}
عروض

أنطوان أبو زيد: مهندس الضواحي

علي شمس الدين

23 يناير 2025


يطالعنا إصدار أنطوان أبو زيد "كوريغرافيا رجل الضواحي" الصادر عن "دار النهضة العربية" (2023) بصيغ عن العيش في وطأة الراهن. وفيه إقدام على تثبيت حركة الشاعر التي ما زال يخطّها في الضواحي المتهالكة ليبدو الشعر معها كأنّه كتابة في كهوف الزمن وترنيمة فوق نار حطبها.

في النص مقولة شجاعة تقيم في روح الشعر حافظ الشاعر عليها على امتداد نصوصه. فهو يقول ها أنا ذا هنا في هذا المكان المتهالك أشاهد تآكله، ولكنّه تآكلٌ لن يمنعني من أن أبقى أصلًا صلبًا له عبر الشعر. عمل أبو زيد هذا فيه الكثير من توزيع الأحاسيس على الأشياء ثم جمعها في صوت يتمدّد في القصائد كهمس يعلو ويخفت، ولكنه لا يصرخ.

نراه بوضوح في لحظة الغنائية يؤثر الدعوة على التحشيد فهو يُعلي الصوت بتؤدة كدليل فيرجيلي حنون يأخذ بيد من معه ليريهم "السياج الفاصل بين هاويتين" ويتلافى الإيقاعات التراجيدية فـ "الصنج أخفاه قائد الأوركسترا". صوت يقول وجوده كيفما كانت البدايات وكيفما صارت النهايات. صوتٌ جاثم في الزمن شاهد على المعترك من شرفة أو تلة أو قرب ساقية أو في حيّ من الضواحي تغيّرت معالمه.

هكذا هي الضواحي، كل تلك النواحي البيروتية المشرفة على العاصمة بعمارتها وجغرافيتها ومناخها، الأماكن حاضرة كخلفيّة حيّة يتنقل الشاعر بين معالمها المتهالكة، ولكنه لا يحوّلها إلى طلل ولا إلى درّة تاج، يبقيها في عاديّة تلفِها المستمر حيث تتشكل مسالكه اليوميّة في خرابها. وحتى عند جزعه أو في انتحابه على أعتاب خذلانها يشفع لها. فهذا الصوت أهلٌ وحبيبٌ ووحيدٌ، صوت بمنازل كثيرة، ولكنه يتموضع بأصالة عناصره في الجمل الشعرية. وتموضعه هذا هو عين القصيدة وثبات صوت الشاعر في المتغيرات.

شيئًا فشيئًا نكتشف أنّ هذا النوع من الشعر هو الذي يخرج ويغلف كلَّ شيء. هو أصل ينمو منذ أن بدأت الحواس تتعلَّم الاستشعار ثم نمت وصارت تصنف الانفعالات وتضعها في الكلام، فهو يبدو كأنه أرشيف حسيّ متمدد في شتّى الاتجاهات يسجّلُ رقّة دافئة مع أثاث اللحظات التي يجمعها ويُخرجها ثم يأخذها معه إلى اعتمال آخر ينتقل من قصيدة إلى أخرى. في هذا يتظهّرُّ النص كنضجٍ متوهج قلما يُفلِتُ مثله من الحاصد في الحقل أو القاطف عن الشجرة، هو ثمرة بقيت بعد الموسم لتقول وجودها في بقائها الهامس هذا، في فرادتها في تجسيدها للثمرة وليس في جمعها. ربما يكون هذا لأن خاصّية هذا الشعر هي باب كليّته وإطار صورته.

نصوص أبو زيد تُقرأ بالمفرد وتهطل بالمفرد، ولكنها تبدو كأنها حمولة مكملة من نظرة أولى وجملةٍ أولى إلى كل لحظة جديدة تُقرأ فيها وتُزار. وفي هذا تظهر كوريغرافيا أنطوان كنقطة توسِّع مساحة عرضِها في عسف الراهن وثقله يشيدها بلغة عالية الحركة ومتقدمة على مواضيعها عبر سريالية نزع منها الغرابة والتنافر بين العناصر وشذب الرمزية الموظفّة لإخراج الانطباع سالمًا مع تجريده وواجدًا طريقه بإنفعالية سلسة إلى المخيّلة التي تمتلئ في النصّ.

في كلّ هذا وظّف الشاعر الهدوء كالغراء يمتّن سلالم الشّعر وتموجّاته بين الإيقاع والصور. ونحسب أن ّفي هذا كله تقيم فتنة هذه اللغة، فتنة الشّعر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.