"وفي القدس الشريف أسواق كثيرة، من جملتها ثلاث قصبات على صف واحد، قيل إنه لم يكن بغالب البلاد نظيرها، وبها مدارس كثيرة، وخانات، وحمّامات، وعمائر حسنة، ولم يؤخذ بها شيء من المكوس، بخلاف جميع المدن، وبها كنيسة القيامة التي يزورها جميع طوائف النصاري والفرنج، والقدس مدينة شريفة عظيمة، وفضائلها جمة"- هذه العبارات نسبت إلى ابن شاهين الظاهري، وهو من مواليد القدس، وأحد سكانها في عام 1468 للميلاد.
واختار د. نظمي الجعبة العبارة السابقة كمفتتح لكتابه الموسوعي "القدس في العصر المملوكي: تاريخ وعمارة"، والصادر حديثًا عن مؤسسة التعاون في مدينة رام الله، موزعًا على ثلاثة أجزاء مزودة بصور وخرائط وحواش وملاحق وأكثر من تقديم، بواقع ستة عشر فصلًا.
وبدأ عصر المماليك، أو العصر المملوكي، بسقوط الأيوبيّين، أو حكمهم في "بيت المقدس" فاستمر لأكثر من قرنين ونصف القرن، مشكلّين، عبر نظامهم السياسي والإداري والحضاري الجديد ظاهرة وصفها الجعبة بـ"الفريدة في تاريخ البشرية ككل"، فلم يسبق أن حكم أرقّاء (عبيد أو رقيق) أي مكان في العالم لفترة طويلة، وهم أرقاء بيض البشرة اقتناهم "أمراء البيت الأيوبي"، و"البيت الزنكي"، ونمّوا قدراتهم العسكرية والإدارية، خاصة خلال الفترة السلجوقية، وهم من أصول عرقية مختلفة، لا سيما من مناطق القوقاز، والترك، والمغول، وشرق أوروبا، استطاعوا تدريجيًّا الارتقاء بنفوذهم، حتى تسلموا السلطة الفعلية، عبر خدمات جليلة قدّموها في التصدي للمغول بمعركة عين جالوت، وعبر رفعهم شعار "طرد الفرنجة" من السواحل الشامية، ومن مصادر شرعيّتهم الأخرى، عنايتهم الفائقة بالأماكن المقدسة، ومنها مدينة القدس.
وبدأ النشاط المعماري المملوكي في القدس بالسلطان الظاهر بيبرس، الذي قام برتميم قبة الصخرة في عام 1261 للميلاد، بحيث جدّد الفسيفساء التي تزيّن مثمّنها الخارجي، كما أنشأ عدّة مبان في القدس، ورمّم المسجد الأقصى، وشيّد خانًا خارج المدينة، وأعاد بناء مقام النبي موسى ووسّعه، وذلك مباشرة بعد سيطرته على الدولة في أعقاب انتصاره بمعركة عين جالوت.
وبعد الظاهر بيرس، توالت أعمال السلاطين المماليك في القدس، وساهم في ذلك، بحسب الكتاب، أمراء وعلماء وتجار وسيّدات (خوانم)، فلم يكد يمر على السلطة المملوكية سلطان بدون أن يترك أثرًا دينيًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا في المدينة، ومن لم يقم منهم بأعمال عمرانية فيها، خصص أموال الأوقاف للمسجد الأقصى، أو أرسل المصاحف لمساجدها الأخرى، أو غير ذلك ممّا يعكس مكانة القدس الخاصة في العقلية المملوكية.
وتعكس زيارات العدد الكبير من السلاطين والأمراء المماليك للقدس، تلك العلاقة الوثيقة بينهم وبين المدينة المقدسة، ومنها زيارة السلطان قايتباي في عام 1475 للميلاد، ولم تكن المرة الوحيدة التي زار فيها القدس، ففي العصر المملوكي تحولت القدس "في غالبية مكوّناتها ومظاهرها الحضارية إلى مدينة إسلامية، مزيلة بذلك الكثير من المؤثرات الحضارية التي هيمنت عليها خلال فترة الفرنجة، لا سيما المظاهر الدينية والمعمارية والثقافية"، علاوة على الوعي التام للمماليك بالمشهد الحضاري للقدس، وضرورة إعادة تشكيله ليعبّر عن هوية المدينة.
وتنوعت وظائف المباني المملوكية بين مدارس وخانات وأسواق وزوايا وأسبلة وأربطة وكتاتيب ومساطب ومحاريب، وشكلت بمجملها مكوّنًا أساسيًّا من جواهر القدس المعمارية، كما تبدو حاضرة حتى يومنا هذا، بحيث نجح المماليك في غالبية فترة حكمهم للقدس في الحفاظ على استمرار تزويد المياه بالمدينة، وهي عملية صعبة ومعقدة، وبحاجة إلى استثمارات دائمة.
ولفت الجعبة إلى أن الجزء الأكبر من المباني المملوكية في القدس، لا يزال على قيد الحياة، بشكل يفوق أي مدينة مملوكية أخرى في مصر وبلاد الشام، حيث إن ما فُقد من المباني المملوكية في القدس، يعد صغيرًا نسبيًّا، مشيرًا إلى أن ثمة خصوصية معمارية مقدسية في تلك المباني، بحيث تتوافق والتراث المحلي من جهة وطبيعة القدس من جهة ثانية، وبدون التخلي عن الطراز المملوكي العام، علاوة على إصرار المماليك على تشييد مبانيهم في أقرب نقطة ممكنة من المسجد الأقصى، ما أدى إلى اكتظاظ بالمباني، مع تنازلهم عن فكرة بناء مؤسسات كبيرة، أو مجمّعات معمارية، بحيث كانت الغالبية العظمى من المباني تتصف بالتواضع مقارنة بالمباني المملوكية في القاهرة، على سبيل المثال لا الحصر.
وأنشئت في القدس، في الفترة المملوكية، منشآت عامة، ولا سيما المدارس، بشكل لم يسبق له مثيل، من حيث العدد، في أي حقبة من تاريخ القدس، ومن أجل الحفاظ عليها حوّل المماليك هذه المؤسسات أوقافًا، وخصصوا لها مبالغ وقفية لضمان استمراريتها بعد وفاة الواقف لقرون لاحقة، وهو ما كان بالفعل، بحيث أن جزءًا كبيرًا من هذه المؤسسات لا يزال قائمًا رغم ضياع
أوقافها، وتبدّل أوضاعها.
ويرى صاحب كتاب "القدس في العصر المملوكي" أن رصد الاستثمار في البنى التحتية للمدينة في الحقبة المملوكية، تطلب جهدًا كبيرًا، وربّما لا يزال بحاجة إلى المزيد، فليس من باب المصادفة، حسب تعبيره، أن تكون من بين أولى نشاطات الظاهر بيبرس في القدس، بناء خان ضخم على مشارف المدينة، خدمة للحجاج الوافدين إلى المدينة وزوّارها، بحيث لم يمض عقدان على السيطرة المملوكية حتى شُيّد رباطان محاذيان للمسجد الأقصى، ما يعبّر تمامًا عن الحاجة في حينه لاستيعاب أعداد الزوار الكبيرة، وخاصة القادمين من موسم الحج في الأراضي الحجازية إليها، في إطار ما يعرف بـ"تقديس الحجة"، وهو طقس ظهر منذ صدر الإسلام، ومارسه المغاربة بشكل مكثف، كما تحول إلى ظاهرة واسعة الانتشار في الفترة المملوكية.
وأصبحت المدينة، مع تنامي هويتها الدينية الإسلامية في العصر المملوكي، قبلة للتصوّف، بحيث قام عديد السلاطين والأمراء المماليك بدعم فقراء الصوفية، وبناء منازل لهم، علاوة على تشييد أعداد كبيرة من دور الصوفية، والزوايا، والأربطة، وغيرها.
ومع ذلك فقد اتسع في العصر المملوكي الحج المسيحي إلى القدس، فوصل الحجاج مع الغرب الأوروبي بأعداد كبيرة عن طريق البر والبحر، كما لم يتوقف الحج المسيحي الشرقي من سكان دولة المماليك أو باقي الشعوب المسيحية الشرقية، وهو ما عكس حالة من الانفتاح الديني، والتسامح، علاوة على الاستقرار النسبي الذي عاشته القدس كما بقية فلسطين المملوكية، وإن لم يخل الأمر من منغصات بسبب الربط غير الواعي ما بين الحجاج المسيحيين والفرنجة الصليبيين، وهو ما نجحت الإدارة المملوكية في تجاوزه مع الوقت.
ونقل الجعبة عن الرحالة الإيطالي كاسولا انبهاره في عام 1494 للميلاد بملابس رجال القدس، بحيث عدّهم "أنيقي الملبس، يحرصون على مظهرهم، كما يحرصون على عمّتهم البيضاء، وبعضها موّشى بخطوط سوداء، وتظهر بشكل جميل فوق الرؤوس... الملابس مصنوعة من أقمشة مختلفة منها الحرير والقطن، وهو ما يعبّر بشكل عام عن مظهر من مظاهر الغنى".
وما بعد الفصل الأول الذي خصصه الجعبة للحديث عن الدراسات القديمة والحديثة حول القدس في العصر المملوكي، يتوزع الكتاب على خمسة عشر فصلًا تعالج تاريخ القدس المملوكية، وعمائرها المختلفة.
في الفصل الثاني شخص الكتاب علاقة المماليك بالقدس، ودوافعهم المختلفة من وراء الاهتمام بالمدينة، وأثر ذلك على نهضة المدينة وهويتها الحضارية، في حين يستعرض الفصل الثالث الإدارة المملوكية في القدس، ومدى اختلافها واتفاقها مع باقي المدن المملوكية، وإبراز أهمية وظيفة ناظر الحرمين الشريفين ودوره في حماية مقدسات المدينة وحجاجها، والتركيز على مكانته في السلّم الإداري، كما عالج إعلان القدس ولاية مملوكية، ودوافع ذلك.
ويعالج الفصل الرابع التركيبة السكانية والطائفية للقدس المملوكية، والدور الذي لعبه المماليك في الأماكن المقدسة، واستعمالها في العلاقات الدولية، فيما حاول المؤلف في الفصل الخامس تخيّل شكل القدس المملوكية، وتحديد التغيرات التي طرأت عليها، وتشخيص مسميّات الحارات، والطرقات المختلفة، ومقارنة ذلك بواقع أيامنا هذه، مستحضرًا تخطيط القدس المملوكية بالاتكاء على وصف مجير الدين الحنبلي، ووثائق الحرم الشريف المملوكية، وسجلات المحكمة الشرعية.
وفي وقت يتتبع فيه الفصل السادس النشاطات المملوكية المعمارية في المسجد الأقصى، ترميمًا وتأهيلًا أو عبر إضافة مبانٍ جديدة، رصد الفصل السابع ما يتعلق بأسوار المدينة وبواباتها، من باب أن القدس المملوكية، ولو لم تكن مسوّرة، إلا أن عدم وجود أسوار كاملة لا يعني انعدامها في كل مكان، أو عدم وجود أشكال متعددة من التحصينات، فيما عالج الفصل الثامن المشاريع المملوكية المرتبطة بتزويد القدس بالمياه، من قنوات، وبرك، وآبار، وغيرها.
وتطرق الفصل التاسع للكتاب إلى اقتصاد القدس المعتمد على الأوقاف والحج والزيارة، عبر استعراض الأسواق والخانات، موضحًا العدد الكبير من الأسواق النشطة، والعدد الهائل للخانات وللدكاكين في مدينة مساحتها أقل من كيلومتر مربع واحد، مبرزًا الجمال المعماري للأسواق في القدس المعمارية، ومن بينها: سوق الزيت، وسوق اللحامين، وسوق العطارين، وسوق الخواجات، وسوق طريق باب السلسلة، وسوق القطانين، وخان تنكز، وخان السلطان، وخان الغادرية، وخان بن نسيبة، وخان الشعارة، وخان الجبيلي، وخان الظاهر بيبرس، وخان بني سعد، وغيرها.
ويمكن اعتبار الفصل العاشر محوريًا في الكتاب، فهو ليس فقط الأطول، بل يستعرض أيضًا مدارس القدس المملوكية، مقدمًا موقع كل مدرسة وسيرة حياة راعيها الذي أمر بتشييدها، واستعراض أوقافها ودورها، وعمارتها باستعمال المخططات والصور، مقدمًا صورة بانورامية حول 29 مدرسة لا تزال قائمة حتى اليوم، ومنها: دار الحديث الهكارية، والمدرسة الداودارية، والمدرسة الكريمية، والمدرسة الجاولية، والمدرسة التنكزية، والمدرسة الأمينية، والمدرسة السلاميّة، والمدرسة الأملكية، والمدرسة الإسعردية، والمدرسة الفارسية، والمدرسة الأرغونية، والمدرسة الخاتونية، ودار القرآن السلاميّة، والمدرسة المنجكية، والمدرسة الطازية، والمدرسة اللؤلؤية، والمدرسة الحنبلية، والمدرسة البلدية، والمدرسة الطشتمرية، والمدرسة الصُبيبية، والمدرسة الكاملية، والمدرسة الباسطية، والمدرسة الغادرية، والمدرسة الحَسَنيّة، والمدرسة العثمانية، والمدرسة الجوهرية، والمدرسة المزهرية، والمدرسة الأشرفية، والمدرسة الرصاصية، إضافة إلى مدارس لم تعد موجودة.
وعلى ذات المنهاج يعالج الفصل الحادي عشر ما عرف باسم "الأربطة"، التي ظهرت منذ مطلع الفترة المملوكية، وذلك على شكل مبان ضخمة لاستقبال زوار المدينة والمرابطين في المسجد الأقصى والمجاورين في ظلاله، والتي جاءت كجزء من توطيد العلاقة بالقدس، وتشجيع الإقامة فيها، كرباط علاء الدين بصير، والرباط المنصوري، ورباط الكرد، ورباط النساء، والرباط الماردني، والرباط الزمني، وغيرها.
ويذهب الفصل الثاني عشر لجهة معالجة الزوايا والتصوف، كزاوية الشيخ خضر المهراني، وزاوية المغاربة، وزاوية عمر المجرد، وزواية أبو مدين، والزاوية الفخرية، والزاوية المهمازية، والزاوية المحمدية، والزاوية البسطامية، والزاوية اللؤلؤية، والزاوية الوفائية، والزواية القرمية، وغيرها.
ومن ثم استعراض مسألة "الدفن" في القدس، في الفصل الثالث عشر، باعتبارها "أرض المحشر والمنشر"، بحيث تم تصميم العدد الكبير من الترب والأضرحة لأعلام من المماليك، علاوة على المقابر الضخمة التي لفّت القدس، ودفن فيها الآلاف من أعلام العصر المملوكي، ومن بينها: تربة بركة خان، والقبة الكبكية، والتربة الأوحدية، والتربة الجالقية، والتربة السعدية، والتربة الكيلانية، وتربة تركان خاتون، وتربة الست طنشق المظفرية، وتربة شرق الدين موسى العلمي، والقبة القيمرية، وترب أخرى.
ويساهم الفصل الرابع عشر في تسليط الضوء على المآذن المملوكية خارج المسجد الأقصى، في حين تخصص الفصل الخامس عشر في الحديث عن القصر المملوكي الوحيد في القدس، أي قصر "الست طنقش" المظفرية، في حين كان الفصل الأخير حول هوية العمارة المملوكية في القدس، بناء على تتبع مئة مبنى شيّدت في تلك الحقبة، والتدخلات المعمارية المملوكية، متطرقًا لأنواع المباني المملوكية من حيث الوظيفة، ومخططات المباني المملوكية، والعناصر المعمارية والزخرفية من بوابات وواجهات، وقباب، والتسقيف والأقواس، والمحاريب، والأرضيات، والأبلق، والمقرنصات.