إذا كان المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي قال: "إنَّ المُثقَّف يموتُ حينما يتخلّى عن قضايا مجتمعهِ وعصرهِ، لينغمس كُليًّا في ممارسة الحياة"، فإنَّ الشاعر العراقي علي صلاح بلداوي (1996) كرَّس كل طاقَّتهِ الشعريّة، في ديوانه الأوّل "ما أردتُ قولهُ من البداية" والصادر مؤخَّرًا عن دار مرفأ للثقافة والنشر في بيروت، ليرسم لوحةً للواقع العربيّ الراهن، أشبه ما تكون بغيرنيكا الشهيرة، والتي رسمها بيكاسو تخليدًا لمأساةِ قرية غيرنيكا التي دمَّرها القصف الألماني، خلال الحرب الأهليّة الإسبانيّة عام 1937، وصارت اللوحة رمزًا لبشاعة الحرب وتجسيدًا لمعاناة المدنيين.
قلب الشاعر وكاميرا الصحافي
يعيش بلداوي، في ديوانه، المأساةَ العربيّة بِقَدَر الصحافيّ الذي من وظيفتهِ أن يرصدَ بكاميرته كلّ شيء، مهما كان قاسيًا، وبقلبِ الشاعر الذي لا يحتملُ مثقالَ صرخة ألم، وكل ما يريده ألا تطرق نائبة الزمان بابه، ولا يضطر مرغمًا على فتحه، لكنَّ قدره أن عاش في عصر ازدهار النّائبات، ووجدَ نفسهُ بدون أنْ يَدري، واقفًا فوق تلّة الشهود، يحني رأسه "عمدًا على مُدنٍ تُباع وتُشترى/ مُدن تُطحن بِرِحى الغُرباء/ وشظاياها منشورةٌ في الصُحفْ".
تُكمِنُ خطورة التّناول الفنيّ للواقع المُعاش في الوقوع في فخِّ التقريريّة الصحافيّة، لكنَّ الشاعر في ديوانه جعلنا نرى الواقع في غزة وجنوب لبنان ومدنَ أخرى، بقلب الشاعرِ لا بكاميرا الصحافيّ، لكنَّهُ وجَّهَ الكاميرا نحونا، نحن الذين نتفرَّجُ على مأساتِنا، ونتغطّى بدثارِ عجزِنا عن تغيير معادلات الواقع، وكأنَّ وظيفتنا الحضاريّة هي استدعاء العَالَم المُنتَظَر، ونحن نعرف أنَّهُ بلا حياء، و"لا يتعرّقُ جبينه/كما يحدثُ لتمثالٍ معطفَهُ من البرونز"، وفي سنوات انتظارنا الطويلة، نُسلّي أنفسنا بحفظ أناشيد الوجع عن جوف قلب، كالأنشودة المُرّة التي غنتها طفلة المخيمات: "نريد حطبًا للبرد"، وإن كنّا قد رأينا تلك الطفلة في التلفاز، إلا أنَّ الشاعر يخبرنا عن الجزء الذي لم يظهر في الصورة، فهي "ابنةَ البردِ القارسِ/ ابنةَ الذين تصطكُّ أسنانهم في العراء/ ابنة الذين تركوا النيران تحرسُ رمادَهم/ وظلُّوا يَبحَثونَ عن نيرانٍ أُخرى كي يَدفَأوا".
غيرنيكا العربية
"ما أردت قوله من البداية" هو توظيف متقن للصورة الشعريّة التي تحوّل المشاعر والأفكار إلى لوحةٍ بصريَّةٍ نابضةٍ بالحياة، وتكمن براعة بلداوي في استخدام اللغة كأداةٍ تشكيليّة، لخلقِ عالمٍ شعريٍّ مليءٍ بالدَّلالات، يدعو القارئ للدخول في تجربةٍ مشتركةٍ معه، عبرَ لغةٍ تتجاوز الكلمات وتُمَكِّن المتلقّي من التعاطف مع النص ومعايشته، ويُلامس أعماق النفس البشريّة، فتثير المشاعر.
يرسم الشاعر بشاعة الحرب والظلم، في لوحة مثقلة بالأنين، كأنه رسمها "من تحتِ سَبْعَةِ بيوتٍ مُهدَّمةٍ عليه"، لوحة لا تقلّ تعبيرًا عن غيرنيكا بيكاسو، كأنَّها بيانٌ للعالم "باسمِ كُلِّ النّائمينَ تحتَ التّراب"، والذين يريد الشاعر في هذه القصيدة أن يصنع لهم عمودًا تذكاريًّا، ليضعه على بابِ المتحف الذي يضم لوحاته، ولأنَّهُ يبحث عن شجرة رمز، رأى أنَّه لا يستطيع اختيار الشجرة المناسبة بمفرده، ولذلك، لا بد من مشاركة القارئ في الاختيار، للاستفادة من تصوراته وانفعالاته المتراكمة حول القضايا التي تؤرّق الإنسان العربيّ، نقرأ فيها:
"من أيِّ حديقةٍ في الأرضِ
سَنختارُ شجرةً، من دونِ ما صارَ رمادًا،
ظلَّت بِعُرْيِها صامدة،
لنصنعَ من خَشبها هذا العَمودَ
الذي نفكِّرُ به أنا وأنت،
عاليًا حدَّ أن يراهُ الضحايا
من شُرفات الزمان البعيد
فترتاحُ أجسادهم المُهشَّمةُ
وتَهدَأُ أراضيهمُ المُقطَّعة الأوصال".
ويختتم القصيدة، بآمال مرفوعة بوجه الخلائق، لا يسعها سوى الغد الذي لن يصل، ونداء معبر تسمعه الجبال، وصرخة في وجه العالم الأعمى والأصم والأبكم:
"باسم كلِّ النائمين تحتَ التراب
سنعلّقك إلى غدٍ لن يصل
وإلى مَساءٍ ممحوٍّ من دفتر الليل
إلى حيثُ لا تاريخ
ولا أزمان
يا أميركا".
فهو يريد، بكلِّ ما يملك من وسائلَ شعريَّةٍ، أن يواجه أميركا، بكلِّ إجرامها وأثرها التخريبي في الحياة؛ وإن كانت المواجهة هذه لا تعدو أن تكون شعريّة، لكنّها توضع في خانة الكشف الشعري عن الدور الوحشي تجاهها، إنه موقفٌ إذًا، موقف منها ومن ممارساتها.
العالم والمائدة
بعد تلك الصرخة بوجه أميركا، يقدّم لنا بلداوي قصيدة بعنوان: "المائدة"، وهنا نجد أنفسنا أمام مشهدٍ أشبه ما يكون بوقوف مرشدٍ سياحي في متحفٍ، ويشرح تفاصيل اللوحة لشخصٍ لم يستوعبها بعد، فيقول له:
"خُذ ما تَشتهي من المائدة:
أشلاءٌ عربيَّةٌ أجادَ المستعمرونَ تقطيعها
شرابٌ من دمٍ ودمعٍ مع نكهة الفوسفور "الحَلال"
وهذه العظام؟
كانت معتَّقةً تحت التّراب،
من مجازرَ قديمةٍ نَسيناها،
أخرجتها القذائفُ أوَّلَ الأمس،
يمكنك أن تسمعَ فيها صُراخًا قَديمًا
وتشمَّ رائحةَ موتٍ يتجدَّد".
هذا المقطع، يثيرُ في النَّفسِ صُورًا لا يُمكِنُ أن ينساها، لن ينسى الأشلاءَ التي أجاد المستعمرون تقطيعها، فكيف يكون التقطيع جَيِّدًا؟ سيتخيَّلُ كلَّ قارئٍ صورةً خاصةً به، وسيتخيَّل الكأس المُدنَّس الذي به شرابٌ من دمعٍ ودمٍ مع نكهة الفوسفور الحلال، وسيتخيَّلُ العظام التي أخرجتها القذائف من مجازر قديمة، ولن ينسى رائحة الموت. كيف هي رائحة الموت؟
وفي نبرةٍ تهكّميَّةٍ، يقول لهذا الأجنبي (أو لعلَّهُ العربيّ) الذي ينظر إلى اللوحة دون اكتراث:
"خُذ ما تشتهي من مائدتِنا المُباحةِ على الطريق
يَمرُّ عليها قتلةٌ كثيرونَ
قادمونَ من مُدنٍ تَصنعُ الحقوقَ وتبيعها
ولا يسألون:
من الكريمُ الذي أباحَ لنا لحمَ أهلهِ
ووهبَ لنا أرضَهُ
نتعلَّم فيها الافتراس كيفما نشاء؟".
في اللوحة المليئة بالأشلاء المُقطَّعة، والكؤوس المملوءة بالدَّم والدَّمع، هنالك إنسانٌ يبدو من بعيدٍ وكأنَّهُ خارج اللوحة، إنَّهُ العربيّ الذي ما زال حيًّا، الكريم الذي يُقدِّمُ للضيوف شواء أهله الذين افترستهم الوحوش.
وكأنَّهُ يُرتِّبُ لوحته بدقَّةٍ شديدة، وبعد أن أرانا الطَّعام الذي على المائدة، يخبرنا شارح اللوحة عن الوحوش التي يعرفُ حقيقتها، ومساعيها، وما اقترفت يداها سابقًا، هذه الوحوش التي لا تدَّعي تحضّرها وتطالب بالعدالة، لكنَّها ليست بريئةً من دمائنا:
"نعرفها من أوَّلِ ضحيِّةٍ في هذه الغابة
نعرفُ ماضيها وحاضرها،
ركضٌ خلفَ الفرائسِ لا غير
نعرف حقيقتها كذلك،
لكن فاتنا أن نظلَّ يقظين
وفي غفلةٍ صارت ترتدي ثيابًا مغزولةً بالعدالة،
ومطرَّزةً بالحريَّة اللامعة
صدَّقناها يا بيتكِ العراء،
وعائلتكِ في فم الموت.
لا بأس يا أمّ،
ما تزال ترتدي هذه الثياب،
لكنَّها مُبقَّعةٌ بدمائنا،
ما تزال تهدر أفواهها بالسماحة،
وفي
أنيابها
المجزرة".
غزة
وفي غَزَّةَ نَرى "الصغيرُ المرفوعُ رأسهُ على رمحِ العاصفةِ/ والمدفونُ جسدهُ تحتَ انهيارات الوجود"، وحيدًا، بعد أن كان عليه أن يكون مُطمئنًّا ونائمًا جنب أمه أو أبيه، هو الآن "تبتسمُ بوجههِ نيرانُ القاذفات/ وتوزِّعُ أعضاءَهُ شظايا كان يظنّها يدًا تُلاطفه"، ويخبرنا شارحُ اللوحة عن هذا الطفل فيقول:
"هذا الذي أضاعَ في حشدٍ من المجروحينَ طفولتَه
وصارَ عليهِ أنْ يفهمَ الدّمَ والأشلاءَ
وبكاء المُعزّين،
الذي عليه أن يكونَ نائمًا جنبَ أُمِّهِ المُطمئنّة وأبيهِ الذي يرسمُ على سقفِ غرفتهِ
غدًا مزدحمًا بالزهور".
وكأنَّ إصبع الطفل يشير إلينا أن هذا قاتلي، ولكن من نحن؟ نحن أمّة مثل الحصى:
"جئنا مع الغروبِ نحملُ رَهبةَ المَوتِ/ وثِقلَ الخُطى إليه/ جَرْحى/ تنامُ الحربُ أسيرةً في صُراخاتِنا/ وخلفْنا الجِيادُ تصهلُ للأمِّ التي تُزغرِدُ/ والأبِ الذي يَهطلُ النَّصرُ من عينيه".
عجز المثقف: "حارس فارغ اليدين"
في قصيدة "حارسٌ فارغُ اليَدين"، يُصوِّرُ الشاعر نفسه كحارسٍ فارغ اليَدين، كأنَّه يرمز إلى المثقَّف الذي ليسَ بيدهِ أي شيء ليفعلهُ لتغيير الواقع غير التعبير عنهُ فَنيًّا أو تحليله فكريًّا، كأنَّ القلمَ لا يكفي ليكون سِلاحًا كما تقول الاستعارة المشهورة، يقول الشاعر في صورة لا يمكن نسيانها:
"كأنّي أرعى كلَّ المغضوبِ عليهم
فالخِنجَرُ الذي قُتل بهِ الأبُ الأوَّلُ في خَصري
والحوتُ الذي ابتلعَ أخًا لي
عالقٌ في حوض البيت
والذِّئبُ الذي مزَّقَ قميصًا خاطتهُ أمٌّ ضريرةٌ،
هناك، تُلاعبه الرِّيحُ على الحَبلِ في الخارج
والحِجارةُ التي شَجَّت رأس الإمام
أُخَبِّئُها خَلف ظهري،
لكنَّني في الحقيقةِ
لستُ سوى حارسٍ فارغ اليَدين
أحرسُ أسايَ،
وأسى المدينة
واللصوصُ هناك،
يمرحون
في
فراديسَ
بعيدة".
هذه عيِّنات قليلة من "ما أردتُ قولهُ من البداية"، وهو ديوان مليء بالنماذج التي تُثري التجربة الجماليّة الشعريّة رغم أنها عن واقعٍ مشوّه. لقد أبدع بلداوي في تجسيد الحاضر العربيّ - الشخصيّ المضطرب، بلوحة تحوي قصائد "مشاهد" في غاية البراعة، مليئة بالرموز، ومصاغة بلغة رصينة، وخيال أجاد رسم المأساة، في صور تثير خيال المتلقي، وتسهم في إضفاء الإيقاع الداخليّ للنص، وتُعزِّز تأثيره العاطفيّ، إنّها "كتابةٌ على جبين الحرب"، تُحرِّك الوجدان وتَعلَقُ في الذّاكرة، كتبها الشاعر بعد أن سمع "غرابًا ينعقُ في أغاني المدينة"، لِيُحَرِّكَ ضَميرَ "أمة من التائهين".
* كاتب من السودان.