في زحام ما تأتينا به المطابع من مجموعات شعرية، أتوقف طويلًا أمام مجموعة الشاعر السوري يوسف عويد الصياصنة الجديدة، والصادرة حديثًا بعنوان "برفق المولّه أفتحٌ باب الحلس"، والتي رأيت في عنوانها انحيازًا مسبقًا إلى مناخات شعرية تذهب نحو لون من الجزالة وحضور اللغة في صورة واستخدام مختلفين، خصوصًا وأنني أعرف شعر الصياصنة السابق من خلال ما أصدره من مجموعات شعرية أرى أنها كانت "المقدمة الموسيقية" لهذه المجموعة الجديدة المكتوبة برفق وتمهل وعلى مدار السنوات الأخيرة، وكأني به يتمهل إذ يكتب ليعود ويضيف إلى ما كتب من دون أن نلحظ نحن القراء فجوة هنا أو هناك.
"برفق المولّه أفتح باب الحلس" (منشورات اتحاد الكتاب العرب ــ دمشق 2024) قصائد تأتي من حالات وجد عميق يصغي خلالها الشاعر إلى هتافات القلب والروح، ويطلقها في سياق أناشيد فردية لها أبعاد تتجاوز حيز الذات الضيق، لتطاول المحيط والعالم والحياة، وتخاطب قارىء الشعر ببنائيات شعرية تتكىء على الإيقاع، وعلى لغة غنائية رقيقة:
"هو النور
لا بارد أتقيه،
ولا لاهب أفتديه،
ترقرق من شهقة الياسمين،
تمد غلائلها البيش،
تمتد من (طرحة)
تنثني كلما شاهدت معجزا،
تتعرى تفاصيله فتدوخُ"...
هي لغة تعاقر موسيقاها وإيقاعها، وتأخذهما نحو لواعج الروح ومتاعب النفس، فيما يأخذانها إلى ألق الشعر حين يتمرَد على ذاته ويكتب ذاته في طلاقة تبوح ولا تنسى في سطور بوحها أن تلامس الحياة والشمس بروح التفاؤل وتوق العشاق وهم يرسمون ملامحهم وأطياف حضورهم.
وبهذا المعنى، تبدو قصائد يوسف عويد الصياصنة، في مجموعته الشعرية الجديدة، لونًا مختلفًا من التجريب الذي يتجوّل في حدائق لا تكاد تستقر في قصائده، ولا يكاد يستقر في أريجها العطر إلا لكي ينهضا معًا وهما في الأحوال كلها شاعر يعشق قصيدته، وقصيدة تمنح شاعرها تحية الصباح مرة، وتحية المساء مرة أخرى، حيث اللغة بهجة في ذاتها، وحضور للمعنى في إهاب آخر، يشتعل بالضوء ويكاد يهمس بالمعاني والصور الشعرية: تتكىء القصائد على الصور الشعرية، ولكنها الصور التي تشبه صفًا طويلًا من حجارة الضوء المسنون التي يأخذ كل حجر منها بيد الآخر ليقيما معًا بيت القصيدة:
"نعود وتبقين في غيهب الذاكره
يحاصرنا الحسن،
حينا خيام ندى، في مهب الصباح،
وحينا لظى النار في الهاجره
وفي الحالتين تلوحين أنثى،
بكل التفاصيل، وامرأة،
لا تعد شمائلها، ساحره
وحين يباغتها الحب،
تخلط بين وجوه الحبيبات
والحور حول مياه الغدير،
تخايلن في ليلة مقمرة".
قصائد هذه المجموعة الشعرية لوحات سردية تلعب الطبيعة والحبيبة فيها دور البطولة، فهي أقرب ما تكون إلى "يوميات" تسترسل وتنهل من موضوعها الواحد الأثير، ولكنه واحد متعدد يقبض على تفاصيل لا تحصى يمكن لأي تفصيل منها أن يكون صورة الحياة، أو أحد وجوهها، ونحن في متابعة تلك التفاصيل نستعيد كل مرة مشهدًا صاخبًا مرة وموغلًا في سكونه الظاهر مرات، لكنه ينجح في المرات كلها في التواصل مع روح الشعر وسحره الذي لا يمكن تفسيره، والذي لا يحتاج للتفسير.
وبهذا المعنى، ومعه، نرى أن المجموعة تواظب على شكل فني للقصيدة يحافظ على ما أنجزه "جيل الستينيات" في الشعر العربي، ولكن بكثير من أناقة الصعود المتعالي على الشكل والقافية، بل المتعالي بهما نحو فضاءات فنية مغايرة تبحث دائمًا عن الضوء، وتجتهد في رسم اللوحات الشعرية من خلال براعة السبك والانتباه للعلاقة بين المضمون السردي بما هو جسر القصيدة إلى المعاني و"الحكايات"، وبين دراما السبك وصياغاته التي تتجوّل في الوعي، وتأخذنا معه في رحلة قراءة يقف في أساسها ومبتدئها جموح العاطفة التي تمتحن جمالها في أتون الشعر وتجلياته العميقة الهادرة، كما في سكون أمواجه ورقرقة مياهه:
"كان يبكي،
وينغمس النصل حتى الثمالة،
قيل لي صاديًا وصديئًا،
وما شحذته المبارد
كانت بكامل زينتها،
قد رأت في عيون تميمتها
أنها نسيت عشقها دافئًا
في فراش الوفاء
ومفعمة بالرجوع تشيع جثمانها،
لم نصدق
فقط مدية ويد
رجفت لحظة
ومضت في عروق الضحية
في مشهد آخر".
أجمل ما في قصائد هذه المجموعة الشعرية، العذبة والحارة، أن شاعرها يكتبها وهو قد تجاوز الثمانين من عمره بسنوات، وكأنه زهير بن أبي سلمى يمشي في دربه الطويل، يهمس، ويتمتم بالشعر، وكأنني أسمع العرب يسألون ابنه "كعب": هل كان أبوك يتمتم بلغة صامتة معلقته التي سينحاز لها الدهر كله، وتظل واقفة في معبد الشعر؟