}
عروض

"حنين": رواية جريئة وصادمة

سارة النمس

16 يناير 2025

من المفترضِ أن يغادر الكاتب عاهد نصاصرة السجن عام 2034، سيكون عمره حينئذ 52 سنة، فهو اعتقل عام 2002 وكان في الثالثة والعشرين من عمره. يا لهذه العمليات الحسابية الموجعة التي تتعلّق بحساب عمرِ كاملٍ يتبدّد في السجون الإسرائيلية، لأسيرٍ عاش أكثر من نصفِ حياتهِ بعيدًا عن أهله. نحنُ نتحدّث عن رجلٍ ترك ابنه طفلًا وقابله الأبُ رجلًا عندما اعتقل في سجن النقب نفسه، ليعيش السجينان كوالد وابنٍ لمدّة سنتين، ويختبر عاهد هذه الأبوة الغريبة التي لم يعشها في الخارج مثل أي والد طبيعي يرى ابنه يكبرُ وينمو أمام عينيه. 

يعيش الأسير الفلسطيني تحديات كبيرة، فهو محرومٌ من حقوق كثيرة يتمتّع بها المساجين في بقية بلدان العالم، أبسطها أن يقابل أهله بدون عازلٍ زجاجي. الأسير الفلسطيني محروم حتى من حق العناق! وهو محروم أيضًا من كتابةِ رسائل يعبّر فيها عمّا يفكر به، عليه الالتزام بمواضيع محدّدة وخطوطٍ حمراء لا ينبغي تجاوزها، وإلاّ فتتم مصادرتها، فكيف والأمر يتعلق برواية تتطلب حريةَ الإبداع. لكنّ المعتقلين يجدون دائما حلولًا عجيبة، فالأسير الفلسطيني الذي تمكّن من تهريب نطفةٍ إلى رحم زوجته، كيف لا يجد حلولًا كي يوشوش بكلمته في آذان القراء؟ تُهرّب الكلمة عادة إمّا عبر كبسولات صغيرة أو تُسّجل صوتًا بآلات تسجيل يتم تفكيكها والاحتفاظ بها. كما أنّ الكاتب الأسير يضطر إلى حفظ فصول روايته عن ظهر قلب، لأنّه إذا فقدها في دورة تفتيش، سيعيد كتابتها من جديد. لذا لا يمكننا التحدّث عن الكاتب عاهد نصاصرة بدون التحدّث عن ظروفِ الأسر. وبإمكان القارئ تخيّل المراحل العسيرة التي مرّت بها كتابة ذلك العمل الذي بينَ يديه، وهذا ينطبق على رواية "حنين" التي كتبها عاهد ونشرها عام 2023 لدى الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين.

تعرّي الواقع الفلسطيني وتتحدّى الأعراف والتقاليد 

أوّل ما يدهشُ القارئ وهو يبدأ بقراءة الصفحاتِ الأولى من رواية "حنين"، هو واقعية هذه الرواية. إنّها مرآة صافية تعكسُ الواقع كما هو، وتنقلُ لنا ما يحدث في المجتمع، بصدق مخيف يصعب تصديقه وتقبّل حقيقته، وتعرّي الجهل المنفّر الذي يستفزنا ونرفضه ولا نتمنى معايشته في مجتمعاتنا العربية، والمفاهيم المشوّهة عن الشرف، والهلع من العار وما الذي سيقوله الناسُ عنّا، إضافة الى الرعب من فكرةِ الجنس وتحريم تناوله كموضوع حتى وهو يُطرَح كتساؤل طفولي بريء، يرغب الطفل بأن يفهمه ولا يستطيع ويقابَل بالترويع والعقاب لأنّهُ حاول.

هذه الرواية بعيدة عن بعض الأعمال الفلسطينية التي تم تناولها بصور غارقة في المثالية والرومانسية بحيث يسعى بعض الكتّاب لتقديم صورة الفلسطيني في صورة مؤطرة غير واقعية ولا تشبه حقيقته.

تبدأ هذه الرواية بمشهد طفلٍ اسمه "أسامة" يحاول تقليد الكبار ويتبادل القبلات مع طفلةٍ اسمها "حنين". وعندما يتم اكتشاف أمرهما، تحدث فضيحة كبيرة في المنطقة، ويتعرّض الطفل للضرب والتعنيف والشتم بدون أن يفهم جيدًا الخطأ الذي ارتكبه. راح الأب يسبه ويسأله: "هل فتحتها؟"، ولا يستوعب الطفل هذا السؤال الغامض ولا يعرف كيف يجيب عنه. في المقابل تُعنّف الطفلة أيضًا وتُشدّ من شعرها إلى حد اقتلاع خصلاتٍ منه، يتم عرضها على قابلة تؤكّد سلامة غشاء بكارتها وأنّها لم تمس. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فحياة الطفل كلّها ستتغير بعد هذه الحادثة، فلا يتجاوزها أحد وينساها، فيعيش أسامة طفولةً مريرة تحت رقابة مشدّدة ويتعرّض بسببها للنبذ والمعاملة السيئة طوال الوقت. تُفرَض على الطفل عزلة محتومة تؤثّر على سلوكه ودراسته، فبعد منع الصغير من مقابلة حنين تزداد رغبته بلقائها حتى ليصبحَ مهووسًا بها، في إشارة من الروائي إلى أنّ كل ممنوع مرغوب، وكل ما ينجم عن المنع والقمع يتحوّل إلى رغباتٍ مشتعلة وهوس يسيطر على تفكير الأفراد.

تعالج هذه الرواية بجرأة لافتة الكثير من القضايا الحسّاسة في المجتمع الفلسطيني، طرحها نصاصرة بوضوح، مثل تعرّض الطفل للتحرش على يد أستاذه فاضل، وخيانةِ العملاء الذين يبيعون أنفسهم في مقابل حزمة من المال والإحساس بالأمان والاستقرار الماديين. وثمة في الرواية انتقاد صريح للقيادة والسلطة في أكثر من موضعٍ من الرواية. وعلى سبيل المثال انتقاد السلطة من خلال شخصية المختار الذي كان يخدم الاحتلال سرًا في فترة الانتفاضة الأولى. ويتجلى هذا الانتقاد على ألسنة شخصيات أخرى مثل ناجي الضرير الذي يقول للمختار: "الحمد لله الذي خلقني ضريرًا لأنّ هنالك أشياء كثيرة لا أريد رويتها". كما انتقد عبد الجبّار في الرواية اتفاقيات أوسلو بحيث يقول عن القيادة: "توقّع ثم تفاوض بدلًا من أن تفاوض ثم توقّع، تشتري أسماكًا في مياه ولا تعلم أساسًا إن كان في تلك المياه أسماك أم ثعابين"، ويضيف في حوارِ آخر: "تخيل المفارقة يا بنيّ، شعبٌ منتصر وقيادة مهزومة"، ص 233.

اللغة والمفردات

بإمكان القارئ منذ الصفحةِ الأولى معرفة أنّه بصدد قراءة روايةٍ فلسطينية صرفة، لأنّ الكاتب عاهد نصاصرة استخدم مفردات عامية في الحوارات وقام بإرفاقها بهوامش لشرحها للقراء العرب الذين يجهلونها.

كُتِبَت رواية "حنين" بلغة سردية بسيطة وتلقائية، لتبدو الحكاية كما لو أنّها سيرة ذاتية لشخص يرويها من ذاكرته. واستخدم عاهد جملًا قصيرة ساهمت في بناءِ سردٍ قوي ومحكم وإضفاء حيوية وحركة مستمّرة على الأحداث التي كان يتم سردها بتدفق سريع، وشيء من تيّار الوعي في التنقل بخفّة، من فكرة إلى أخرى. وتمّيزت الرواية أيضًا باستخدامها الكثير من الأمثال الشعبية في الحوارات بين الشخصيات. وبرز تأثّر لغوي بظروف الحرب والاحتلال والمقاومة، خصوصًا في لغة الكاتب نفسه وليس عبر أفكاره فحسب، مثل تعبيره على لسان الطفل أسامة: "انتزعني والد الطفلة حنين من حضنها كما لو أنّه ينتزع قنبلة موقوتة من حضانة أطفال".

شخصية أسامة النامية 

تستحق شخصية "أسامة" بطل رواية "حنين" التأمل، وبحثًا مفصّلًا في مسار نموّها وتطوّرها، وتحتاج إلى مقاربة سيكولوجية لتحليل سلوكها وأفعالها وانفعالاتها على امتداد فصول الرواية. فشخصية أسامة، شخصية نامية وديناميكية في الرواية، ومحرّكة للأحداث. فالطفل البريء الذي تعرّض للتعنيف والاضطهاد والتحرش أصبح عاجزًا عن استيعاب دروسه وتعلّم القراءة والكتابة في المدرسة، وأصبح يصف نفسه بالحمار كما يصفه الآخرون. هذا الطفل المؤدب الذي اتّهموه بالسرقة في المدرسة، تحوّل إلى سارقٍ بالفعل، الطفل الذي وصم بالتدخين ولم يكن يدّخن، أضحى مدخنًا، ولعل القمع والظلم اللذين تعرّض لهما حوّلاه إلى مراهق مخرّب ذي نزعة انتقامية من كلّ من يزعجه. بات يستمتع بتعذيب الحيوانات وقتلها، ولا يتوانى عن الانتقام من والده بحرق شجرة الزيتون وما إلى ذلك.

لم يجد أسامة نفسه ولم يتخلص من مسار الانحراف الأخلاقي إلاّ بعد حدوثِ الانتفاضة، كأنّه وجد سببًا أسمى لوجوده يتمثّل في النضال والمقاومة، والشجاعة التي امتلكها للمشاركة في الاحتجاجات، ومهاجمة جنود الاحتلال، منحته قيمة إنسانية نبيلة، ووهبته احترام نفسه وأعادت له احترام الآخرين. يتغيّر أسامة وينضج ويتعلّم القراءة والكتابة، ويستعيد صداقته بيوسف صديق الطفولة، ويتأثّر كثيرًا بشخصية العم "عبد الجبار"، الرجل المحترم في البلدة، المعروف بحكمته وصدق مواقفه النبيلة والعقلانية. نحن أمام شخصية نامية ومركّبة بأبعادها المتناقضة، شخصية شديدة التعقيد في دوافعها وسلوكها، لا مكان للأبيض والأسود في صفاتها البشرية، لأنّ ألوان الخير والشر متداخلة، وعلى القارئ أن يتأمّل الشخصية من كل جوانبها، وعبر مسارها المتصاعد في الرواية، من الطفولة إلى الشباب، كي يتمكّن من استيعاب دوافعها وأفعالها.

كتب الروائي عاهد نصاصرة رواية "حنين" داخل السجن، كتب عن الخارج من الداخل، ووصف الأمكنة بدقة والتفاصيل والملامح من داخل رأسه، وما تحتفظ به ذاكرته. وهذا أكثر ما يميّز أدب الأسرى، أنّهم لا يكتبون بالضرورة عمّا يحدث داخل السجن، وهذه ميزة مدهشة ومحيّرة وتستحق التوقف عندها. كيف يستطيع كاتب يعيش منذ سنواتٍ طويلة في السجن، أن يكتب عملًا بهاتين الدقة والقوة، أن يكتب نصًا مترابطًا ومتماسكًا يستحق التوقف عنده، كعمل أدبي إبداعي، بعيدًا عن التعاطف مع وضعه كمعتقَل مجهول المصير؟

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.