يُبَوْصَلُ كِتَابُ "جراح المدن من درعة إلى شيكاغو" للكاتب عبد العزيز الرّاشدي- منشورات المتوسط (2023)- بفكرة الوظيفة الاستكشافية التي تنظّم أطوار الحكي، في سياق السُّرود الرّحليّة التي تفرضها الحاجة إلى معرفة بناء الأنظمة الاجتماعية والثّقافية للمواقع والبلدان وافتحاص طبائعها، عبر التّحرك والمور الذي تتقصّده الذات في سبيل الإحاطة بما تعاينه وتتبصّره نظرة المُرتحِل للعالم. وتعدّ الكتابة بعد انتفاء الارتحال وانقضائه الإشهاد الحقيقيّ للرحلة، ونسجّل أنّ الاستعادة تظلّ فعلًا تفرضه الانتقائيّة سواء بشكلٍ توثيقيٍّ أو مستذكر (كما الحال مع براغ في مملكة بوهيميا)، بل إنّ الارتحال يقتضي عينًا فاحصة قائمة على سرد المحيط الذي تتحّرك فيه الذّات المفردة، وكشف غرائبيّتِه أو سويّته. وأدب الرحلة نوع سرديّ عرفته الثقافة العربية مع هارون بن يحيى وابن بطوطة وابن سليم الأسواني؛ ويتحقّق امتداده الحديث مع عبد العزيز الراشدي بعد "سندباد الصحراء".
يمضي المرتحل في "جراح المدن" نحو إعادة حبْك المواقف وفق ما تحمله الذات من رواسب تجترحها من محيطها والفضاء المستكشَف، وبالتّالي، اصطناع أفكار وتصورات تُبنى من خلال الاسترشاد بالتخييل باعتباره آليةً تهب للنص عمقه الأدبي، عبر نسج عوالم قائمة على التركيب الموازي والمقارن بين جماعتين أو فردين أو فكرتين، بلغة كثيفة، تكتنفها تركيبة تراهن على التنويع في الأسلوب، مع التّحرك في مساحة البياض التي يغتنمها المبدع لاستثمار التفاعلات الميتانصية (1)، كونه يعرض السّرد ويفرد له فجوة قائمة على النقد، ويبرم أنواعًا من المقايسة مع المحيط المغاير ومحيط الانتساب، لنقل إن المغامرة الفردية تنطلق من زاوية وجود الآخر وتُسقطها على الذات.
بنية الرحلات
التّقنية جزء من الكتابة تهب للنّص جماليّة الأدبيّة، وتذهب للرّد عن أسئلة، كيف تقدم الحكايات؟ وبأي طريقة؟ إنّ العمل يأتي في أضمومة ثُمانيّة، تمزج بشكل تناوبيّ بين "رحلات خارجيّة وأخرى داخليّة"، والكتابة لا تحكمها فكرة التّزمين التقليدي، وينتفي فيها المعيار الكرونولوجي، بل ينتظم الحكي وفق الموضوع والتيمة على امتداد الرّحلات وفق منطق التوازي بين عالمين، لنقل إن "جراح المدن" تلعب بالمقولة الزمنية الكلاسيكية، وتتجاوز الخطّية المألوفة في الرحلات الممتدّة بدون انقطاع، وفي سياق المغايرة تتشكّل اللاخطيّة، سيما في منطق الإدبار والإقبال بين مفتتح الحكايات ومنغلقها، بتراكم الحكايات وفق الفهم الحديث للرحلة، ونسجّل أن الرحلات تبدأ بحكاية "رفقة بيكاسو في شيكاغو" وتنغلق بـ "شجون الرّباط". وداخل الاشتغال بالزمن في الرحلة الواحدة تطغى أفعال مؤطرة لسيرورة الحكي، والمثال الإسقاطي في النموذج الأول من الحكي الموسوم بـ"رفقة بيكاسو في شيكاغو".
تتبدّى مقولة الزمن في تجليات الأفعال المؤطّرة وفق التمثيلية الآتية: "أمس، أنا على العشاء، الثلج يسقط..."، المغيّبة إجرائيًا للمنطق الزمني في ذهنيّة الكاتب، والتعامل مع الوقائع بشكل تلقائي، ويمكن إبان المؤشرات بوصلة الزمن بلفظة "أمس" لتنظيم الأحداث، كونه العُصب، ومنه يُفهم أن حاضر السرد يقعّد على أرضية الوصول إلى شيكاغو، ومن الأرضية نفسها تُعيّن السيرورة في الترتيب الزّمني للوقائع، ويحكمها في بعض أطوار الحكي استرجاعات، تحدّد في التصفيح بين (6-8) على صعيد سعة الحكي، ومداها يوم واحد، لا سيما في الحديث عن واقعة التفيؤ والازدواجية بين المواطن الأميركي وغيره والاسترشاد بالعامل باعتباره القائم بالفعل، وقد جرى الاسترجاع بعد الوصول إلى شيكاغو، والحدث المستعاد وقع إجرائيا في مطار فرانكفورت بتضمين صيغة (الأمس)، وداخل الاسترجاع (استرجاع خارجيّ) يستهدف جورج أورويل في روايته "متشردًا في باريس"، يوازي فيه السارد بين العاملين: العامل في المطار، وعامل الفندق (غاسل الصحون) والتقاطع مع الروتينيّة، أحدهما داخل القصة إنشائيًا، والآخر خارجها فعليًا. وينتهي السرد باستكشاف فنون شيكاغو وينغلق بالعودة إلى المطار، وهو نموذج تسير عليه جلّ الرّحلات؛ وداخل أخرى ينسلخ المبدع عن عامل الزمن، ليترك مساحة لطفو تيمة المفاهيم، خصوصًا أن بعض الرّحلات تُسقَط فيها فكرة التسجيل التوثيقي، وتترسبّ الأفعال الوجوديّة، فيمجّد المفهوم "البطء/ النسيان/ الموت" عوض التجربة، كما نسجّل في "رحلة إلى مملكة بوهيميا"، حيث تهجس المخيّلة بمفاهيم تنهل من تصورات ميلان كونديرا، وتصير براغ المفهوم الوجودي الأكبر، لاسيما في علاقة بالفنّ.
أما مدة الحكي على صعيد المقاطع فيغلب عليها التلخيص والحذف، والوقف لإثارة مواضيع تفتح الباب أما الاسترشاد الذي يتناول به الكاتب موضوعه، من أجل الخوض في قلقه والقضايا التي تشغله وتثيره في سياق التوازي أو التقاطع بين الحياة التي تشكل موئل السرد، وبين الحيوات المعاشة فعلًا أو قراءة، ويظهر المشهد مختزلًا أحيانًا، بما يبرّر قوة وكثافة الكتابة في الرحلة، حيث الانتقائية تظل في الشكل البنيوي للنموذج من أضمومة الرحلات، والتي تنظم أطوار الحكي، ويتواتر الحكي على امتداد الرّحلات بصيغة التناوب، بمُفتتَح رحليٍّ خارجيٍّ نحو شيكاغو الأميركية، ومُنغلقٍ رهين بالتّواجد في الرّباط أرض المغرب، وبينهما يحضر التّناوب بين الأرض المحلّية والأرض الغربية، وهو خروج من المحلّية نحو العالميّة تارة أو القوميّة تارة أخرى، والعودة مجدّدا إلى ميدان التجذّر والأصل المرتهن بالمحليّة.
الميتانصية: الارتحال والجلد
الارتحال بمثابة "اختبار القدرة على الجلد، والمُكنة من التّتبع، وسرده سعي في معرفة المجهول، وبوح بما لا يُكتم" (2) كما ينظر إليه عبد الله إبراهيم، ومن هنا، فإنه لا ينطوي على البراءة، والسعي عبره إلى تغليف التقرير بالتّمثيل، خصوصًا أن الوظائف التقريرية تتلبّس التخييل وتستعير رمزيّته، للبث في قضايا متباينة لها صلة بالمواضعة السياقيّة، وإبداء أحكام الذات وانطباعاتها على العالم، من خلال التفاعل الميتانصيّ، ومكمنه "التفكير في الحدث وكشف ما ورائياته وأبعاده" (3)، ويأتي في بنية نصّية مستقلّة، ينطوي عليها العمل الحكائي "جراح المدن"، القائم على النّقد والجلد، وذلك من زواية سوسيونصيّة تجمعها صلات جذريّة بالسياقات، ونثير قضايا في محاولة فصلٍ غير قطعيٍّ، ما دام إدراج الصوت ممكنا في جوانب مختلفة، ونسجّلها وفق الآتي:
السوسيوسياسي
تفرض الوضعية السردية إبانة المستويات ذات العلاقة بالمتعالي النّصيّ الذي يوظف من الأعلى بعيدا عن موضوع الحكي، من قبيل استثمار الميتانص في طابع سردي، ولعلّ حجم الاطلاع والمقايسة وفهم الواقع يفضي إلى نتائج يكون فيها الانعكاس السياسي باديًا على البنى الاجتماعية، وتُنسب إثارتها إلى همّ المثقف وموقفه من عالمه، ونذكر في سياق النقد المغلف بالمعطى السياسي، قول السارد: "نضرب بالأيدي وبالرّصاص" (ص 10)، وفي المعطى وعيٌ قبليّ قائم على البرديغم العنيف ذي العلاقة بالسياق التاريخي إبان السبعينات في السياسة المغربية، أو ما يُنعت بسنوات الجمر والرّصاصّ، بما هو مجانبة للرحلة إلى "ما ورائياتها"؛ والمعطى نفسه يتجدّد في صيغته المباشرة، كامتداد للمعطى، ونتيجة للفعل في الماضي، حيث نسجّل قول السارد الذي يبدي أدواره وفاعليته ومواقفه من عالم أبعد من الارتحال: "حكومتي هذه الأيام لا تلاحق المبدعين. لاحقتهم خلال سنوات الجمر والرّصاص القديمة، ودفعتهم إلى الاهتمام بالشكل والأساليب لا الأفكار، لقد رسموا حدود حركتهم، ولم تعد السياسة تستهويهم، لأن المواطن لا يقرأ الأفكار، بل يقرأ عن الفضائح والمؤخرات" (ص 60)، وبالتالي، فالفعل السابق يؤكّده السرد اللاحق مبدئيا ويحقّقه، وينطوي السرد على إقدار المثقف بشكل قاهر على الانكفاء بالبنية الأدبية في قراءة النصوص بشكل معزول ومحصور، وتلافي الدلالات ذات العلاقة بالبينة الفكرية والاجتماعية. إلى درجة جاء معها وفق التوجيه الثقافي تجنيب المتلقّي الصّلة الحميميّة بالفعل السردي، نحو فعل راهنيّ يقتصر على التّافه والمتجاوز، له صلة "بالفضائح...". بل إنّ النّقد السّياسي أيضًا، لم ينصرف على السّياسيّ نفسه، في ظلّ القصور على الإنصات، ونذكر سياق الحكي: "في البرلمان والإدارة، حيث تسود قيم التزلّف والوشاية وطحن الخصم بأساليب قذرة. السياسيون يحاولون قدر الإمكان إلغاء وجود الخصم، لكي يسود خطابهم الأوحد في الساحة" (ص 11). وهو عطب في التنشئة وتأهيل الفرد، إلى درجة فرض الرأي، وطمس صوت الآخر. ويمضي الكاتب في اتجاه عرض تصوّره للعالم والمكان الذي يعيش فيه، خصوصًا في مدار فهم منطق الآخر، عبر الاكتفاء بنعت تواجد المغاربة في صيغة الجماعة من المتكلمين، قائلًا: "نحن فئران تجارب داخل مصيدة، وليس بوسعنا سوى الغضب والتذمّر دون نتيجة أمام سياسة تدرك جيّدًا ما تريد داخل الغرفة المغلقة" (ص 18)، والخطاب قائم على انعكاس الفعل المحكّم فيه، المؤطر بالرغبة السياسية.
الطبقة الفوقية
إنّ النص الرّحلي في ظل ارتباطه بالنثر "يخلق عالمًا بواسطة اللغة، ومن خلاله يمارس رؤيته للعالم الاجتماعي الذي يعيش فيه بكل جزئياته وتفاصيله" (4) حسب سعيد يقطين، ما يجعل من النصوص النثرية متنا أقرب إلى الواقع الاجتماعي، كونها -النصوص- تجسيد للبنيات الاجتماعية المتفاعلة مع الواقع المعاش، ومن هنا، تظهر الميتانصّات النّقدية بصوت المرتحِل، والقائمة على: نقد بّراني متمركز على الطبقة الفوقية، ونقد جوّاني يقتصر على الطبقة الدنيويّة؛ لا سيما حينما يحضر الاستلاب الأخلاقي، من خلال التّجرّد من المقومات المهيكلة للإنسان، أو مخالفة الأشكال القائمة على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وظهور المباينة، في سياق تأثير العلوي وتأثر الدنيوي.
ننصّص على الأشكال العينيّة للنقد الاجتماعي، حيث يتمّ إذكاء الكتابة النقدية عن طريق الميتانص البراني، باستهداف الذوات الفوقية في موقع المسؤولية داخل المرفق العمومي، ونقد نسق الاشتغال ، بقول السارد: "أعرف أنّ مدير السكّة شخصية معينة، سيادية، لم يختره البرلمان ولا الحكومة ليُحاسب، تم اختياره بأوامر عليا، كما تقول الجرائد لوقت طويل، لذلك لن يحاسبه" (ص 18)، ويُتبعه بالعاملة المتستّرة التي تتهيكل معها فكرة التحالف في تلافي إيصال الصوت، ما دامت الهيمنة في أصلها هي تلك "اللحظة التي تتحقق فيها التحالفات أساسا" (5)، وفي سياق نقدها من قبل الفاعل يقول: "لا يهمها الأثر، ولا الوظيفة، ولا الخدمة. المهم هو دوائر البغيضة المهووسة ببيع كلّ شيء وشراء كلّ شيء، حتى الذمم الرّخيصة" (ص 21)، وصولًا إلى ردود الأفعال المتساوقة مع المفترض والمحتمل، المتصل أساسًا بلا جدوى التفكير في إعلاء الصوت أو محاولة شجب الواقع، والتنصيص على ذاكرة مستعادة في سياق التمثيل بواقعة الاحتجاج على تأخر القطار لما يقارب خمس ساعات، بقول السارد في أطوارها: "جاءت القوّات المدججّة بالعصي، وطاردتهم في كل مكان، وانتهى الأمر. لا يسمح بالاحتجاج على مدير السّكّة الحديد، ولا على خدمات الحديد، وإذا احتجّ الناس يطاردهم رجال الحديد" (ص 20)، وفي شعرية الحديد، كناية على القوة والحصانة، ونكاية موازية ومستمرة من صاحبه على الألم القاهر والتعسّف، مما يفضي إلى ظهور أشكال تستهدف صوت المستبِدّ وواقع القهر بالنسبة للمستبَدّ، وهي تمثيلية مجتمعية لواقع مجتمعي مُعاش ينطلق من سياق معلوم غير مختلق، ونتاج سلوك متعايش معه بشكل دوري، أو على الأقل، معاش في المجال الذي ينتمي إليها السارد.
الطبقة التحتيّة
لم تسلم الذات من النقد كانعكاس جواني فردي، لفعل تفرضه أنساق البنية الفوقية، في قول السارد: "'زغبني' الله، وقمت مرّة أو مرتين بالاتصال بخدمة قطاري، وهو رقم أخضر تتصل به ليعطيك معلومات مواقيت القطار. ومنذ ذلك الوقت أتلقى اتصالات متعدّدة من موظفين يطلبون مني معلومات عن نفسي، وكم هو مدخولي، إلخ." (ص 22)، إنه خطاب يستهدف استبدال الوعي المتأصل، بوعيٍ مكتسب يفرضه الإذعان، و"زغبني" تحمل في طياتها عمقًا لغويًا له صلة بالكلام الدّارج ذي الحمولة العميقة، المنطوية في حدّها على الشؤم وسوء الحظ، وتنذر على السرعة في اتخاذ القرار، وهو انعكاس لمعاتبة ذاتية، لنقل، إن شكل التضييق الذي لحق الفاعل، هو استمرار لسوء المعاملة، بقدرٍ يجعل الفرد يتعرض لأشكال القهر والتجاوزات الممكنة، دفعًا لانكفاء الرغبة في الشجب أو التّشكّي، لا سيما أن فعل التشكّي نفسه، يفضي إلى نتائج تُعجّل بجلد الذات، ما دامت المعاملة تعمّق جراج الشكوى ولا تلطّفها. لا يتوقف الميتناص الملتحم بالطبقة الدنيا عند حدّ الذات الفاعلة والمركزيّة في السرد، بل تدنو الذات بصوتها للوقوف عند وضعية الآخر خارج المركز، وخصوصية المكان التي تنعكس بشكل سلوكي على الإنسان المقهور، بحيث تنتقد طبيعة الوضعية في سياق العرض، قائلة: "في طريق الصحراء، يسرح الموت ويتشوّق لضمّ أجساد المزارعين والرعاة والجنود. تغرق فكرة الوطن في طين بيوت صغيرة واطئة تهدمها السيول أو تحت أقدام التلاميذ الحافية وهم يطؤون بين الممرات بحثا عن يباس أو أرض صلبة يلعبون عليها..." (ص 50)، ولعلّ هذا النقد في موضع المحلّية، يُشطّر على مواضع الصحراء في الجنوب الشرقي، دون تحديد الموضع بشكلٍ خاص، وهو انعكاس شمولي للوضع البائس في المنطقة على صعيد الفرد الدنيوي المتموضع خارج المركز "الحضاري". ويرتبط سيكولوجيًّا بشكل وثيق بحركة المثقف المرتحِل، الذي لا يمكن إغفاله عن وعي المتلقي وفق التعاقد الذي يخوّل موقعة النص وموقعة النقد، خصوصًا في سياق الحركية داخل الأفضية، وإنماء الحسّ المقارن، بين ذوات غربيّة تخلّصت من رجعيّتها وسعت إلى تجويد الأمكنة بما هي انعكاس للوعي الحقيقي الإنساني، وأخرى محلية تزكي الرّجعية بالسلوك في علاقتها بغياب الرغبة في تأهيل المكان الذي تنتمي إليه، أي، تبخيس الأفراد وتجريدهم ممّا يليق بآدميتهم بشكل مواز.
الوازع في بناء الميتانص رهين الصّلة بالعلاقة المرتبط إمّا بتأثير الآخر على تفكير الذات، أو من خلال فهم الثقافة المتقدمة وإسقاطها على الثقافة المتأخرة، أو من خلال التأثير الذي يحدثه العلوي على الدنيوي؛ إنها علاقات سجالية منشأة على أرضية التجاذبات الإنسانية، منظورا إليها كمعيار حقيقي لإبانة الصورة، وهو المعطى التي ستظهره المقارنات الحقيقية في هذا السياق بشكل ظاهر.
تصوير الذات بوجوديّة الآخر
يتأطر تفاعل الذات مع الآخر بمنظار الجغرافيا، أو لنقل، إن الذات تنتقد نفسها وسلوكها بشكل متساوق مع وجود الآخر، عبر تعيين السلوك موئلا للنقد، من زاوية النقد المزدوج، بحيث تحضر الذات فاشلة، قلقة وعاجزة أمام واقع تراجيدي ينعكس على الشعور، في حين يحضر الآخر متفوقا، قويا بقيم عليا، ولعل ديدن الانتقاد ينطوي على رفض الواقع إلى جانب مستويات التأخر، وعدم تأهيل الفضاء؛ وهي مواقف اتجاه نفسها وعالمها، وكشف بطانة الذّات، والانتباه لوجود الآخر، بمحركات الجغرافيا السلوكية.
الرغبة في الموت يعدّ امتدادًا تامًا للشعور الدّاخلي، وتشكّل الرغبة تأطيرًا للفعل، الذي يبقى مستحسنًا في شيكاغو وكئيبًا في الصحراء، ونسجّل فيما يبرّر ذلك قول السارد: "لأول مرة أحس بأن الموت يمكن أن يكون هادئا ولطيفا وباردا، عكس ما بدا لي دائما في الصحراء: موت أحمر أو أسود، ساخن ومتعب.." (ص 8)، وفي موقع آخر في شعرية البطء يقول السارد عن براغ: "لقد تجاوز الناس الموت، ووضعوه في المتحف ليتحنّط، وخرجوا للاحتفاء بالحياة. أمّا نحن، فنحتفي بالموت في كلّ مكان، ونجعله رفيقنا. إنه في الدار والمسجد والتلفزيون وفي حياتنا اليوميّة. موت حقيقي ومستعار أيضا" (ص 36)، بالفعل هو امتداد للبنية الجغرافيا والقوة القاهرة للمناخ، إنه شعور يتوازى مع وظائف المكان وممكناته، بين هشاشة المكان في مقابل المكان المؤهل، ويطّرد معهما الشعور الذي تنفعل معه الذات بفعل الاشتراطات التي تفرضها الكينونة المجالية على الشّعور، والانعكاسات المرآوية التي تصيب الفرد، والناتجة عن طبيعة المكان. إنّ تفاعلات المطر أو الثلج مع التربة بوجود الإنسان كعنصر متأثر، مخالف تمامًا لتفاعل المطر مع الإسفلت والإسمنت، والنتائج التي تشرّعها التفاعلات، تفرّخ المعاناة والقساوة مع النموذج الأول، حيث ينعكس المناخ على الذات والسلوك بشكل سلبي قاهر، على عكس النموذج التالي، الذي تتلذّذ الحياة به، وتنعكس اللحظة إيجابا على الذات.
هي مقارنة بين مركز العالم وهامشه، بين هدوء النقاش في المركز (شيكاغو)، والحدّة في الهامش، ونستطرد في هذا السياق القول: "النقاشات هادئة هنا -يقصد بلدة فوريست، بضواحي شيكاغو- لإن العالم يحسّ بنفسه مُكتملا ولا مواضيع ساخنة. في بلداتنا نتناقش بحدّة، ونضرب بالأيادي والرّصاص لإحساسنا بأن حسم نقاش ما سيؤدي إلى تغيير" (ص 10)، وهنا تومئ رمزية اللغة، إلى معاني تدخل المعترك الإنساني، لأنها "تُنجَز في العالم والتجربة والخبرة الإنسانية التفاعلية، وبقدر ما تكون اللغة أبعد عن مجرد بنية منغلقة، بقدر ما تكون ترميزا وتمثيلا للعالم وقضاياه"، وإبداء الشعور بالكمال عند الآخر بما يُفنِي مشاعر النقصان والدونية، خلافا للنقاش العنيف والصاخب، بما يدجج مشاعر الرغبة في الوصول لنموذج مفترض من الكمال، حسْبا أن النبرة الحادّة هي السبيل في تغيير الواقع، في حين أنها تجهزُ بشكل مستمر على ماهية الإنسان، وتجعله يخوض في جدلٍ يائس غير مجْد، وغير قابل لتغيير الإنسان، والانكفاء بالمكان وملازمته دون القدرة على برْحه دليل آخر على قصور الفهم والنظرة إلى الحياة. وفي سياق نقاش الفاعل المركزي مع كاتبة أميركية تظهر خصيصة الإنصات كفعل مستمرّ مواز للسكون بخلاف المغرب، في قول السارد: "يعجبني إنصاتها. أتوقف عن الإنصات لها في لحظة، وأتذكّر المغرب. المغاربة عادة لا يسمعون لبعضهم ليختلفوا، كلّ شخص يَبني على هامش كلام محاوره كلاما موازيا ليصير الحديث أعمدة تتقاطع. عندما تُحادث شخصا ما، لا يتركك تكمّل فكرتك، تراه مستعجلًا -بنفاذ صبر- إنهاء كلامك، ليتحدث ويتبجّح برؤيته للعالم وتجاربه..." (ص 11). وهذا الاسترشاد، يعدّ نوعا من الاستهداء الذي تفرضه التجربة الرّحلية، وتكملةً في الآن نفسه إلى الحدّة في النقاش الذي سبقت إثارته، بحيث أن الغربيّ ووفرة معرفته وارتحاله ينزوي بنفسه في مساحة الإنصات والسماع لتعزيز معارفه، وينأى الخوض كثيرا في الأحاديث والهيمنة على الخطاب، في حين يحضر المغربي ذاعنا لصوت الآخر، والركوب على الأفكار، وتجاوزها بشكل فجّ دون معرفة قبلية بالمعطى، بالتالي، هو تصوير للأدوار المعكوسة، حيث العارف "الغربي" يحتاج إلى الكلام، في حين أن الجاهل "المغربي" في حاجة إلى الإنصات، غير أن واقع التجربة ينحو في مسار المخالفة والمغايرة، ولا يستقيم إلا بعكس الأدوار.
إن النقد المزدوج لم يتوقف عند هذا الحدّ، إنّه ظلّ الحكي، بحيث تحضر المقارنة أيضا في الجغرافيا داخل المكان الواحد المنصّص إلى المركز والهامش، حيث نسجّل في مواضع من الكتابة: طبائع الأفراح في الموضعين، والتباين الحضاري في العمران والتأهيل؛ ونتنبّه إلى أنّه مهما بلغت الحضارة العمرانية في المراكز، إلّا أنّ الحضارة الإنسانية في الهامش مع الذات المقهورة تتنافى مع الزّيف، وتتجرّد من التّحامل والتواطؤ، وتتبرّم من المعاداة.
تذييل
إن العمل يتنظم في سياق السرود الرحليّة، المؤمنة بفكرة قياس ثقافة الآخر على ثقافة الأنا، وإبداء المباينة والمغايرة بالاستبصار الذي يراهن عليه المثقف، والسير بالكتابة نحو تكريس النقد داخل الكتابة، أي، توظيف الميتانص، والتعقيب على المواقف والتصورات، والاسترشاد بها، بغية إبداء موقف الكاتب من العالم، وأن يهجس بشكل واضح بما يسيء للثقافة التي ينتسب إليها، كون الإنسان في حاجة ماسة إلى الانخراط في الحداثة الحقيقية، وإنماء الفعل الديمقراطي، والاهتمام بكينون الإنسان، بما هو إنسان وسلوك متحضر منعكس على البنيات الاجتماعية، لا سيما التحتية منها.
إحالات:
1- الميتانص (Metatextuality) حيث يرتبط ويتعلق نص بنصٍّ آخر دون استدعائه. (التّشديد يحيل على استعانتنا بترجمة يقطين للمفاهيم). انظر:
Gérard Genette, Palimpsests literature in the second degree, channa newman and claude (translated) (London: University of Eraska press, 1997), P 6
2- عبد الله إبراهيم، موسوعة السرد العربي، ج3، ط1 (الإمارات: قنديل للطباعة والنّشر، 2016)، ص6
3- سعيد يقطين، السرديات التطبيقية (قراءات في سرديّة الرواية العربية)، ط1 (كتارا: دار كتارا للنشر، 2023)، ص175.
4- سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي (النص والسياق)، ط1 (الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي،2001) ص140
5- لوسيانو غروبي، "مفهوم الهيمنة عند غرامشي"، مجلة الملتقى، العدد 1، 1997، ص20
6- "حقل يحاول تفسير التفاعل البشري مع البيئة بواسطة النماذج السلوكية"، للاستزادة في المفهوم:
كريغ كالهون، معجم العلوم الاجتماعية، ترجمة معين روميه، ط1(قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات،2021)، ص276
7- أسامة الصغير، اللاهوت والثقافة (بين الذات العربية والآخر الأنجلو أميركي)، ط1 (الرباط: دار الأمان، 2021)، ص35