه". أمّا عند فادي أبو ياسين في مونولوج حرب: "غزّة صارت أسود وأبيض، والحرب محت كلّ الألوان"، وهو النصّ الوحيد الذي كُتب كلّه بالعامّيّة الغزّيّة، واعتمد الفنّان فيه بثّ الجمال والفنّ عبر مساعدة الناس أينما حلّ، إلى أن جاء سؤاله يختم فيه المشهد "لماذا لا تنصفنا أيّها العالم؟"، ومعه ندرك أنّ روح الفنّان تلاشت.
في اليوميّات، أيضًا، لعنة الزنّانة، فهي كما تسمّيها نجوى شمعون "الزنّانة الحقيرة". وهي عند عبد الله تايه "مثل سيّدة تطلب من زوجها طلبًا وهو لا يستطيع تلبيته، فتظلّ تزنّ وتلحّ عليه في الطلب ليل نهار حتى يضطرّ لإجابة طلبها، أو الشجار معها، أو الانفصال عنها"! ومن المؤكّد أنّ حبّ الحياة والفكاهة له نصيبه من اليوميّات، رغم الشقاء والتشريد وانتظار المعونات والشتاء الذي قال عنه محمود عسّاف للمرّة الأولى يكره سكّان الخيام أغنية فيروز (رجعت الشتويّة)؛ يتجلّى الحمار ليلعب دور البطولة في حركة النقل، فاضطرّ الدكتور سعيد الكحلوت "لركوب عربة يجرّها حمار، وقد شعر بالخجل وحاول أن يخبّئ وجهه، إلى أن شاركه الحديث الرجل الذي يجلس إلى جانبه وهو طبيب نازح اعتاد على ركوبها، ممّا خفّف عنه الخجل قليلًا، ثمّ غادره الخجل حينما رفض سائس الحمار أن يبيع حماره بأقلّ من 8 آلاف شيقل، أي ما يزيد على ألفي دولار، من دون العربة، ممّا أنهى لقاء الدكتور مع الطبيب حين سأله الأخير ممازحًا: يعني نحن نركب الآن وسيلة مواصلات بأربعة آلاف دولار، لمَ الخجل إذن؟".
لا خاتمة، إنّما تضرّعٌ ودعاءٌ أن تنتهي هذه الحرب الظالمة الغاشمة، وسلامٌ على البائسين في عيون طلعت قديح، وعلى سلّوم، حفيدة علي أبو ياسين، وجاره أبو نجيب، وسلامٌ على ليان أسامة أبو القمصان وأوراقها الخمسة آلاف مسألة التي قضت آلاف الدقائق في حلّها، وتحوّلت إلى حطب الطعام! ولشاهيناز غازي أبو شبيكة، والعروس جميلة، والعريس الشهيد، سلام! ونهيل مهنا وابنتها، ومي تايه وهي تشيح بنظرها بعيدًا كلّما سارت بجانب خيمة، فهي "تجد أنّ من العيب النظر إلى أهلي وهم في هذه الحالة التي تطعن الإنسانيّة في مقتل". والدكتور حسن القطراوي، ولميس، بصوتها المهزوم تعلن موت العصفور... ويوسف القدرة ينزح من قصّته إلى قصص الآخرين. وسلامٌ على الدكتورة إيمان الناطور وهي لا تشعر بشيء في هذا العالم سوى إيقاعات الموسيقى، ورائحة القهوة، ودفء البيت، وحالة الإلهام.
والسلام لجميع الكتّاب الذين وردت أسماؤهم في سلسلة "كتابة خلف الخطوط"، والذين لم ترد أسماؤهم أيضًا، وسلامٌ على الصامتين، والمجهولين تحت الركام.
في "يوميّات الحرب على غزّة"، وهو العنوان الفرعيّ بعد: "كتابة خلف الخطوط"، ورغم المواجهة مع الحرب عبر الصوت والصورة، وما تناقله وما زال ينقله الإعلام وفيًّا وعلى عهده، إلا أنّ فعل الكتابة يحيل إلى مواجهةٍ أعنف تنقش في أعتى الجدران صلابةً أثرها، ولا تسمح إلا بخلودها، كما قدّم الدكتور عاطف أبو سيف: "إنّ ممارسة الكتابة وقت الخطر هي جزءٌ من القتال من أجل الحياة، والنضال من أجل عدم الفناء. بذلك، فالكتابة ليست ترفًا ولا هي هواية، بل وسيلة قتال وتعبير آخر من تعابير المواجهة". نُشرت اليوميّات عبر وزارة الثقافة الفلسطينيّة في ثلاثة أجزاء، وضمّت عددًا من الكتّاب والفنّانين في غزّة. ربّما لو لم تكن الحرب جمعت أقلامهم لتخطّ بحال الألم والخوف والبرد والجوع والعتمة... بحثًا وأملًا في ثنائيّة مضادّة لهذا الحال؛ لكنّا قرأنا عن يوميّات لا تقلّ دهشتها، إلا أنّ موضوعها بالتأكيد سيغدو الأمان والحلم والفرح الذي يليق أكثر بالغزّيين.
تضعك اليوميّات أمام اختبار التحمّل والصبر، وتحكي عن ذكريات بيتٍ غدا تحت القصف رمادًا! بيتٌ للجميع، لم تخلُ تجارب الكتّاب من ذكره، حتى أفردت بيسان نتيل رسالة تعزية لكلّ تفاصيله المتروكة تحت الركام تقول فيها: "سلامٌ لنخلة البيت الواقفة على الباب، أما زلت قادرة على الوقوف؟... لأصيص النعنع على شبّاك غرفتي، ولكلّ البيت سلام... أيّها البيت العزيز، يعزّ علينا أن تموت وحيدًا، يعزّ علينا أن تتركنا وحيدين، يوجعنا أنّنا عرفنا بعد انسحاب جيش الاحتلال أنّك قد متّ. كم ليلة كنت وحدك تبكي! كم ليلة كان صدى صوتنا في داخلك كالترانيم! وماذا فعلت قبل سقوطك الأخير؟".
وتحكي اليوميّات عن الشارع "أنا والشارع نكره بعضنا... سوف نبحث عن مأوى، وأيّ مأوى هذا؟ إنّها الخيمة"، يبحث سائد حامد أبو عطيّة عن خيمة وعن صراخٍ يستحضر روح طفلتيه "ميرا" و"تالا"، اللتين فقدهما في الحرب. أمّا أكرم الصوراني فيصف "الحرب اليوميّة التي يخوضها الناس مع وحش الجوع، مع غول الخيمة، مع قذارة الحطب، مع الماء غير الصالح للشرب، مع المرض، ومع العلاج، ومع الفشل في تدبير كثير من أمورهم المعيشيّة تكاد تكون أقسى بكثير من شكل الحرب التقليديّ" ويكرّر سبعًا بعدد المثاني: "من الحرب فصاعدًا بات كلّ شيء أكثر سخافة!!".
أقف خجلًا أمام نقل التجارب، واختيار البعض، وترك الآخر، ويكمن عجز السرد عن الإحاطة بثنايا القصص، وترتيب رحلة الانتقال من البيت إلى الشارع إلى الخيمة إلى الركام إلى اللاشيء، وكأنّ اختصارها ينزع عنها عظيم أوجاعها، إلا أنّ هذا القليل/ الكثير كاشفٌ لا محالة.
وتحت براثن الشقاء والمعاناة يكتب ناهض زقّوت: "الحرب... يومٌ غير عاديّ، ليتناول عيون النازحين في حالة الذلّ والانكسار والجوع، والحياة في غزّة، التي أصبحت عبارة عن طوابير، طوابير أمام تعبئة المياه، طوابير أمام المخابز، طوابير أمام شحن البطّاريّات... ومن روايات الطوابير الغزّاويّة: أنّ أحد الإخوة اتّفق مع أخيه أن يبقى في طابور الحصول على ربطة خبز، وهو سوف يذهب ليدفن أخاهم الآخر الشهيد".
أمّا سماهر الخزندار فأخذت تقرأ السلوك البشريّ من حولها، "يعبّر الأطفال عن مخاوفهم وأحزانهم بسلاسة وتلقائيّة، ولا يخشون من أن يتّهمهم أحدٌ بالجبن. أمّا الكبار، وخاصّة الرجال، فيخرج توتّرهم وخوفهم على هيئة شجارات يوميّة، تعلو أصواتهم ويكادون يشتبكون بالأيدي، لأنّ أحدهم مثلًا وبّخ ابن الآخر، يقسمون على أن تكون الحرب آخر عهد لهم معًا في الصباح، ثم يشربون الشاي، ويحلّلون الأخبار حول الراديو في المساء". ثمّ تنتقل إلى النساء لتفصح عن وعيها بالملاحظة والتشاركيّة معهنّ بطبيعة الحال؛ "النساء أكثر تفاهمًا، وأكثر معاناة لأنّهنّ يجب أن يتعاملن مع مخاوف الكبار والصغار... في حالتنا نتشارك مأساة النزوح ستّ سيّدات، معلّمة، وصيدلانيّة، ومدير عامّ، وطبيبة أسنان، ومبرمجة، وصحفيّة، لكنّنا جميعًا نتشارك أعباء حياة (التخييم) البدائيّة". وللنساء عند فاتنة الغرّة لباسهنّ "الذي تتميّز به نساء غزّة من الطبقات كافة، وعلى اختلاف المستويات، ثقافيّة كانت، أو اجتماعيّة، أو جماليّة، هو ثوب الصلاة". وما ذلك إلا استجابةً للوقت المتاح، كما تعبّر نعمة حسن "ألبس دائمًا حجابي وملابسي كاملة أثناء نومي. الحروب لا تنتظر جهوزيّتنا".
تعبٌ كلّها الحياة، والأبشع، كما يكتب إبراهيم حمدان "أن يختار لك القدر ألا تموت في الحرب، لأنّ نجاتك من هذا الموت المحقّق ستنبت أسبابًا للموت لم تكن تتربّصك من قبل، كاليأس، والاكتئاب، ولعلّ أسوأهما معقود في سؤال لماذا نجوت أنا من دون غيري؟". لا إجابات، فقط بكاءٌ مؤجّل على رأي حيدر غزالي، واصفًا صمت "أبو نصّار"، أو عناقٌ أخير في نموذج حرب كتبه خالد شاهين "سيّدة مسنّة ملقاة بين الجثث، يقترب البشمهندس خالد ليساعدها، رفضت خوفًا عليه، وعلى زوجته وطفلته، مردّدة عبارتها الأخيرة، اذهب يا بنيّ لا وقت أمامك، ودعني أموت هنا بين أولادي وأحفادي...". ومن أسباب الموت اختلاف الظرف: عند الدبّابات/ بعد الدبّابات "كنقطة تحوّل كبرى في حياة فايز شكري أبو عون وحياة جميع النازحين من دون استثناء، هو "حاجز الموت"، هو القلق الزائد عن الحدّ على مصيرنا ومصير عائلاتنا، حيث يتمركز جنود الاحتلال لمراقبة حركة نزوح المواطنين من الشمال إلى الجنوب، هو جثث وأشلاء ملقاة في وسط وعلى قارعة الطريق، لم يجرؤ أحد من النازحين على التوقّف عند أيّ منها... هو كنزوح آبائنا وأجدادنا عام الـ48، هو حين أُهينت الكرامة، وأصبحنا كالغرباء في وطننا".
الفقد العامل الثابت المشترك بين التجارب المكتوبة، وتلك التي لم يمارس أصحابها الكتابة. ينقل محمود أحمد البسيوني: "حديثٌ دار بين طفلين... سمعناه يقول: ماتت أمّي، ومات أبي، ولا زال إخوتي تحت أنقاض البيت. يسأله متعجّبًا: ولماذا تقفُ في طابور الخبز؟! من ستطعم بعدهم؟! يجيبه كأنّه يقول إنّه سيطعم الركام والدمار، علّه يستحي ويترك له أحد إخوته، أو صورة كانت على الحائط تجمعه بهم، وكم من عائلةٍ تركت وريثًا على الأرض ورحلت إلى السماء... وحدها السماء من تستحي حين نصبح أكبر من حجم القنابل ونطعمها بأكفّ الدعاء أن تعيد لنا من رحلوا من دون وداع". وكم من رسالة نصّيّة أرسلها حكمت يوسف للاطمئنان على بلال جاد الله، لكن هذه المرّة بلا جدوى بعد ثبات استشهاده.
وللمفارقة وقعُها، فتكتب يارا زهد تأمّلات فنّان، فإذا بالواقع يقتل حتى حلم الفنّان، تقول: "إنّها غزّة التي تحوّلت إلى لون رماديّ، وصرنا لا نرى غزّة إلا بالرماديّ، ولم نعد نملك لونًا لنرسم حياتنا فيه سواه". أمّا عند فادي أبو ياسين في مونولوج حرب: "غزّة صارت أسود وأبيض، والحرب محت كلّ الألوان"، وهو النصّ الوحيد الذي كُتب كلّه بالعامّيّة الغزّيّة، واعتمد الفنّان فيه بثّ الجمال والفنّ عبر مساعدة الناس أينما حلّ، إلى أن جاء سؤاله يختم فيه المشهد "لماذا لا تنصفنا أيّها العالم؟"، ومعه ندرك أنّ روح الفنّان تلاشت.
في اليوميّات، أيضًا، لعنة الزنّانة، فهي كما تسمّيها نجوى شمعون "الزنّانة الحقيرة". وهي عند عبد الله تايه "مثل سيّدة تطلب من زوجها طلبًا وهو لا يستطيع تلبيته، فتظلّ تزنّ وتلحّ عليه في الطلب ليل نهار حتى يضطرّ لإجابة طلبها، أو الشجار معها، أو الانفصال عنها"! ومن المؤكّد أنّ حبّ الحياة والفكاهة له نصيبه من اليوميّات، رغم الشقاء والتشريد وانتظار المعونات والشتاء الذي قال عنه محمود عسّاف للمرّة الأولى يكره سكّان الخيام أغنية فيروز (رجعت الشتويّة)؛ يتجلّى الحمار ليلعب دور البطولة في حركة النقل، فاضطرّ الدكتور سعيد الكحلوت "لركوب عربة يجرّها حمار، وقد شعر بالخجل وحاول أن يخبّئ وجهه، إلى أن شاركه الحديث الرجل الذي يجلس إلى جانبه وهو طبيب نازح اعتاد على ركوبها، ممّا خفّف عنه الخجل قليلًا، ثمّ غادره الخجل حينما رفض سائس الحمار أن يبيع حماره بأقلّ من 8 آلاف شيقل، أي ما يزيد على ألفي دولار، من دون العربة، ممّا أنهى لقاء الدكتور مع الطبيب حين سأله الأخير ممازحًا: يعني نحن نركب الآن وسيلة مواصلات بأربعة آلاف دولار، لمَ الخجل إذن؟".
لا خاتمة، إنّما تضرّعٌ ودعاءٌ أن تنتهي هذه الحرب الظالمة الغاشمة، وسلامٌ على البائسين في عيون طلعت قديح، وعلى سلّوم، حفيدة علي أبو ياسين، وجاره أبو نجيب، وسلامٌ على ليان أسامة أبو القمصان وأوراقها الخمسة آلاف مسألة التي قضت آلاف الدقائق في حلّها، وتحوّلت إلى حطب الطعام! ولشاهيناز غازي أبو شبيكة، والعروس جميلة، والعريس الشهيد، سلام! ونهيل مهنا وابنتها، ومي تايه وهي تشيح بنظرها بعيدًا كلّما سارت بجانب خيمة، فهي "تجد أنّ من العيب النظر إلى أهلي وهم في هذه الحالة التي تطعن الإنسانيّة في مقتل". والدكتور حسن القطراوي، ولميس، بصوتها المهزوم تعلن موت العصفور... ويوسف القدرة ينزح من قصّته إلى قصص الآخرين. وسلامٌ على الدكتورة إيمان الناطور وهي لا تشعر بشيء في هذا العالم سوى إيقاعات الموسيقى، ورائحة القهوة، ودفء البيت، وحالة الإلهام.
والسلام لجميع الكتّاب الذين وردت أسماؤهم في سلسلة "كتابة خلف الخطوط"، والذين لم ترد أسماؤهم أيضًا، وسلامٌ على الصامتين، والمجهولين تحت الركام.