تعرّفتُ على الباحث المغربيّ عبد الرزّاق المصباحي في وقت مبكّر سنة 2015، وذلك من خلال كتابه: "النّقد الثّقافي: من النّسق الثّقافي إلى الرؤية الثّقافية"، ثمّ في سنة 2022 من خلال كتابه: "النّقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسسة"، وأخيرًا من خلال كتابه الأحدث: "الرواية والحدود: من التقاطبية الثقافية إلى الفضاء الثّقافي" (2024)، لذلك فصورة الدكتور عبد الرزاق المصباحيّ مرتبطةٌ لديّ بالباحث الذي يشتغِلُ في إطار مشروع منتظِم يطوّر حلقاته ويحمِلُ همّه البحثيّ باستمرار. ولعلّ البحث العربي المعاصر صار يفتقدُ هذا النّوع من الباحثين الشباب أصحاب المشاريع البحثيّة، الذين يشتغلون في إطار بحثيّ محدّد، ويقدمون فيه رؤيتهم الخاصة ويقترحون أفكارهم ومفاهيمهم، ويزرعون في ربيع عمرهم ما يؤهّلهم لأن يكونوا معالم وأعلامًا في مرحلة النّضج ولا يستعجلون القطاف.
يُباغت المصباحي قارئه، منذُ البداية، بمجموعةٍ من الأسئلة القلقة التي تعكس قلقه بصفته "ناقدًا عضويًّا":
"لماذا نجتهد في صناعة الحدود ونصطنع الكراهيات؟ ولماذا نسيج الفضاءات والأمكنة والرقع الجغرافية التي ننتمي إليها بفائض التمثيلات الثقافية التي تنطلق من مرجعيات عرقية أو لغوية أو دينية لمنعها عن الآخر المختلف؟ ولماذا نتطرف أحيانًا في اصطناع أساليب متنوعة في النسخ والإقصاء، تصل حد الحجر أو التصفية؟ ولماذا يعجز الأفراد وحتى المؤسسات أحيانًا عن تغيير تلك التمثيلات التي تمنع بناء "الفضاءات الثقافية" أو فضاءات الهجنة؟".
وهو ما ينذر بأنّ أزمة الثقافة العربية المعاصرة هي أزمةُ قيم، وبأنَّ الخيال، ملتجأ القارئ العربيّ، قد يكونُ هو الآخر فضاءً مسمومًا وضيّقًا بدل أن يكونَ فضاء متسامحًا ومنفتحًا.
اختار الباحث الرواية العربية مختبرًا لعدّته الثّقافية، وفضاءً للنقد الثّقافي، وهو ينظر إليها، على أنّها "ليست مجرد نوع تخييلي؛ بل كون ثقافي موسّع حقيقي بالقراءة المستغورة التي تنوّع في منظوراتها وأسئلتها. والاشتغال على النصوص الروائية العربية يمكننا من محاولة تلمس ذلك" (ص 6). كما ينظُرُ إليها، بشكل ضمنيّ، على أنّها الديوان الجديد للعرب، الذي حلّ محلّ الشّعر، وفضاء ثقافيًّا يمكّن النّاقد الثّقافي من "فهم شخصية الفرد العربي، سواء أكان عاديًا أم نخبويًا، وطبيعة علاقته بالفضاءات على اختلافها، انتماء أو تنابذًا، كما يسعفنا في قراءة تعامله مع تسونامي التطور التكنولوجي الهائل [...] ثم الكشف عن تعامله مع الفضاءات الديستوبية المنفرزة عن الحروب الأهلية والخارجية وآلة الدمار التي لا تتوقف" (ص 6). ولعلّ الرواية أكبر خزّان لقيمنا الثّقافية المعاصرة، وشكل التّواصُل الأدبيّ الأكثر انتشارًا. وقد عني الباحث بالرواية العربية، ارتباطًا بالهمّ الثقافي العربيّ، وقارب "نصوصًا روائية مختلفة من حيث انتمائها إلى جغرافيات ثقافية/ تخييلية متنوعة، وتفاوت زمن صدورها، وتنوع بنيات خطابها (كلاسية، تجريبية)..." (ص 5)، فالفضاء العربيّ مفتوح على بعضه من خلال وحدة اللغة والتّاريخ والثّقافة والمصير وغيرها.
ينذرُ المصباحي كتابه لفضح التمثيلات الثقافية في الرواية، التي تنطلق من مرجعيات عرقية أو لغوية أو دينية لمنعها عن الآخر المختلف، والإقصاء، الذي يصل حد الحجر أو التصفية. لا شكّ في أنّ الخيال في حدّ ذاته قيمة. لكن مثلما نحنُ في حاجة إلى الخيال، نحنُ في حاجة أمسّ إلى القيم، خاصّة في السياق العربيّ الرّاهن. وربّما صرنا اليوم، في السياق العربي الرّامي إلى التحوّل وتجاوُز النكبات السياسية والخيبات الحضارية، أحوج إلى نقد الذات، واكتشاف أعطاب الثّقافة في مرآة الخيال. فالرواية، علاوةً على أنّها تنتشلُنا من واقعنا الجافّ إلى رحابة الخيال، يجبُ ألّا تكونَ فضاءً لغويًّا موازيًا مليئًا بالحدود المصطنعة والكراهية، وإنّما فضاء رحبًا لقيم سامية مثل الانفتاح على الآخر وإلغاء الحدود الوهمية والتّسامح. إن الرواية ليست انعكاسًا فقط للواقع، بل وسيلة لإعادة تشكيله، ووسائلها الجمالية هي نفسُها التي قد تحمِلُ قيمًا مشوّهة.
تتبدى منذُ الفصل الأول روح المغامرة النقدية التي يتمتّع بها الباحث عبد الرزاق المصباحي، عندما اقترح مفهوم "التّقاطبية الثّقافية"، الذي صاغه قياسًا إلى مفهوم "التقاطبية المكانية" الذي اقترحه السيمائي يوري لوتمان، ومفهوم "الحدود التطهيرية" انطلاقًا من مفهوم الحدود عند لوتمان كذلك، إضافة إلى مفهوم "الفضاء الطاهر" مقابل مفهوم "الفضاء الثّقافي"، وهو ما يعكس مرونةً نقدية عند الباحث الذي يحاول تكييف هذه العدّة النقدية القادمة من الغرب مع سياق الثقافة العربية، ويعكِس شخصيته النّقدية القوية التي تشرّبت النظرية النقدية الثّقافية، كما يظهر في مؤلّفاته السابقة، وقد وصل إلى مرحلة تمكّنُه من المساءلة والاقتراح والتكييف. كما يحمل المصباحي هم بناء مفهوم مختلف للنقد الثقافي في السياق النقدي العربيّ، وتوجّه بالنّقد لطروحات نقدية لباحثين حاضرين بقوّة في مشهد النقد الثقافي العربيّ مثل الناقد المتميّز عبد الله الغذامي.
يدعو المصباحي، إذًا، إلى أهمية استثمار النقد الثقافي لفهم الفضاءات الروائية باعتبارها أدوات لتفكيك الإقصاء وتعزيز الحوار الثقافي. كما يدعو إلى تطوير أدوات النقد لمواجهة التحديات المعاصرة، مثل تصاعد النزعات القومية والتكنولوجية التي تعيد إنتاج الحدود الثقافية. وهو، بذلك، لا يُعلي من شأن الأداة بقدر ما يعلي من غاية النّقد ويكشف عن روحه الحقيقيّة، وهي خدمة واقعنا المعيش والمجتمع والوجود البشري والسموّ به.
ما يُحمَد للباحث، كذلك، هو أنّ "القراءة الثقافية والسرديات الثقافية" عنده "لا تلغي البعد التّخييلي أو الجمالي" (ص 16)، مختلفًا مع عبد الله الغذامي الذي يرى موت النّقد الأدبي شرط النقد الثّقافي، وموت السّرديات الشّعرية شرط السرديات الثّقافية بدل أن تكونَ منظورًا يُغني معرفتنا بالسّرد. وينطلق الباحث المصباحي من الجمالي ليصل إلى الثّقافي، بوصفه لحظة أولى منغرسة في تكوين الخطاب السّرديّ وهويّته.
أنوّه، في الأخير، بالمجهود الذي قام به الباحث المصباحي في إثراء الساحة النّقدية العربية، سواءٌ بما أسهم به من مفاهيم واقتراحات أو تحليلات واسعة أضاءت الروايات المعتمدة وقدّمت منظورًا متميّزًا لها وإسهامًا نوعيًّا في قراءة الرواية العربية. وهو كتابٌ يستحقّ بحقّ أن يأخُذ مكانته المتميّزة في صدارة الإصدارات النقدية الشابة الجديدة. كما أدعو إلى قراءة هذا المشروع الشاب، والاشتباك معه فيما يقترحُه من رؤى ومفاهيم بغية تطوير عدة النّقد الثقافي العربيّ لا الاقتصار على المفاهيم الغربية.
* باحث في البلاغة وتحليل الخطاب، المغرب.