}
عروض

عندما دخلت في سجن "حيّ بما يكفي"

عمر الفاروق

29 سبتمبر 2024


لم يجد الكاتب والصحافي الزميل علي مصطفى حميدي أقلامًا ليكتب بها، وضاعت من بين أصابعه مفاتيح الكمبيوتر فقرر الاستعاضة عن كل أدوات الكتابة المعروفة عبر القرون بسكين، ليحفر بها أرواحنا وجسدنا مع كل صفحة نقلبها بين أيدينا من روايته التي صدرت أخيرًا عن دار ممدوح عدوان للنشر.  
رواية "حيّ بما يكفي" لم تكن وليدة يوم وليلة، ولكن حميدي تناوب على سرد هذه التفاصيل وتفكيكها وإعادة توصيل القصص مرة بعد مرة منذ عام 2015، لتخرج الرواية متكاملة وواحدة من أبرز الأعمال الأدبية التي تتسم بالعمق الأدبي والنظرة الثاقبة إلى واقعنا الاجتماعي والسياسي.
"الحياة أمامي بشكلها الذي لم أره منذ أكثر من عامين"، ص16... عبارة لو بحثت بين تفاصيلها لوجدت أن الكاتب اختصر رحلة طويلة من الأسر ومعاناة ظلمة السجون في عبارة واحدة، أطلقته حرًا بعد عامين ولكنها حبستنا نحن القراء، تفاصيل دقيقة ومحكمة لشخصيات الرواية أضافت بعدًا سابعًا لتضعنا وسط هذه الحالة لنعيش تجربة عز الدين درويش، في معتقله المظلم، ونشعر بلهاث أنفاس الآخرين على أجسادنا في تلك البقعة الجغرافية الضيقة.
هذا التكثيف الأدبي وصراع الشخصيات مع الأحداث المعقدة في واقع مرير، والأسلوب الذي اختاره الكاتب للرواية في إبراز الثنائيات وتشكيل الهويات والذكريات بدون الوقوع في فخ السطحية، استطاع من خلاله المزج بين السرد القصصي العميق والنقد الاجتماعي والسياسي اللاذع، فأضاف حميدي على روايته أبعادًا لم تكن بالحسبان من التوتر، ليثير حفيظة القارئ للكشف عن السطور أولًا بأول، ليحلل هذه الثنائيات ويفهم الصراعات الداخلية والخارجية التي أرادها.
ومنذ العبارة الأولى "بعد أن روض الظلام أحداقي، ألفت عيناي العتمة ونسيت النور"، ص 11، أصبحت سجينًا بين سطور رواية حميدي، ورغم ضغوطات الحياة إلا أنني أجزم أنني أنهيت قراءة الرواية في غضون 8 ساعات وربع الساعة، على أيام متفرقة... وهناك صفحات أعدت قراءتها عدة مرات، فقد كنت سجينًا مكان عز الدين، وكأنني هو، فالأسلوب وطريقة السرد والاندماج  كانت تضعني في حالة ترقب وذهول أحيانًا، وكأن هذا الألم ماثل أمامي، وربما سمعت صرخاتهم في أذني، فأغمض عيني حتى يزول ذلك الصوت المرعب، رغم معرفتي بأنني بين سطور رواية.
"أنا إلى الآن لم أشعر أني حر، كل ما حولي يعاقبني ويصر على كسري، ما زلت مسجونًا، لكن جسدي يتحرك في مساحة أكبر"، ص 32. مزج لطيف وذكي بين لغة واقعية بسيطة وقصص غنية بالتفاصيل، لتشعر بآلام درويش وتعيش معه على الرصيف، وفي السرفيس في أثناء رحلة عودته إلى الحياة، هذه اللغة التي أتقنها حميدي جاءت معبرة وعميقة وعكست روح شخصياته بصدق ووضوح، وحاكت واقعنا الأليم بلغة مليئة بالعاطفة والذكريات أحيانًا كثيرة.
"لا أريد لعيني أن تغلقا كيلا يكون حلمًا فأصحو منه"، ص 173، خلق الكاتب في معظم كلماته وسطوره رابطًا بيننا نحن القراء وشخصيات حكايته، ومع تقدم السطور يدفعنا حميدي دومًا إلى التفكير وخلق حالة من التأمل في كل ما تجود به سكينته التي كتب بها، "أعانقها ويتوقف الزمن، تعطلت الحواس وفاضت العيون، لا دمع يكفي، ينهال كأنها المرة الأخيرة التي تسيل فيها عبرات المآقي"، ص 308.
ورغم أن رواية "حي بما يكفي"، تنتمي إلى أدب السجون جزئيًا من خلال كل تلك المشاعر والأفكار، حين كان عز الدين في زنزانته يصارع من أجل الأمل، ولكن المتفحص في جنباتها يجد أن حميدي كان ماكرًا في إدخال الكثير من الواقعية الرومانسية، إلى حكايته، وكأنه أراد أن يمزج بين واقعية تلك الشخصيات مع لمسات من العاطفة والمثالية، ليظهر لنا الحياة عارية بدون أي عمليات تجميل، فوازن بين الحقائق الاجتماعية والسياسية المنتشرة في أيامنا، والتجربة الفردية لدرويش بطريقة عاطفية، وهكذا هي الواقعية الرومانسية التي تحتفي بالمشاعر والأحلام والخيال، "السجن جعل أقل الأفعال وأبسطها حلمًا كبيرًا"، ص 81.

(إسطنبول)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.