ابتداءً، فإنّ شاعرات الأنطولوجيا تتوزّعن على أربعة أبواب، تبعًا لمكان إقامة الشاعرة، أو جنسيّتها إن كانت تعيش في أنحاء من المنفى، وعلى النحو الآتي: شاعرات من المهجر والمنافي (7 شاعرات: نعومي شهاب ناي، رفيف زيادة، سهير حماد، نتالي حنظل، سمر عبد الجابر، كوليت أبو حسين، جمانة مصطفى)، شاعرات من فلسطين المحتلة عام 1948 (3 شاعرات: شيخة حليوى، ريم غنايم، أسماء عزايزة)، شاعرات من الضفة الغربية والقدس المحتلة (9 شاعرات: نداء يونس، آمنة أبو صفط، رجاء غانم، جدل القاسم، رزان بنورة، رولا سرحان، هلا الشروف، داليا طه، مايا أبو الحيات)، والقسم الرابع والأخير (4 شاعرات من غزة هنّ: إيناس سلطان، فاتنة الغرة، منى المصدر، هند جودة). ويُنتظر صدور الكتاب في ترجمة فرنسية يتمّ العمل عليها لتصدر ضمن منشورات دار "المنار" الفرنسية.
تنوّع التجارب
من دون الدخول في تعريفات ومفهومات "الأنطولوجيا" وما تعنيه "أنطولوجيا أدبيّة" كما هو متعارف عليها، وضمن التقديرات العامّة للعمل الذي بين أيدينا، فالجامع بين تجاربه هو كونها تجارب فلسطينية، أوّلًا، بكلّ هويّاتها وانتماءاتها، والأهمّ، ثانيّا، أنها لشاعرات، ما يجعلها "الانطولوجيا الأولى من نوعها"، بحسب نداء يونس التي قامت بالاختيار والتقديم، عمل يوفّر- كما تضيف يونس- "نظرة بانورامية على الشعر الذي تكتبه الفلسطينيات منذ السبعينيات من القرن العشرين في المنافي والوطن المحتل؛ وتمنح قصائدهن، باختلافاتها وتباين عوالمها وتشابك طرق الحكي فيها، الأفقَ لفهم أوسع لتشكل السرد الشعري في فلسطين وفي الدياسبورا وموضوعاته".
نحن إذًا حيال ثلاث وعشرين تجربة، تلتقي حول فلسطين لجهة العنوان، لكن من دون أن تكون حاضرة بصورة مباشرة فيها كلها، إذ نجد أن لكل شاعرة تجربة تتعدّد همومها وهواجسها، فحضور فلسطين الأساسي هنا هو في فلسطينيّة الشاعرة. للشاعرة الأميركيّة- الفلسطينية حضورها وأسئلتها التي تتفق مع بقية الفلسطينية وتختلف أيضًا، وكذلك الفلسطينية النرويجية أو الأردنية، أو الفلسطينية بنت حيفا أو القدس أو غزّة وهذا التنوّع، في اللقاء والاختلاف، نجده حتّى بين مبدعَين كبيرين في الثقافة الفلسطينيّة، أعني إدوارد سعيد ومحمود درويش، خصوصًا في علاقة كلّ منهما بالمنفى والوطن، ورؤيتهما لهما. وبما أنّ التجارب الشعريّة هنا لا تجمعها ثيمة محدّدة، الحرب/ السلام، أو غيرها، فإننا أمام مشهد بانوراميّ متعدّد ألوان الطيف، كما أن الكتاب يجمع تجارب متعدّدة الانشغالات والاهتمامات، وعلى مستويات شتّى تجمع الوطنيّ/ السياسيّ بالاجتماعي بالوجوديّ والكوني، من دون استثناء هموم الشاعرة بوصفها أنثى.
في البداية نتوقف مع أسئلة في إطارين:
أوّلًا: إنّ تحرر المرأة والمجتمع الذي ينبغي أن يُفهم بوصفه رديفًا للتحرر الوطني؟ صورة الأب في علاقته مع ابنته؟ شوق المرأة (الشاعرة) إلى الحب وتفجير طاقات الجسد وأشواقه المقموعة؟ مقاومة الشاعرة تكون على مستويين؛ مقاومة الاحتلال الصهيوني الاستعماري، من جهة، ومقاومة المرأة لـ"الاستعمار الاجتماعي/ الذكوريّ" لشخصيتها وكيانها وطاقاتها. مقاومتان مترابطتان ومتعالقتان بعضهما ببعض، فلا تحرير للوطن من دون تحرير المرأة، في درجات قرابتها مع الرجل، الأم والأخت والزوجة، وتحرير المجتمع كله، من عبودية العادات والتقاليد البالية، خصوصًا من أيديولوجيته الذكورية المقيتة، أيديولوجية يعتنقها الرجل والمرأة معًا.
ثانيًا: ليس ثمّة إمكانية لتصنيف نصوص هذا الكتاب تصنيفًا حادًّا وقاطعًا ونهائيًّا، لكن يمكن-مبدئيًّا- ملاحظة وجود ثيمات عدّة في هذه الأصوات، ثيمة أولى تتمثل في مناهضة الحروب في العالم عمومًا، والحرب والعدوان على فلسطين خصوصًا، وعلى غزّة في بعض النصوص على نحو أشدّ خصوصيّة، وثيمة ثانية تتمثل في نصوص ذات طابع عاطفيّ- اجتماعي، فرديّ وجماعيّ، وثيمة ثالثة اجتماعية تتمثل في نقد سلوك المجتمع وفئاته، وخصوصًا الأب وسلطته الذكورية تجاه الفرد، السلطة التي منحها له المجتمع بتقاليده وقيَمه، وما تتركه هذه السلطة من آثار سلبية ومدمّرة في حياة الفرد (الأنثى هنا).
لكن هذه الثيمات قد تتداخل جميعًا في نصّ واحد، فلا يعود قابلًا للتصنيف الحادّ، حيث لسنا في حاجة- أصلًا- إلى مثل هذا التصنيف في نصوص شعرية! فلننظر في هذه التصنيفات ولو على عجل...
الحرب والهويّة
ليس من دون دلالة أن يبدأ الكتاب بواحدة من أبرز شاعرات المهجر الأميركيّ الفلسطينيّات، أعني نعومي شهاب ناي، المولودة عام 1952 في سانت لويس، ميزوري، لأب فلسطيني وأم أميركية، وصاحبة عدد كبير من الدواوين، عبر عدد من نصوصها، وفي واحد منها "قمر فوق غزة"، تبدأ بموقف ضد الحرب عمومًا تقول "لا أرى سببًا للأحزان التي يصنعها البشر. أكره الشجار، والغبار الذي تخلفه القنابل التي تنفجر..."، ثم تنثني إلى شيء من تفاصيل الحرب وكوارثها غير الإنسانية، وإشارات إلى لاجئي غزّة وفلسطين، تقول "إذا كنت طفلًا للاجئ/ فلن تنام بسهولة حين يعبرون البحر/ على قوارب صغيرة بينما تعلم أنهم لا يستطيعون السباحة"، وتضيف في وصفهم "هم الأشجع على وجه الأرض الآن؛ لا تتجرأ على النظر إليهم بازدراء. كل عقل من عقولهم/ عالم تدور فيه تفاصيل بقدر ما لديك، وبقدر ما هناك من حب للمكان الفقير". وفي إشارة إلى الأعداء تكتب "يقولون: إنهم خائفون منا؛ تخاف القنبلة النووية من الخِيار"!
وإذا كانت ناي شديدة المناهضة للحرب، فإن الشاعرة والناشطة الحقوقية الفلسطينية الكندية رفيف زيادة (ولدت عام 1979 في بيروت لأبوين لاجئين) وتقيم الآن في لندن، تضيف إلى هذه المناهضة عناصر من هويّتها الفلسطينية؛ التمسك باللغة وبالمكان والذاكرة في مكان الاغتراب، تقول:
أنا امرأة عربية اللون (وهذه ثيمة تتكرر)
اسمحوا لي أن أتكلم بلساني العربي
قبل أن يحتلوا لغتي أيضًا
اسمحوا لي أن أتكلم بلغتي الأمّ
قبل أن يستعمروا ذاكرتها أيضًا...
في قرية مخبأة بين يافا وحيفا
ولَدت أمي تحت شجرة زيتون يقولون إنها لم تعد مُلْكي
ولكني سوف أعبر حواجزهم، نقاطَ تفتيشهم
جدران الفصل العنصري، وسأعود إلى وطني
...........
.............
ألا تعتقدون أن كل شيء سيُحلّ إذا توقفتم
عن تعليم الكراهية لأطفالكم!
أمّا الشاعرة والناشطة الأميركية الفلسطينية سهير حمّاد (ولدت في عمّان – الأردن، 1973)، فتجمع بين ثقافتها العربية/ الإسلامية الأصلية والثقافات الغربية والأميركية على نحو تعددي ثريّ ومنفتح وإنساني.
ففي قصيدة كما السماوات أشاء (ترجمة آدم فتحي) تقول:
أنا لن أرقص على طبول حربك
لن أحني ظهري أو روحي لطبول حربك
لن أرقص على إيقاعك لأنني أعلم هذا الإيقاع الميت
أشعر بتلك الجلود التي تقصفها
قد كانت حية، أُغنيات وسُرِقَت
ولا سأكره لأجلك أو حتى أكرهك
أنا لن أنسى أصولي
وسأصنع طبلتي الخاصة وأضمُ أحبابي...
وفي قصيدة "سوداء" (ترجمة أمين الجرادي) تقول:
مثل الفحم الذي يولِد الماسات
مثل المادة المُظلمة المحيطة بالكون
كمجابهة الأسود بالأبيض:
الهنود في بريطانيا، والأفارقة في أميركا
الجزائريين في فرنسا، والفلسطينيين في إسرائيل...
نتالي حنظل الشاعرة الأميركية- الفرنسية من أصل فلسطينيّ، من مدينة بيت لحم (1969)، تقف أمام جدار الفصل العنصري، فتتأمّل فيه وترى صور المعاناة الشديدة للإنسان الفلسطيني:
جدار يُجهز على أنفاسنا،
ساعة من الوحشيّة كل يوم
تُسيّج القلوب التي بالكاد تنبض.
خفقان الأوراق في حدائقنا الجافة،
الحرارة في غزة وأريحا
تُعيد لنا الأحلام التي لم يتسع الوقت أبدًا لنتذكرها...
هموم وقضايا شتّى
لكلّ شاعرة إذًا همومها التي تكتبها بأسلوبها، وتتفاوت بالطبع قصائد الشاعرات ونصوصهنّ، لجهة الموازنة بين الموضوع والأدوات والمستوى الجماليّ، حيث أولوية أحدهما على الآخر في النصّ، وهي مسألة تتطلب دراسة خاصّة. أمّا الهموم والقضايا التي تشغل الكثير من نصوص هذه "المختارات"، فهي تراوح بين العاطفيّ والوطنيّ العامّ والمرتبط بالمكان أساسًا، والأسئلة ذات الطابع الاجتماعي والوجوديّة. ولعلّ أبرز هذه الهموم ما تعاني منه المرأة في علاقتها مع الرجل، الأب والزوج وحتى الحبيب، لكنّ أبرزها هي العلاقة مع الأب... حيث نقرأ للشاعرة فاتنة الغرة، من مواليد غزة ومقيمة في بلجيكا: وجدتَني قبلَ ألفِ عامٍ ملقاةً على حافّةِ كتابٍ/ وأخذتَني/ عرّيتَني من ترابٍ غيّرَ ملامحِي/ وأخذتَ جسدي/ وبتأنٍ وصبرٍ أعدتَه إلى صورتِه الّتي تريدُ/ وكما تُملي الأبوّةُ/ ظلَلتَ تضحكُ مبتهجًا بتلعثمِ الحروفِ فيَّ.
إيناس سلطان، مواليد غزة 1990 ومقيمة حاليًا بالنرويج، تكتب عن الممنوعات "أحتفظ بستّ صور مزعجة عن الجنس والمحرمات في رأسي"، لكنها تبحث عن الجديد في الشكل، تقول إنها تعاني "أزمة شخص يبحث عن شكل جديد بعد أن أعياه المضمون"، وتضيف "مشكلتي ليست بالكلمة ولا الفكرة. مشكلتي الملل". ووجوديًّا تفكّر "ليس هناك ما يهزمني بما فيه الكفاية لأموت/ ولا أحب نفسي بما فيه الكفاية ﻷنقذها من الموت"، وفي شأنها الاغترابي "تعلّمت ثلاث كلمات بالنرويجية: Ansikt، Hus، Mor، وتوضح معاني هذه الكلمات: وجه، منزل، أم... من هذه الكلمات فقط يكون الشعر".
ومن بين النصوص المختارة، تلفِتنا صور من قصيدة للشاعرة هلا الشروف (1978)، بعنوان "أفكر الآن بالآن"، تمزج بين الحب وطبيعة الوطن: لم أجدهُ بعد/ ذلك الحب العظيم الذي من طبيعةٍ خيّرة/ أرى ترجماته الشاعريّة/ حينما الليل ماءٌ في هواء يسيل/ حينما البريق يسقطُ في بركة الماء مستسلمًا للخفوت/ وحينما الماء رقراقٌ في المنحدرات إلى مرج ابن عامر/.../ يحدث الحب كي ينقِذ الشعر قبل فوات الأوان.
وعن القدس تكتب الشاعرة رولا سرحان (1978)، بعنوان "حُرًّا على آخرك":
نتقاسمُ الرغيفَ بين مذبحةٍ ومنفى
إلا أنَّنا عابقونَ باللونِ والمفاتيحِ ومغالبةِ الزمن
نُرتِّبُ الحطبَ استعدادًا للخيباتِ
هي القدس،
لا أدخُلُها، ولا أخرُجُ منها
فيَّ شيءٌ معلَّقٌ على حُبِّ عامودِها الباب...