اهتم فلاسفة ومفكرون سياسيون بحالة الفوضى التي تجتاح العالم منذ عقود عديدة، وذلك بالنظر إلى كارثية ما تخلفه من آثار مدمرة في العالم المعاصر، الذي بات يدعى عصر الفوضى، أو عصر انتقام التاريخ، حيث فقد ممكنات التنبؤ بمساراته، وغدت الفوضى مثل كرة الثلج المتدحرجة من أعلى الجبل سقوطًا نحو السفح، ومن ثمّ الانفجار، وتحول العالم الراهن إلى وضع يُغني عن سؤاله، خاصة بعد أن وصلت العسكرة إلى الفضاء، ونشرت القوى العظمى صواريخها النووية فيه، معلنة أن مسارات الفوضى تجاوزت الأرض، وأضحت تطاول الفضاء الخارجي. وترافق كل ذلك مع انتشار فوضى في المحددات الفكرية، وفوضى في تجسيداتها على أرض الواقع، وفوضى في تحديد معنى الإرهاب وطرق مكافحته، وذلك على حساب تراجع فاعلية تطبيق القانون الدولي، ودور منظمة الأمم المتحدة، التي من المفترض أن تكون راعية للسلم والأمن الدوليين. فضلًا عن فوضى في العلاقات الاقتصادية بين الدول، وما تقوم به الدول العظمى من حصار، وفرض عقوبات، وحروب تجارية، ضحاياها فقراء العالم المهمشون. وفي هذا السياق، يرثي الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك حال البشرية المهددة بالأزمات، في عالم تسوده الفوضى الشاملة، وذلك في كتابه "فلسفة الفوضى: هل ينقذ الدمار البشرية؟" (ترجمة عماد شيحة، بيروت، دار الساقي، 2022)، متتبعًا فيه حالة الفوضى في العديد من المواقع من عالمنا الراهن، ومتسائلًا بسخرية مُرّة عما إذا كان الدمار سينقذ البشرية من كوارثها العديدة. ولعل جيجيك من الفلاسفة القلائل الذين تناولوا قضايا راهنة، تخص البشرية وواقعها، ولا تحلّق في سماء المفاهيم والماورائيات، وبذلك يؤكد انحيازه إلى ضرورة ربط الفلسفة بالعالم الراهن، حيث تُطرح أسئلة على الفلسفة في علاقتها بالراهن، كي يعاد تأكيد صلتها بما يستجد من وقائع الحياة وأحوال الإنسان أيًا كان، والابتعاد عن محاولات حصرها في التحليق الميتافيزيقي واللغوي، واللجوء إلى الغموض، وتحميلها خطاب الحقائق المطلقة والمبادئ المتعالية، وبما يبقيها خارج الزمن وفوق التاريخ، ويجعلها غريبة عن الواقع، ولا يطاولها التغير والتبدل المصاحب لحياة جميع البشر، في حين يفترض بالفلسفة أن تقوم بصياغة الأشكال المتعلقة براهنيّتها ضمن بناء عقلي، يتم فيه مساءلة تلك الراهنية، باعتبارها حدثًا يتعيّن تحديد مركباته، ودلالاته، وتميزه الفلسفي، وبوصفها تأسيسًا للقول الفلسفي، وأهم مبرراته، وبواسطتها يقوم الفيلسوف بتحليل عميق لأحداث عصره وتشخيص قواها ومفاعليها، وهو ما يقوم به جيجيك من خلال تناول علاقة الفوضى بأطروحة الحروب المفتوحة والانهيارات الكبرى التي أصابت الأنساق الحاكمة للأيديولوجيا والبيئة والحريات.
وحتى الفلسفات بوصفها ميدانًا لصناعة المفاهيم أضحت أكثر عرّضة للتنمر والاختراق، خاصة في خطابها المسؤول عن إثارة الأسئلة المتعلقة بحراك الأفكار، وعلاقته بسياقات المعرفة ونقدها، وما يتصل بالمفاهيم وأقلماتها المُختَلف عليها، مثل الحرية والهوية والدولة والجسد، والديمقراطية، واختبار مدى استجابتها للطبيعة البشرية، ولقدرتها على صيانة النظام الديمقراطي في العالم، وذلك بعد أن فقدت الديمقراطية الكثير من بريقها، وصارت تنتج مركزيات جديدة، وحروبا عصابية وعنصرية. وأمست عيوب الديمقراطية في دول الغرب مفضوحة، ومفتوحة على حالة من الفوضى، وذلك بعد أن فقدت كثيرًا من سحرها الثقافي، وتحوّلت قوتها المؤسسية إلى جهاز داعم للعنف، ولإنتاج مزيد من المركزيات في ظل استراتيجيات الرأسمالية، التي طورت ممارسات بشعة في إدارة النظام العالمي، من خلال السيطرة على ناسه وأسواقه وأفكاره وحقوقه، وبات العالم أمام رعب حقيقي مع تفاقم أزمات المال والطاقة، وانتشار فوضى الشعبويات اليمينية واليسارية، وتغوّل الحروب الاستباقية، والتحديات المفتوحة على أزمات التلوث البيئي، واستفحال آثار التضخم الاقتصادي والبطالة، وسوى ذلك.
وفق هذا المنطلق لعلاقة الفلسفة بالعالم الراهن تنهض رؤية للإشكاليات والتحديات التي تواجه البشرية، مثل الاحتباس الحراري، وحرائق الغابات، وتدفق المهاجرين واللاجئين، والتحكم الرقمي والتلاعبات الوراثية الحيوية، وتزايد الانقسامات الأيديولوجية بين قوى اليمين المتطرف والمؤسسات الديمقراطية الليبرالية، وتضاؤل فسحات الفضاءات المشتركة. وعلى الرغم من أن البشر يعيشون تحت السماء نفسها باعتبارها كائنًا في حالة فوضى واضطراب، بالنظر إلى أنها كانت مقسومة بين عالمين، طيلة فترة الحرب الباردة، التي جاءت بعد الحرب العالميّة الثانية، إلا أن انقسامات السماء تزداد بشكل مضطرد داخل الدولة نفسها، حيث يعيش الناس في الولايات المتّحدة حالة من الصراع والاستقطاب بين يمين صاعد متطرف ومؤسسات ليبرالية متسلطة، وكذلك الأمر في المملكة المتحدة التي تعيش انقسامًا عميقًا بين أنصار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي ومؤيدي البقاء فيه. ويضغط كل ذلك على العالم الراهن في وقت يحتاج فيه إلى التضامن العالمي والتعاون الدولي، الأمر الذي يطرح ضرورة إحداث تغييرات راديكالية كي يتواصل بقاء البشرية على قيد الحياة، وتعمل على إعادة تنظيم المجتمعات والأنظمة بما يمكنها من التصدي للتحديات المصيرية.
وسط سيادة الفوضى، يطرح سؤال صادم يضعه الفيلسوف برسم قادة العالم الذين أوصلوه إلى حدّ بات العنف يعدّ مخرجًا من النفق الذي حُشر فيه العالم المعاصر. وقد سبق للزعيم الصيني ماو تسي تونغ أن اعتبر وضع العالم في فوضاه وأزماته وضعًا ممتازًا! لأنه يلقي به عند عتبات مكشوفة على رعب مفارق، بالنظر إلى أن الفوضى التي تحدث عنها لا تعني سلوك طريق سليم، وبما يمكن للفقراء التخلص من فقرهم، لكنه يشكل دافعًا كي تنخرط الولايات المتحدة ودول الغرب بالمزيد من حروب الاحتكار والاستنزاف، بغية تغيير نسق المتن بنسق الهامش، الأمر الذي يجعله أكثر إسهامًا في إنتاج الفوضى والأزمات، بما فيها أزمات الديمقراطية، وبالتالي، فإن التوصل إلى حلول للأزمات العالمية الراهنة لا يكمن في ضرب من ضروب ديمقراطية أكثر تمثيلًا لكافة لأقليات، ولا في سيطرة المجتمع المدني المنظم على مفاصل الدولة، ولا بالعنف الذي لا يعتبر فاعلًا ثوريًا، لأنه لن يكون سببًا في تغيير المجتمع. لكن ذلك لا يمنع من أن الانتقال الديمقراطي السلمي للسلطة لا يمكنه الحصول من دون آلام العنف، وذلك حين تغلق أبواب الممارسات الديمقراطية، كونه بات مطلوبًا في عالم اليوم، خاصة حين تغدو المواجهة مع قوى الهيمنة والتسلط السبيل الوحيد للخلاص. ولعل معالجة قضايا الفقر واللجوء يكمن حلها الحقيقي الوحيد في تغيير النظام الاقتصادي العالمي الذي ينتج ملايين المهاجرين، حيث يرى المحافظون في دول الغرب بضرورة مساعدتهم من دون الإخلال برفاهيتهم التي اكتسبوها بشق الأنفس. لكن لا يكفي "كي يحب المرء جيرانه حقًا في محنتهم أن يتصدق عليهم بسخاء من موائد الأغنياء، بل أن يزيل الظروف التي تسبب محنتهم".
أما مناهضو الهجرة واللاجئين فيرفضون تحميل الغرب أي مسؤولية تجاه فقراء العالم، ويطالبون دوله بألا تهتم إلا برفاهية مواطنيها والحفاظ على نمط حياتهم، فيما يتطلب حل المشكلة تغييرًا اقتصاديًا واجتماعيًا جذريًا، لأنه ليس في وسع أي مساعدة إنسانية أن تجد حلًا للتوتر الناجم عن مشكلة اللجوء، إلا بإعادة هيكلة الصرح الدولي بأسره، كما أنه لا حل لمشكلة الفقر من خلال إبقاء الفقراء على قيد الحياة، عبر التصدق عليهم بسخاء من منظور إنساني مجرد، لأن ذلك ليس حلًا بل مفاقمة للمشكلة، فالهدف الصحيح يتمثل في إعادة بناء المجتمع على أساس أن ينتفي فيه الفقر ليصبح مستحيلًا. وهنا، تأتي ضرورة أن تضطلع بهذه المشكلة قوة عالمية تستلهم قيم ومبادئ فكر التنوير الأوروبي، القائمة على قيم الحداثة وحقوق الإنسان والحريات والتضامن الاجتماعي والعدالة والنسوية، بالنظر إلى أن إرث الحداثة مؤهل للاضطلاع بها، بما يوفره من أدوات نقدية لتحليل ما حدث ويحدث من خطايا وأخطاء. لكن المؤسف هو أن القارة الأوروبية تسير نحو الانحدار، بعد تعرّضها لهجمات قوية من شعبوية اليمين الجديد التي تعيش على إرثها العنصري المحافظ، وتستهدف إرث التحرر والتنوير، التي شكلت رمزًا للكفاح في سبيل التحرر. أما في عالمنا الراهن، فقد خسرت الولايات المتحدة قيادتها الأخلاقية وصدقيتها. وجاء دونالد ترامب كي يستعيد الأيديولوجية اليمينية الشعبوية برفعه شعار "أميركا أولًا".
لم يعد مجديًا أمام التحديات التي يواجهها العالم الراهن التفكير في إيجاد حل لها في إطار الرأسمالية وممارساتها الديمقراطيّة، كما أنه ليس كلّ ما يمكن أن يتحرّك ويثير الاضطرابات يعني أنه ينتمي إلى اليسار، في حين أن خطاب اليسار يبدو وكأنه خدعة، كونه يضمر الكثير من الفوضى، فقد فشلت دول عديدة في صياغة عقد اجتماعي حقيقي، وفي التوصل إلى نمط للدولة الراشدة، وارتبط هذا الفشل رهينا بأزمات داخلية تخص العدالة الاجتماعية والحقوق والواجبات والسلم الأهلي وأنظمة التعليم والصحة والخدمات، وارتهن بفشل مؤسسات تدير العالم مثل مجلس الأمن الدولي، والأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية، وصندوق النقد الدولي، وغيرها. إضافة إلى أن اتساع دائرة الصراعات في العالم قد يهدد السلم الأهلي فيه، مثلما سيشكل المدُّ الشعبوي، وصعود تيارات اليمين العنصري المتطرف، عاملًا ضاغطًا يستهدف إرثه الحضاري والتنويري. كما أن بروز مظاهر تضخم الأزمات السياسية والاقتصادية والأنثربولوجية، يشكل تهديدًا للعالم من الطبيعة ذاتها التي توهّم الإنسان بالسيطرة عليها، حيث ظهرت الفيروسات (كورونا)، وكأنها قوة قاهرة، تمتلك القدرة على تقويض النظام العالمي.
وحتى الفلسفات بوصفها ميدانًا لصناعة المفاهيم أضحت أكثر عرّضة للتنمر والاختراق، خاصة في خطابها المسؤول عن إثارة الأسئلة المتعلقة بحراك الأفكار، وعلاقته بسياقات المعرفة ونقدها، وما يتصل بالمفاهيم وأقلماتها المُختَلف عليها، مثل الحرية والهوية والدولة والجسد، والديمقراطية، واختبار مدى استجابتها للطبيعة البشرية، ولقدرتها على صيانة النظام الديمقراطي في العالم، وذلك بعد أن فقدت الديمقراطية الكثير من بريقها، وصارت تنتج مركزيات جديدة، وحروبا عصابية وعنصرية. وأمست عيوب الديمقراطية في دول الغرب مفضوحة، ومفتوحة على حالة من الفوضى، وذلك بعد أن فقدت كثيرًا من سحرها الثقافي، وتحوّلت قوتها المؤسسية إلى جهاز داعم للعنف، ولإنتاج مزيد من المركزيات في ظل استراتيجيات الرأسمالية، التي طورت ممارسات بشعة في إدارة النظام العالمي، من خلال السيطرة على ناسه وأسواقه وأفكاره وحقوقه، وبات العالم أمام رعب حقيقي مع تفاقم أزمات المال والطاقة، وانتشار فوضى الشعبويات اليمينية واليسارية، وتغوّل الحروب الاستباقية، والتحديات المفتوحة على أزمات التلوث البيئي، واستفحال آثار التضخم الاقتصادي والبطالة، وسوى ذلك.
وفق هذا المنطلق لعلاقة الفلسفة بالعالم الراهن تنهض رؤية للإشكاليات والتحديات التي تواجه البشرية، مثل الاحتباس الحراري، وحرائق الغابات، وتدفق المهاجرين واللاجئين، والتحكم الرقمي والتلاعبات الوراثية الحيوية، وتزايد الانقسامات الأيديولوجية بين قوى اليمين المتطرف والمؤسسات الديمقراطية الليبرالية، وتضاؤل فسحات الفضاءات المشتركة. وعلى الرغم من أن البشر يعيشون تحت السماء نفسها باعتبارها كائنًا في حالة فوضى واضطراب، بالنظر إلى أنها كانت مقسومة بين عالمين، طيلة فترة الحرب الباردة، التي جاءت بعد الحرب العالميّة الثانية، إلا أن انقسامات السماء تزداد بشكل مضطرد داخل الدولة نفسها، حيث يعيش الناس في الولايات المتّحدة حالة من الصراع والاستقطاب بين يمين صاعد متطرف ومؤسسات ليبرالية متسلطة، وكذلك الأمر في المملكة المتحدة التي تعيش انقسامًا عميقًا بين أنصار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي ومؤيدي البقاء فيه. ويضغط كل ذلك على العالم الراهن في وقت يحتاج فيه إلى التضامن العالمي والتعاون الدولي، الأمر الذي يطرح ضرورة إحداث تغييرات راديكالية كي يتواصل بقاء البشرية على قيد الحياة، وتعمل على إعادة تنظيم المجتمعات والأنظمة بما يمكنها من التصدي للتحديات المصيرية.
وسط سيادة الفوضى، يطرح سؤال صادم يضعه الفيلسوف برسم قادة العالم الذين أوصلوه إلى حدّ بات العنف يعدّ مخرجًا من النفق الذي حُشر فيه العالم المعاصر. وقد سبق للزعيم الصيني ماو تسي تونغ أن اعتبر وضع العالم في فوضاه وأزماته وضعًا ممتازًا! لأنه يلقي به عند عتبات مكشوفة على رعب مفارق، بالنظر إلى أن الفوضى التي تحدث عنها لا تعني سلوك طريق سليم، وبما يمكن للفقراء التخلص من فقرهم، لكنه يشكل دافعًا كي تنخرط الولايات المتحدة ودول الغرب بالمزيد من حروب الاحتكار والاستنزاف، بغية تغيير نسق المتن بنسق الهامش، الأمر الذي يجعله أكثر إسهامًا في إنتاج الفوضى والأزمات، بما فيها أزمات الديمقراطية، وبالتالي، فإن التوصل إلى حلول للأزمات العالمية الراهنة لا يكمن في ضرب من ضروب ديمقراطية أكثر تمثيلًا لكافة لأقليات، ولا في سيطرة المجتمع المدني المنظم على مفاصل الدولة، ولا بالعنف الذي لا يعتبر فاعلًا ثوريًا، لأنه لن يكون سببًا في تغيير المجتمع. لكن ذلك لا يمنع من أن الانتقال الديمقراطي السلمي للسلطة لا يمكنه الحصول من دون آلام العنف، وذلك حين تغلق أبواب الممارسات الديمقراطية، كونه بات مطلوبًا في عالم اليوم، خاصة حين تغدو المواجهة مع قوى الهيمنة والتسلط السبيل الوحيد للخلاص. ولعل معالجة قضايا الفقر واللجوء يكمن حلها الحقيقي الوحيد في تغيير النظام الاقتصادي العالمي الذي ينتج ملايين المهاجرين، حيث يرى المحافظون في دول الغرب بضرورة مساعدتهم من دون الإخلال برفاهيتهم التي اكتسبوها بشق الأنفس. لكن لا يكفي "كي يحب المرء جيرانه حقًا في محنتهم أن يتصدق عليهم بسخاء من موائد الأغنياء، بل أن يزيل الظروف التي تسبب محنتهم".
أما مناهضو الهجرة واللاجئين فيرفضون تحميل الغرب أي مسؤولية تجاه فقراء العالم، ويطالبون دوله بألا تهتم إلا برفاهية مواطنيها والحفاظ على نمط حياتهم، فيما يتطلب حل المشكلة تغييرًا اقتصاديًا واجتماعيًا جذريًا، لأنه ليس في وسع أي مساعدة إنسانية أن تجد حلًا للتوتر الناجم عن مشكلة اللجوء، إلا بإعادة هيكلة الصرح الدولي بأسره، كما أنه لا حل لمشكلة الفقر من خلال إبقاء الفقراء على قيد الحياة، عبر التصدق عليهم بسخاء من منظور إنساني مجرد، لأن ذلك ليس حلًا بل مفاقمة للمشكلة، فالهدف الصحيح يتمثل في إعادة بناء المجتمع على أساس أن ينتفي فيه الفقر ليصبح مستحيلًا. وهنا، تأتي ضرورة أن تضطلع بهذه المشكلة قوة عالمية تستلهم قيم ومبادئ فكر التنوير الأوروبي، القائمة على قيم الحداثة وحقوق الإنسان والحريات والتضامن الاجتماعي والعدالة والنسوية، بالنظر إلى أن إرث الحداثة مؤهل للاضطلاع بها، بما يوفره من أدوات نقدية لتحليل ما حدث ويحدث من خطايا وأخطاء. لكن المؤسف هو أن القارة الأوروبية تسير نحو الانحدار، بعد تعرّضها لهجمات قوية من شعبوية اليمين الجديد التي تعيش على إرثها العنصري المحافظ، وتستهدف إرث التحرر والتنوير، التي شكلت رمزًا للكفاح في سبيل التحرر. أما في عالمنا الراهن، فقد خسرت الولايات المتحدة قيادتها الأخلاقية وصدقيتها. وجاء دونالد ترامب كي يستعيد الأيديولوجية اليمينية الشعبوية برفعه شعار "أميركا أولًا".
لم يعد مجديًا أمام التحديات التي يواجهها العالم الراهن التفكير في إيجاد حل لها في إطار الرأسمالية وممارساتها الديمقراطيّة، كما أنه ليس كلّ ما يمكن أن يتحرّك ويثير الاضطرابات يعني أنه ينتمي إلى اليسار، في حين أن خطاب اليسار يبدو وكأنه خدعة، كونه يضمر الكثير من الفوضى، فقد فشلت دول عديدة في صياغة عقد اجتماعي حقيقي، وفي التوصل إلى نمط للدولة الراشدة، وارتبط هذا الفشل رهينا بأزمات داخلية تخص العدالة الاجتماعية والحقوق والواجبات والسلم الأهلي وأنظمة التعليم والصحة والخدمات، وارتهن بفشل مؤسسات تدير العالم مثل مجلس الأمن الدولي، والأمم المتحدة، والمحكمة الجنائية الدولية، وصندوق النقد الدولي، وغيرها. إضافة إلى أن اتساع دائرة الصراعات في العالم قد يهدد السلم الأهلي فيه، مثلما سيشكل المدُّ الشعبوي، وصعود تيارات اليمين العنصري المتطرف، عاملًا ضاغطًا يستهدف إرثه الحضاري والتنويري. كما أن بروز مظاهر تضخم الأزمات السياسية والاقتصادية والأنثربولوجية، يشكل تهديدًا للعالم من الطبيعة ذاتها التي توهّم الإنسان بالسيطرة عليها، حيث ظهرت الفيروسات (كورونا)، وكأنها قوة قاهرة، تمتلك القدرة على تقويض النظام العالمي.