عُرِف عن الفيلسوف سقراط قوله الشهير إن "كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئًا"، وأراد منه السخرية من ادعاء المعرفة، بوصفه الجهل بأمّ عينه، ثم أطلق قوله المأثور إعرف نفسك بنفسك، ورأى أن العلم فضيلة والجهل رذيلة. أما الفيلسوف أفلاطون فقد نظر إلى الجهل باعتباره أصل كل الشرور. وذهب فلاسفة ومفكرون إلى اجتراح مفهوم الجهل ومركباته وتعيناته المتعددة، وخاضوا في تحديد تمظهراته الاجتماعية والسياسية، وحالاته الممنهجة والتلقائية، واقترحوا سبلًا للخلاص منه، وتجنب آثاره، والحد من أخطاره. وبيّنت دراساتهم أن الجهل يمكن أن يكون ناجمًا عن عدم تعلم القراءة والكتابة، وانعدام الرغبة في تحصيل المعرفة، وعن انغلاق العقول وتبني أفكار ومعتقدات مغلوطة من دون تفكير، لكنه لا ينحصر في ذلك فحسب، بل يمكن تصنيعه وتوظيفه وتوزيعه بغية الوصول إلى أهداف معينة، سياسية كانت، أو نفعية تجارية، وذلك حين تقوم بعض الجهات بتصنيعه وفق خطط ومناهج وآليات، تهدف إلى تجهيل وتضليل الرأي العام. ويرى المفكر والمؤرّخ البريطاني بيتر بيرك في كتابه "الجهل: تاريخ للظاهرة من منظور عالمي" (ترجمة بندر الحربي، بغداد دار الرافدين، 2024) أن الجهل الذي يعرف بأنه حالة من غياب المعرفة قد لا يبدو موضوعًا جديرًا بالبحث والدراسة، لكن الاهتمام به بدأ بالتنامي بالنظر إلى جهل رؤساء بارزين، مثل دونالد ترامب، وخافيير بولسونارو، إضافة إلى رؤساء دول أخرى. ويسعى بيرك خلال هذا الكتاب إلى توضيح أنواع الجهل، والكوارث المتعددة والمتباينة المترتبة عليه، وذلك من خلال تفكيك ماهية الجهل عبر التاريخ، ودراسة تأثيراته التي سطعت كثيرًا في أوقات مظلمة، وفترات مليئة بالوحشية والجهل.
سبق للعرب أن سمّوا عصر ما قبل الإسلام بالعصر الجاهلي، فيما رأى الإنسانيون العصور الوسطى عصور الظلام. أما في عصر التنوير، فكان ينظر إلى الجهل بوصفه أساس الاستبداد، والتعصب والخرافات، التي يفترض أن يتخلص منها البشر في عصر المعرفة والتفكير العقلاني. ورأى المفكر السياسي ويليام بيفريدج في الجهل أحد الوحوش الخمسة التي تشمله مع الفقر، والمرض، والفساد السياسي، والبطالة. أما تشارلز سيميتش فرأى أن الجهل المتفشي يمثل غباء الهدف القومي الجديد للولايات المتحدة. وفي عصرنا الراهن، أصبح للجهل علمٌ يسمى علم الجهل (الأغنوتولوجيا)، الذي يعنى بدراسة الإنتاج الثقافي للجهل، ودراسة الممارسات والسياسات التي تعمل على تصنيعه وإنتاجه، ما يعني أن الجهل لا يأتي من الفراغ، بل يمتلك مركبات اجتماعية وسياسية، وتاريخًا وجذورًا عميقة. ويمكن اعتبار علم الجهل هو العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية مختلفة، وبناء على إستراتيجيات هدفها التحكم في مصائر الشعوب ومقدراتها. ويمكن للجهل أن يسود في المجتمع من خلال نشر معلومات، تبدو وكأنها علمية، ولكنها مضللة، من قبل جهات معينة، وعبر وسائل الإعلام وأجهزة الأنظمة السياسية الحاكمة والشركات الكبرى. وقد لعبت صناعة الجهل دورًا كبيرًا في نجاح عدد من الصناعات، لأن الجهل يمثل قوة لا يمكن الحد منها إلا عبر تحليل الأنظمة والأدوات المعرفية التي تبث الشك والارتياب في الرأي العام، من خلال اتباعها استراتيجية التضليل، وفرض الرقابة، والتشكيك في مصداقية الأمور الذي تقوم به مجموعات مهيمنة، إلى جانب وسائل الإعلام المضلل ووسائل التواصل الاجتماعي، بغية تزييف الوعي الفردي والمجتمعي.
يبدو أن تاريخ المعرفة، الذي يولي تاريخ الجهل القدر الذي يستحقه من الدراسة والفحص، لم يكتب بعد، وذلك على الرغم من دراسة موضوع الجهل هدفًا للباحثين منذ قرون عديدة، خاصة بدءًا من أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وأظهرت أعمالهم الحاجة إلى التفكير في المعارف وأنواع الجهل، والأخذ في الاعتبار أن ما يعد معرفة شائعة، أو حكمة تقليدية، يختلف من مكان لآخر، ومن زمن لآخر، ذلك أن المعرفة الجديدة غالبًا ما تجعل أنواعًا جديدة من الجهل ممكنة. وعليه، يجب أن نفكر مرتين قبل وصف أي فرد، أو ثقافة، أو فترة زمنية، بأنها جاهلة.
في عصرنا الراهن، يتخذ الناس من التعلم وسيلة تسهم في تحسين أوضاعهم المعيشية، والارتقاء إلى درجة اجتماعية أعلى، لكنهم يتجاهلون جوهر التعلم ووظيفته، حيث إن الناس بطبيعتهم يتأثرون بمختلف جوانب الحياة، ويساهمون في تكوين معارفهم وتشكيل نوع من الإدراك لديهم، ويصطدمون في غالب الأحيان بالجهل والعادات والأفكار الخاطئة. وإن كان العلم أساس التنمية في المجتمع، فإنه يمنح الإنسان المعارف والقيم التي تساعده على البروز في شتى المجالات، ويحقق له التقدم الاجتماعي والاقتصادي، ويحرر عقله ويمنحه الحرية في التفكير والتصرف، ويكسبه القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم. في المقابل، يفقد الجهل الإنسان قدرته على التصرف واتخاذ القرارات بحرية، ويسبب له الإحباط والسلبية. إضافة إلى أنه يؤثر على بناء المجتمع، ويعرقل نموه، وتقدمه، واستقراره، وقد يفضي إلى تفشي العنف فيه.
هنالك أساليب متعددة تعبر عن نفسها في ظواهر معاصرة، يتغلغل منها الجهل في المجتمعات، مثل تسرّب المعلومات، ونشر الأخبار الزائفة. وهي ظواهر ليست جديدة، بل تمتد إلى قرون عدة ماضية، وتقوم بدور في زيادة سوء الفهم وإصدار أحكام غير صحيحة، إلى جانب ارتكاب أخطاء أخرى ذات عواقب وخيمة في غالب الأحيان، وتظهر على نحو واضح في قضية تغير المناخ على سبيل المثال.
من العوامل الرئيسة، التي أسهمت في توجه علم المعرفة نحو البعد الاجتماعي، ظاهرة نشأت خارج نطاق الفلسفة، وباتت تعرف بالحركة النسوية، حيث أنه طوال التاريخ، كان الرجال يتجاهلون، أو يستخفون بالمعارف والمصداقية التي تمتلكها النساء، معتمدين على فكرة أنَّ ما لا يعرفونه ليس بمعرفة. وشهدت القارة الأوروبية في العصر الحديث ظواهر تشجع على إبقاء النساء في حالة من الجهل في عدد من المجالات، وفق نظرة ذكورية، حيث لم يقدر باحثون في علم الأنثروبولوجيا النساء، ولم يعطوا أهمية كافية لدورهنَّ في عدد من الثقافات والحضارات. ومع ذلك، دخلت مجموعة من النساء الحقل الأنثروبولوجي، وكان لهن أثر واضح، ساهم في ملء الثغرات المعرفية، من خلال الإدلاء بمعلومات أكثر عن تجارب النساء، مقارنةً بما كان في مقدور علماء الأنثروبولوجيا الذكور فعله. وقد سبق أن تناولت العالمة الأنثروبولوجية ماري ريتر بيرد كيفية إغفال الرجال أهمية دور النساء في تشكيل التاريخ، بأدوارهن كملكات وكاهنات، وقديسات، ومارقات، وعالمات، وباحثات، وربات بيوت، وسوى ذلك.
تكمن أهمية الكتاب في أنه يأتي في عصر بات يُعرَف بعصر المعلومات، وكثر فيه الحديث عن مجتمع المعرفة، حيث لم تعد المعارف مقتصرة، أو حكرًا، على النخب الاجتماعية والطبقية، بل في متناول غالبية الناس، الأمر الذي يتطلب الحاجة إلى الحذر، والتفكير في المعارف والجهالات بصيغة الجمع بدلًا من المفرد، مع الأخذ في الاعتبار أن ما يُعد معرفة شائعة، أو حكمة تقليدية، يختلف من مكان لآخر، ومن زمن لآخر، لأنه قد تخلق كل معرفة جديدة مجالًا لنفسها من خلال خلق جهل جديد. إضافة إلى انتشار المعارف الخاطئة، والاعتقادات الباطلة، والأخبار المزيفة، والتعامي الذي يظهر وكأنه اختياري في أحيان كثيرة، حيث يمكن فهم الجهل أحيانًا بوصفه سدًا يبنيه الإنسان باختياره حين يختار بألا يعرف شيئًا، ظنًا أنه لا يستحق تكلفة المعرفة، أو أنه لا يتناسب مع قناعاته الأيديولوجيّة، أو دوافعه النفسية العميقة. وعليه، فإنه يمكن تصور الجهل باعتباره حدًا يوقف نشر المعارف، سواء كانت فردية، أو جماعية. كما يمكن تحريكه من خلال التعلم، واكتساب المعرفة. وهنا تأتي الخطورة من الهدر على المستويين الفردي والجماعي الملازم للثقافة المجتمعية التي يصبح فيها الجهل جزءًا من التوجه الأيديولوجي للنظام القائم. وتكبر المشكلة حين يفتقر الأشخاص الذين يمتلكون السلطة، في غالب الأحيان، إلى المعارف المطلوبة، بينما من يمتلكون تلك المعارف مبعدون عن السلطة.