}
عروض

"هدهد سين": ذاكرة الحب والغضب ممن يحكمون المدينة والعالم

دارين حوماني

30 يوليه 2024




هل "سين" هي امرأة كانت أم ستكون، أم مدينة، أم هي مشاهد من الماضي؟ لا ندري، لكن هذا التساؤل يطالعنا ونحن نقرأ مجموعة علي مطر الشعرية "هدهد سين" (مرفأ للثقافة والنشر، 2024)، فالمجموعة كلها يتوجّه بها إلى سين، ويدور فيها حول سين، ويحبّ فيها سين، في فرادة شعرية تحيل كلّ قصيدة في المجموعة مُركّبًا من بازل غزلي يصاحبه أنين عميق، أو مقصورة من قطارٍ شعريٍّ عن سين، قطارٍ من الحب يبدو أنه كان جزءًا من الماضي، يتمسّك به الشاعر، حيث يبتدئ به مجموعته قائلًا: "القطار الذي بين شعوركِ ودمعتكِ/ عبر صدري طيلة هذا النهار/ قطعتُ المدينة ذهابًا وإيابًا تاركًا إياه يجول بين ضلوعي/ تأملتُ بكل مقصورة/ بالسرعة المبطأة/ كان الماضي أغلب الركاب/ تنشقتُ بخار الذكريات/ واشتهيتُ أن أقلب القطار وأقذفك إلى المستقبل"...

وقصائد علي مطر، وهو الشاعر والمخرج والسيناريست، معنونة أغلبها بعنوانين، بلغتين، كأنه يقصد أكثر من معنى لكل قصيدة. في قصيدته المعنونة "ما لم يقله تشارلز بوكوفسكي لحبيبته، أقوله لسين" و"A scene from the past"، يحوّل علي حبيبته سين إلى Scene لتشكّل بحدّ ذاتها ذلك المشهد من فيلم يخصّه وحده، يقول في هذه القصيدة: "الكحول في بيروت لم تعد مُسْكِرة يا معشوقتي/ يحتجّ الروّاد أنها مغشوشة/ وأنا أضحك منهم في سرّي/ إذ أسكر بك منذ أن اجتاحني حبّك"... وفي القصيدة ذاتها، ينقلنا علي من بيروت في شعر ممسرح يبحث فيه عن الحقيقة إلى حيث مركزية الشعر والمسرح منذ ما قبل آلاف السنين، يقول: "استعدتُ معنى الخمر اليوناني/ حيث الحقيقة في خلايا النبيذ تخشاها الآلهة/ حيث من ذلك الزمن أصهل باسمك/ حتى تمزّق عنقي/ أتعرّى وأجرّك من يدك عارية إلى ساحة أثينا"...  

وثمة نوستالجيا في شعر علي تقع في ذلك المكان وذلك الزمان اللذين كان فيهما كاتبًا وزائرًا دائمًا في جريدة "السفير"، حيث يعيدنا رمزيًا إلى فيلمه القصير "القربان" الذي قرأ فيه طلال سلمان وعباس بيضون وعناية جابر وعبيدو باشا وروجيه عساف وسامر أبو هواش وأحمد بزون وآخرون من الجريدة، قرأوا قصيدة "القربان" لمحمود درويش مع مزج موسيقي وشعوري بين شوارع بيروت وبحرها والسفير والقصيدة في خمس عشرة دقيقة... وهنا في "هدهد سين" يتقمّص علي رائحة ورق تلك الجريدة وهو يحب معشوقته سين: "بالأمس، بالأمس كنا في الجرائد نكتب على الورق الحنطيّ/ ورق الجريدة نفسه الذي لم يمسسه الحبر/ كان يسمّى التلف ويقطعّه عمال المطبعة بحجم الـ A4 تقريبًا/ نضع الستفة أمامنا ونكتب مقالات وقصصًا وقصائد/... نفتتح الصفحة بجملة لا تعجبنا فنجعلكها/ ونرميها في سلّة المهملات/ ومرّات ينسى عمال التنظيف تفريغها فتبقى الجمل ليلة أخرى مجعلكة فوق بعضها/ مرّة كنتُ أبحث عن جملة تصفكِ، مزّقتُ لها سبع أوراق كي تصفكِ/ كان رأس القلم الـ BIC يسيل بثبات على الورق الحنطيّ/ ورق الجريدة نفسه الذي لم يمسسه الحبر/ كان ورقًا ولكنه كان رائحة أيضًا. لا يمكن تشبيه رائحته بشيء، مثل القرنفل أو القرفة أو المانجا...".

ومع أن قصائد مجموعة علي تشكّل نصًا واحدًا عن حبيبته المفترضة سين إلا أنه يتجلّى لنا أن لكل قصيدة حكاية؛ ففي إحداها المعنونة "A scene aginst the wall" يحكي عن عشاق تركوا أثرًا أو خزانة أو درزة ألم في حياة معشوقته، وعن كلمات تعلق بلا مسامير، وعن حب في المدينة يُطلق عليه الرصاص في مقابل قلق لا يُطلق عليه رصاص، فالقلق "يجوب المدينة القاتلة... إنه يترك وراءه حبلًا من الصمت وأرضية سميكة من الغفران"... القلق نفسه يظهر في ذهاب وإياب الشاعر حول سين، حيث يحدّثها ثم يعود إلى ماضيه ثم يعود إليها: "من أنا من أنا من أنا/ لأخور كالثور ضد أعضائك/ وأسمّيها بأسمائها؟/ فيما مضى كنتُ أحوّل المسرح إلى أكواريوم/ وأسبح فيه كسمكة/ بحثتُ عنك طويلًا سين/ مثلما يبحث إلهٌ يوناني عن كوكبه الضائع/ من أنا لأجدك؟". والمدينة القلقة نفسها التي يُطلق الرصاص فيها على كل إمكانية للحب، تتجلّى في قصيدة أخرى يقول فيها الشاعر: "لم يعد في بيروت مرفأ/ بيروت الآن ليست قديمة ولا حديثة/ مع ذلك أكتب لك قصائد الحب...". وهو بهذا المعنى يقول بأن بيروت فقدت شيئًا من ماضيها، ذلك الماضي الذي كان يضيف معنى للمدينة عبر معالمها وعماراتها المكثّفة بالتاريخ وبالزمن، اختفى مع انفجار مرفئها وانهيار اقتصادها، مع تبدّلها كلّها إلى مدينة بلا ماضٍ وبلا حاضر...  

وتأتي قصيدة "كنبة من حروف" لتدسّ فينا ألم الشاعر الذي يتقاطع مع ألمنا في الشعور بعدم الانتماء لهذا العالم، إنه يُرجعنا إلى ذواتنا، كأن هذه القصيدة تقيم فينا منذ زمن، وقد أيقظها علي فينا، إذ يقول: "الأصدقاء سيلاحظون فقط الشرود والسهو/ وانخفاض منسوب التحدّث في السياسة/ سين/ أتعمّد النوم على كنبة ويدي خلف رأسي/ وأحيانًا كفّي تحت خدّي/ لم يكن لي سريرٌ في حياتي/ أنا عاشق بلا سرير/ لم يولد سريري بعد/ لم يصنعه نجارٌ بعد، لم تُقطع شجرته بعد/ ولا صيغ معدنه/ أفضّله من معدن وليأخذ من الغابة معنى المتاهة فحسب".

مشتركا الألم والمتاهة ليسا وحدهما اللذان بيني وبين علي، فثمة إقامة لعلي في مونتريال تشكّل مشتركًا آخر بيننا، على الرغم من أننا لم نلتقِ في هذه المدينة القديمة الجديدة من قبل، حيث مبانٍ وكنائس تشبه القلاع، وبحيرات تركتها أيدي آلهة هنا قبل أن تتجمّد أو تختفي تلك الآلهة أمام تطوّرنا المتوحش. يقول في قصيدته: "أقول هذا نضوجي A scene on the lake of love": "أرى قصرًا يشبه القلعة، وأقول: هذا نضوجي كاملًا كقصر... أنا سيّد سين، ناضجٌ كملك في مونتريال/ وضيوفنا عشاق مثلنا يهتفون: الحب لا يتدحرج كالنرد بل يمتلئ كصفحة/ ملكٌ في مونتريال يحب الحقيقة والخمر/ ويقول: في الخمر الحقيقة في الحقيقة الخمر.../ ماذا عليّ أن أفعل بالزمن أنا الذي يهوى سين/ غير أن أعضّ على هواي مثلما يعضّ ملكٌ على مملكته في مونتريال/ متجمّدًا إلى الأبد قرب البحيرة؟ ماذا عليّ أن أفعل أنا الذي أحبّ سين؟/ أرى دائرة مكتملة وأقول هذا نضوجي كاملٌ كدائرة". إذًا، هي غربة الشاعر التي شكّلت جزءًا من قصيدته النثرية التي تختار كلماتها من شوارع مونتريال وليس من فضاءات وقواميس لغوية، ما يؤكّد على هوية الشاعر الإخراجية والتصويرية وما يعيدنا إلى حوار أجراه الشاعر إسكندر حبش مع علي مطر نُشر بتاريخ 6-2-1993 في جريدة "السفير" عقب حصول مطر على تنويه من "جائزة يوسف الخال للشعر" عن باكورته الشعرية "المزغرد". يقول مطر في الحوار: "أجد نفسي أكتب عن أقرب الأشياء إليّ، عن الجدران والبنايات، والشوارع والغرف"، ثم يقول: "الكتابة هي نوع من الحرية التي ستبقى على الورق"، فهل حديث الشاعر عن النضوج في مونتريال هو خروج حريّته من الورق؟

يحوّل علي حبيبته سين إلى Scene لتشكّل بحدّ ذاتها ذلك المشهد من فيلم يخصّه وحده...


بحيرات، قطارات، محطات، ومدن أشباح، ومن مشهد لآخر يمضي بنا علي في قصيدة "كي ترى سين مثلي A scene out of love" تتشابه عباراتها مع سيناريوهاته الفيلمية، يبدو لنا فيها أن علي يلعب بالصور، بالمشهديات، بالكلمات، ويشدّنا إلى مونولوغه، وهو يعدّد أكثر من ثلاثين طريقة كي يرى القارئ سين مثلما يراها هو، وهذه الطرق ليست طرقًا لنرى سين فحسب، بل هي طرق كي نكتب قصيدة كهاجس مثل قصيدة علي، ونفهم المدينة كقلق كما يفهمها علي. وحين نقرأ تلك الطرق نقرأها كلًّا على حدة، فكل طريقة لها نصّها الخاصّ وانقطاعها الخاصّ عن الآخرين، كلّ طريقة هي دعوة لنا لخوض مغامرة حياتية تكشف لنا بؤس هذه الحياة، وإن بدت مقلقة، ومختزنة بالوحدة وبالمطر وبالموت، ومما يقول في هذه القصيدة: "كي ترى سين مثلي عليك أن تكون حرًّا... عليك أن تفهم معنى اللوتس ليس كزهرة فحسب، بل ككوكب... عليك أن تركب قطارًا بلا وجهة، وتنزل فجأة في محطة بلا ناس... ثم تركب وتنزل في محطة تعجّ بالطيور ثم تركب وتنزل في محطة تعجّ بنسوة ورجال عراة إلا من الألوان... عليك أن تشتري قفلًا للغباء وقبعة للاختفاء... عليك أن تكتب ألف قصيدة، ثم تنساها، ثم تتألم كثيرًا كي تستعيدها، وعليك أن تجد أن القصائد ليست مهمة فتحوّلها إلى مسامات كي تستقبل عطر سين... كي ترى سين مثلي لا تضرب امرأة ولا طفلًا، لا تقتل عصفورًا ولا فراشة... كي ترى سين مثلي عليك أن تكتب اسم سين كأنه مركَبٌ لصيادي اللؤلؤ...". 

ويحلم علي بعالم آخر في قصيدته "الانتظار"، قصيدة ذات إيقاع خاص فينا، تبدو مثل صوت يغنّي وحيدًا، يحاول فيها ردم ثقوب وتفصيلات جوانية بحثًا عن احتمالية العيش في عالم أفضل، "كان عليّ أن أمشي إلى الوراء في المستقبل، حيث لا يمكن تصديق الأشياء وحيث تنعدم النبوءات، وتكثر باكتيريا الموسيقى، وتكثر أيضًا قبلات على هيئة نجوم عابرة. في المستقبل على طاولة ليست طاولة مسدس ليس مسدسًا، جثة ليست جثة، وخرائط ليست خرائط... لا مساحات للخوف ولا دم حزينًا بلا إراقة... في المستقبل حيث لا خلف خلف الخلف... ولا قتلة يرجمون زانية... حيث لا حروب رب، ولا حروب توابل، ولا حروب عبيد.. في المستقبل حيث أمشي إلى وراء وأنزل إلى أعلى وأنطوي إلى أمام، خزانة زجاجية فيها كتاب عن الحب إلى سين، وشاشة تعرض فيلمًا اسمه ‘الطنين‘ يروي عن ثقوب الحاضر وحُفر في الماضي". إننا أمام شاعر يحلم بأن يشطب هذا الوجود بآلهته وأنبيائه وشرائعه، وحروبه الدينية والاقتصادية والطبقية، من أجل عالم ليس فيه غير الحب.   

عقب إخراجه للفيلم القصير "انسى" في عام 2022 يُسأل علي مطر عن فيلمه، يجيب: "كي لا ننسى. حيث الذاكرة مهدّدة بالتلاشي. السينما هي الفن الأكثر قدرة على حفظ ليس الذاكرة فحسب، إنما الكثافة الشعورية. لهذا حاولت أن أكثّف وجع ثائر لبناني فقد كل شيء..."، ويقول أيضًا: "إنسانيتنا في خطر جدّي حيث تحكمنا في لبنان عصابة تمارس توحّشها إلى أبعد الحدود. نشهد عملية منهجية لتحطيم العقل وتدمير سلّم القيم... لم نخرج من الحرب الأهلية التي استمرت خمس عشرة سنة إلا إلى حروب أخرى أكثر عبثية. الظلامية التي تتسلّط، لم تعد عبر رجل دين فحسب، بل عبر رجل عسكري ورجل أعمال ورجل بنك"؛ وبهذا المعنى فإن علي يحفظ ذاكرة غضبه من واقع المدينة وممن يحكمونها وممن يحكمون العالم ليس في فيلمه فحسب، بل في قصائده أيضًا وهو يرى العالم غابة من الذئاب، إذ يقول لسين بنفس الكثافة الشعورية في فيلمه: "بإمكانك أن تسيري فوق غيمة، لتشاهدي الغابة من فوق/ سأبوح، لكن سيغويني الخوار أكثر/ كي يسمع الذئب في الغابة المجاورة/... ماذا تريد الغابة منكِ؟... ماذا تريد الغابة مني؟ هل تريدني أن أعضّ جذعًا بدلًا من أن أعضّ كتفكِ؟ وماذا تريد الغابة منّا؟".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.