}
عروض

"الطاهي الذي التهم قلبه": الفقد عنوان الفلسطينيين المشترك

حسام معروف

26 يناير 2025


طرح الكاتب الفلسطيني محمد جبعيتي آثار صدمات المجتمع الفلسطيني المتعاظمة بوجود الاحتلال، عبر صقلها بأشكال مختلفة، متناولًا خلالها الأثر الجسدي والنفسي للمرء جرّاء ذلك، ومتخذًا صورة بانورامية للألم الفلسطيني، ومن زوايا متعددة، وذلك عبر روايته "الطاهي الذي التهم قلبه" الصادرة عن منشورات المتوسط عام 2024.
وتطرح رواية جبعيتي شكلًا واقعيًا للمجتمع الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي، مفصّلة الأحداث والوقائع التي تجعل منه مجتمعًا مقيدًا مدفوعًا بقسوة نحو الألم. وتقدم بطريقة عاطفية ذلك الواقع العبثي للفلسطيني مع الاحتلال.
إذ تمضي شخصيات العمل، لتقديم صورة حيوية لواقع مأساوي، مجهول المصير. فنجد شخصية جمال، ابن مخيم الأمعري في الضفة الغربية، الذي تجبره ظروف الأزقة الضيقة والبيوت الكالحة المتراصة على تكريس أمنياته في العيش بشقة خارج حدود ذلك العناء. فتصير رغبته في أن يعيش في منزل حوله براح وحديقة، أو شقة في بناية، طريقة مثالية لنسيان العذاب الذي مُنيت به طفولته.
أمنية أخرى لم تتحقق في حياته هي وجود أمه حوله، والتي تركته في طفولته مع أبيه، للعيش مع رجل آخر، وهو ما أثر بشكل أساسي على نفسيته، وزاد من سُمك الجدران بينه وبين العالم.
لم يتوقف عند ذلك، فصدمة أخرى للطاهي جمال وضعها الاحتلال لتهدم رحلته، وتقتل طموحه، عبر رصاصة في العين. تلك الصدمة، أفقدته عضوًا من جسده، وكذلك أفقدته حاستي الشم والتذوق، لتصبح رحلته مع الطهي مهددة بالفشل قبل أن يلمع حلمه.
يشاركه ذلك الحلم زياد، صديق الطفولة، الذي لعبت قسوة النشأة في تركيبته، وصار ذاتًا مائلة للعنف، بالرغم من نجاحه في الهندسة، وامتلاكه عقلية إبداعية. لكن وجود المأساة أسهم في انجراف حياته وتغيير مسارها بالكامل.
لا قِسمة في الألم بين شخصيات الرواية، بل لكل شخصية كومات من العذاب والحزن. فلا يترك جبعيتي أي شخصية بدون أن يحشوها بالتعب، كمن يحشو دمية بالقطن.
حتى أبو جمال نجده فقد شريكة عمره، وحبيبته، بسبب ظروفه المادية الرديئة. وكانت النتيجة أن فشلت علاقة الزواج وهربت الأم من المخيم، نحو مكان آخر لأنها كانت ضد فكرة الإنجاب، وضد ظروف معيشتها كاملة داخل المخيم.
ولم يترك الجحيم حتى ميرال، حبيبة جمال، بالرغم من أنها من خارج المخيم، ونشأت في رام الله، لكنها كانت محاطة بغموض في نشأتها، وآخر في شخصيتها، ما تسبب أخيرًا في مقتلها.
وكامتداد تاريخي للألم، تأتي جدة جمال لتعبر عن طول خيط الكارثة الفلسطينية، عبر التهجير، واستبدال العيش بموت مؤجل، تجسد بعيشة المخيم. حتى طريقة موتها كانت بيد الاحتلال، الذي هدم جدران غرفتها عليها ذات توغل. ماتت جدة جمال لكن لم تمت الحكاية، وبقي الصراع مع الألم قصة الفلسطيني الوجودية.

الأثر النفسي الفردي
فجأة، انهارت فكرة جمال مع الطبخ، وسقطت موهبته، كما يسقط لوح زجاج من علو. هذا يمكن أخذه ملخصًا لعبوره مع الحياة في مجتمع متأزم بفعل الاحتلال وقدرته على تسخيف حياة وطموحات الآخر.
ففي لحظة ذبلت زرعة جمال، وتحول فجأة من الكائن ذي الأغصان القوية، والحلم المختلط بالذائقة الفريدة مع الأشياء. لقد انهارت شجرته مع الحياة، وانزلقت نحو هاوية في هامش العالم.
تلك الثيمات المختلفة من المعاناة التي يصدرها الاحتلال إلى حياة الفلسطينيين في الضفة والداخل وغزة وحتى الشتات، جعلت من طريقة حياة أولئك فاقدةً الجوهر، مفرغة من صلبها وثباتها.
ذلك التشويه الداخلي لوجود الإنسان، وتدميره نفسيًا، يعد مسعى للمحتل، ولا يأتي اعتباطًا، إنه رأس أجندته.
فطريقة انهيار الطاهي، لا تحمل انعكاسًا على وضعه الراهن فقط، وإنما تعدم مرور الأوكسجين إلى مستقبله، وتُعجّل في تقويض بنيانه كاملًا.
تلك الانهيارات المتلاحقة للشخصيات الفلسطينية على الأرض، تعد وسيلة لفكاك الارتباط التاريخي والثقافي للفلسطينيين مع وطنهم. وما يرمي إليه جبعيتي في الرواية، يمكن قراءته في حرب إبادة غزة أيضًا، فلم تقتصر الحرب على تنظيم فلسطيني بعينه، بل شملت كافة أطياف المواطنين، وإن لم يطل الموت المرء، فإن المعاناة والتجويع والضربات النفسية المتكررة تزداد شراسة بحق الأبرياء.




من الرواية: "أدركت في تلك اللحظة كم أن فقدان حواسي أمر مرعب. لقد انتهى الأمر. وجدت نفسي في بداية طريق معتم. تمددت على السرير، وحاولت تذكر الروائح. ممتن للذاكرة التي تحفظ روائح الأشياء في أعماقها".

الحلم بالبراح
في الرواية إشارات متعددة إلى فتحات الجرح الفلسطيني التي لا تجف. إذ يعمد الكاتب إلى وضع مكونات تلك الغصة في سرده، شابكًا إياها مع ركائز شخصياته، وكأنه أراد التعبير عن المكان وصفاته، من خلال شخصياته.
إذ يُلمس ضيق الأفق الذي واجهه جمال مع الحياة، الإحباط والشكوى والتكور، من خلال الفراغات الضيقة لشوارع المخيم، والمساحات المتآكلة بين جدران البيوت داخله. رأيت كيف يسلب المخيم الفلسطيني شكلًا آخر من أشكال الحرية، لربما تركيبة المخيم ذاتها، صارت مبنية بما لا يسمح تفكيكه، أو الهروب من إطارها، وقد أظهر جبعيتي مدى غرق جمال في طقوس المخيم، وذكرياته مع جدته، وحين سلبته الدنيا مخيلته الجميلة وطموحه، رجع لالتقاط بعض من هويته مع المخيم.

فقدان الإحساس بالجدوى
وتحاكي الرواية بلغة بسيطة، وسلسة، مسائل الخراب داخل النفس، وانهيار الترتيب الداخلي للإنسان الفلسطيني على أرضه، بسبب استمرار محاولات القتل والتضييق من قبل المحتل بحق أصحاب الأرض.
فتبدو الذات الفلسطينية بعد وقت، مثل مكان مهجور، وتعيش بمشاعر سلبية كردّ فعل طبيعي لظروف الحياة اليومية.
انعكس هذا في شخصية أبي جمال، وجمال، وزياد، فلكل منهم قصة مختلفة مع الألم، لكن تجمعهم سطوة يد الشر، وعبثها في حياتهم.
شعر جمال أخيرًا بأنه فقد هويته، وصار معيوبًا بدون أي قدرة على مواجهة واقعه البشع، الصورة الجديدة التي انطبعت بفعل فاعل. كما ازدادت مشاعره السلبية، وميله للعزلة، والتفكير المفرط بماضيه القريب، وقتما كان حالمًا، ويمضي بإرادة صناعة الحياة التي يريد.
يكتب جبعيتي: "نحن في النهاية صنيعة أهلنا، تصدقين؟ عرفته خلال هذه الأيام أكثر من السنوات الماضية كلها. قربتنا الهموم من بعضنا. بتنا عاجزين، ناقصين، أبي سيفقد قدمه، وأنا فقدت حاستين. الفقد عنواننا المشترك".

صناعيات
تجيء حبكة جبعيتي متأخرة، فبالرغم من إخباره بطرفها في بداية الرواية، إلا أنه يبدأ من منتصف العمل تقريبًا، لإشعال النار تحت الشخصيات، وحرق أوراق المغامرة السردية للقارئ التي تمتد إلى 180 صفحة.
ذلك التأجيل كاد أن يُفقد الرواية قدرتها المغناطيسية، لكنه بقدراته اللغوية تمكن من الحفاظ على خيط من التشويق في النصف الأول من عمله.
أما رموز الرواية فتمثلت بفكرة الطهي، حيث اختار الكاتب هذه المهنة لبطل سرديته، ليدلل على حياة الفلسطيني المختلطة بنكهات مختلفة، وتلك الهوية المصنوعة بعوامل مختلفة وبالتالي للفلسطيني دومًا قصة مبنية على الاختلاف.
وفي مسألة فقدان الحواس، هنالك إشارة إلى عزلة الفلسطيني، وانقطاع الرابط الطبيعي مع العالم في ظل حياة مشوشة، مرتبكة، منزوع فتيل جوهرها، ألا وهو الحرية.
وفي إصابة العين، يرمي الكاتب إلى عطب جماعي، وليس شخصيًا هذه المرة، يعكس غياب الرؤية السليمة في مجتمع يسلبه المحتل كافة أدوات الحياة، ويعيق تطوره ونظرته للمستقبل.

غياب القانون
ويكشف جبعيتي، خلال رحلته السردية، عن شيء من ثغرات المجتمع الفلسطيني، تحت سيطرة الاحتلال الأمنية، ومحاولات العبث المستمرة بالنظام الاجتماعي والأمني بالضفة وغزة.
فلأسباب كثيرة، كما توضح الرواية، يصبح أمن الفلسطيني مهددًا، ويصير عرضة للاعتداء والإيذاء من الآخرين في المجتمع، ومن أهم تلك الأسباب انخفاض نسبة تسيير القانون. فقتلت ميرال بطريقة محبطة، وجاء مشهد موتها معتمًا في تفاصيله وحتى في أدوات الكشف عنه. حيث ألمح الكاتب إلى القناعة السائدة بعدم نيل الجاني عقابه، في معظم الحالات المشابهة، مبينًا أن القانون أبعد ما يكون عن حياة الناس.

نهايات حزينة
يوزع الكاتب قصص الشخصيات بطريقة التناوب في العرض، وتبادل الأفكار والتماوج فيما بينهم.
وينجح جبعيتي في جعل كل شخصية في سرده تأخذ دور البطولة، مع أخذ شخصية جمال للمساحة الأوسع في التقديم والمحاكاة والعراك مع إسقاطات الواقع.
واللافت، النهايات المأساوية للشخصيات، بطرق مختلفة، مع وجود ضلع كبير للاحتلال في تلك النهايات الحزينة.
فتموت الجدة على فراشها بيد قاتلة من الاحتلال، ويموت الأب بمرض وانسحاب تدريجي من الحياة، بدأ بواقع سيء صحيًا واجتماعيًا، تسبب به الاحتلال، وقتلت ميرال بمسببات الفوضى الأمنية بذات السبب، وانهارت آمال جمال برصاصة في العين. فكل حزن في حياة الفلسطيني يكون الاحتلال شريكًا فيه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.