}
عروض

البِنْتَاميرون: عن حكاية الحكايات والأساطير

باسم سليمان

31 يناير 2025


تسرد لنا الحكايات والخرافات والأساطير لدى الشعوب حكمة جوهرية، بأنّ الواقع عندما يُغلق على مكنوناته وتسجن تلك القوى الكامنة فيه، وتُمنع من التحرّر، لأسباب قاهرة؛ والتي يتم تظهيرها- على سبيل المثال-  بوجود ملك مهووس بقتل العذراوات بعد أن يفتض بكارتهن، لأنّ زوجته قد خانته، كما في الليالي العربية، أو لأنّ جائحة مرضية كالطاعون بدأت تحصد البشر بمنجل الموت، لا يمكن الهرب منها، إلّا باعتزال المدن واللجوء إلى الريف، مثلما رأينا في (ديكاميرون) للإيطالي جيوفاني بوكاتشيو في القرن الرابع عشر الميلادي؛ بأنّ هذه السرود التراثية تُظهر لنا قوة كامنة في الوجود الإنساني؛ اسمها الخيال قادرة على إعادة فتح مغاليق الواقع وتوسيعه والانطلاق في أمدائه من جديد. وهذه الميزة لتلك الحكايات والخرافات والأساطير نجدها في أيّ قصّ شعبي عبر العالم؛ ولذلك لا غرابة أن يعمد الكاتب الإيطالي جامباتِّيستا بازيلِه (1575-1632) للنسج على منوال الديكاميرون، بأن يسرد خمسين حكاية على مدار خمسة أيام، لإعادة الحقّ لأصحابه. هذا القماش الذي أبدعه أو أعاد نسجه بازيلِه هو: البِنْتاميرون – حكاية الحكايات؛ والتي حقّقها وقدّم لها الفيلسوف الإيطالي بِندتّو كروتشِهْ (1866-1952) وأصدرها عام 1925 عن دار نشر (لاتيرتسا) حيث قام بترجمتها للعربية عن الإيطالية المترجمين: أمارجي، ويوسف وقّاص، لتصدر عن دار المتوسط عام 2024.
يعتبر جامباتيستا بازيلِه من أبرز الأدباء الإيطاليين، فقد كان شاعرًا وقاصًا شغوفًا بالتراث الشعبي. ومن هذا المنطلق جمع وأعاد صياغة الحكايات والخرافات الشعبية في مدينته نابولي التي دوّنها باللهجة النابوليتانية - نسبة لمدينة نابولي- حيث اعتبرت أوّل وأهم مجموعة من الحكايات الشعبية في الموروثَين الإيطالي والأوروبي. وللأسف لم ير هذا العمل النور إلّا بعد وفاة بازيلِه، وكان بعنوان (حكاية الحكايات أو مؤانسات الصغار). لقد متح بازيلِه عمله من واقع مدينته نابولي ومن حكاياتها وخرافاتها المتداولة على ألسنة أبناء المدينة، فأعاد لها الروح، بعد أن فقدت الكثير من رونقها، عبر لغة حيوية تستوعب الاستعارات الغريبة المبثوثة في تلك القصص والدعابات اللفظية الطريفة والثنائيات التي تجمع بين الخرافي واليومي من ناحية، ومن ناحية أخرى بين الهزلي والرصين في تضاعيفها السردية.
تبدأ حكاية الحكايات بمقدّمة وافية من الفيلسوف بِنِدِتّو كروتشه، يشرح فيها أهمية (البنتاميرون) كواحدة من أهم المجموعات الحكائية الشعبية، مستشهدًا برأي الأخوين غريم الألمانيين عنها، اللذين أعدّا القصص الشعبية المسمّاة (حكايات للبيت والأطفال) والتي قطفا ثمارها من أشجار الموروث الألماني كدليل على أهمية هذا النوع من الأدب الشعبي. ثم يتكلّم عن حياة بازيلِه، وبأنّ (البنتاميرون) والتي تعني (المخموس؛ كلّ ما هو مكون من خمس عناصر أو أركان) ليست النتاج الوحيد له، فقد أنشأ تسع حواريات شعرية عنونها بـ (إغلوكه: قصيدة شعرية في صورة حوار) مسميًّا كلّ واحدة منها، بأحد أسماء آلهة الإلهام كما عرفن عند الإغريق. ويتابع كروتشه، بأنّ البنتاميرون لم تكن محظوظة في الانتشار، ولربما يعود ذلك بشكل رئيسي للهجة النابولتانية المحلّية التي كُتبت بها، لذلك عمد كروتشه إلى نقلها إلى اللغة الإيطالية وأطلقها في بداية القرن العشرين.




لعبت المناصب التي تسنّمها بازيلِه في حياته دورًا مهمًا في إعادة تشكيل تلك الحكايات الشعبية، فقد أراد منها أن تكون مرافعة في وجه الحسد والجحود والبغضاء والتنكّر للجميل؛ وخاصة أنّه عايش تلك الصفات المذمومة في بلاط الملوك والأمراء الذين خدمهم، فقد كان يشعر بتأنيب الضمير، وهو يشهد صامتًا على الصراع المخملي الذي يدور في الطبقات العليا للسلطة، حيث لم يكن يستلم أحد منصبًا، إلّا من كان الأجرأ على الكذب، وحياكة المؤامرات، وفعل الشّرّ. ولأنّه كان لا يقبل التنازل عن أخلاقه، فلم يتحصّل من تلك المناصب على غنائم أو ثروات. لقد تحوّل بازيله إلى متزمّت أخلاقي نتيجة لهذا الواقع، ومع ذلك ظلّ الجمال ينبض في داخله، شغوفًا بالخير، والاستقامة ومحبًا لمسقط رأسه نابولي ولعاداته وقصص النسوة العاميات والأمثال والحكم التي يتفوّهن بها. لقد لعبت هذه العوامل دورًا مهمًا في كيفية إعادة نسج تلك القصص، فكلّ قصة وضعها في البنتاميرون، تبدأ بحكمة تضيء مسرد الحكاية وتنتهي بخلاصة مكثّفة وكاشفة لأبعاد ومعاني الأحداث التي وردت فيها. ولأنّ القصص لم تكن كافية، بمكان ما، لبثّ مشاعره وأخلاقه ورؤاه فيها، فقد ضمّن المخمّسة، أربع قصائد غنائية حوارية، لكلّ واحدة منها موضوع خاص، تفصل بين تلك الأيام الخمسة للحكايات، فأولى تلك القصائد جاءت بعنوان: (البوتقة) وفيها يسخر من الفرق بين المظاهر الخارجية والحقيقة. أمّا الثانية، فكانت: (الصِّباغة) وأبان فيها كيف يتخفّى الشّرّ بالخير والخير بالشّرّ وفق المصالح البشرية. فيما الثالثة جاءت بعنوان: (الموقد) وأظهر فيها بأنّ الصعوبات ستقابل كلّ طموح إنساني، لذلك على الإنسان أن يقوي إرادته حتى يصل إلى غاياته. بينما الأخيرة كانت (الخُطّاف) وتدور عن الجشع والطمع الذي يدفع الناس إلى السرقة والقتل.  

الحكاية الإطار

هناك ثيمة متواترة في الحكايات والخرافات والأساطير الشعبية، بأن تكون هناك قصة رئيسية تبرّر سرد القصص، كما في ألف ليلة وليلة والديكاميرون، وهذا ما نجده لدى بازيلِه في البنتاميرون.
كان يا مكان في قديم العصر والأوان، أميرة تُدعى (تسوتسا) لا تضحك حتى للرغيف الساخن، وقد احتار أبوها كيف يجعلها تضحك، فاستجلب المهرّجين ولاعبي الخفّة وغيرهم، فلم ينفع ذلك إلى أن خطرت في باله فكرة، بأن يصنع نافورة أمام القصر ترشق الزيت من حولها، ممّا يدفع المارة للقفز والجري والتصادم لكي لا يلوث الزيت ثيابهم، وبالضرورة سيسبّب هذا الواقع مفارقات غير معقولة وكان الأمر كما توقّع. وحدث أن رأت عجوز متسوّلة في نقاط الزيت المتناثرة هناك وهناك غنيمة، فبدأت تجمعها، فاعترضها أحد خدم القصر بالاستهزاء، فتبادلا الشتائم وأمام هذا المشهد السخيف تضحك الأميرة. وهنا تتنبّه لها العجوز، فترشقها بسيل من الشتائم، بأن لا تجد حتى ظلّ زوج! وألّا تتزوج سوى أمير (كامبوروتوندا)؟ فاجأت شتائم ولعنات العجوز الأميرة واستغربت منها، وطلبت المعنى وراء تلك الشتائم العجيبة، فأخبرتها العجوز، بأنّ أمير كامبوروتوندا يدعى (تاديو) وهو أمير وسيم وخلوق، لكنّ لعنة حلّت عليه، وهو مدفون في قبر رخامي ولن يتحرّر، إلّا بأن تذرف أنثى من دموعها خلال ثلاثة أيام ما يملأ إناء كان قد وضع على قبره. لقد غيّرت لعنات العجوز الأميرة تسوتسا وزرعت في قلبها هاجس البحث عن قبر ذلك الأمير.

تبدأ حكاية الحكايات بمقدّمة وافية من الفيلسوف بِنِدِتّو كروتشه (Getty)

فامتطت الأميرة قدميها وشدّت الرِحال بحثًا عن القبر الرخامي، وفي طريقها التقت بحوريات أعجبهن إصرارها، فمنحنها ثلاث حبات: جوز وكستناء وبندق، وطلبن منها ألّا تستخدم تلك الحبات إلّا للضرورة القصوى. وصلت الأميرة أخيرًا إلى قبر الأمير تاديو وبدأت بالبكاء، لكنّها في اليوم الثالث نال منها التعب وقد كان لا ينقص حتّى يمتلئ الإناء سوى ثلاث دمعات، لكنّ النوم سلطان. بالقرب من القبر كانت هناك خادمة سوداء تعرف قصة قبر الأمير تراقب تسوتسا، فما إن غرقت الأخيرة في النوم حتى اختطفت الإناء وذرفت ثلاث دمعات فقط، فامتلأ الإناء، وإذ بالأمير ينتفض من سباته الرخامي ويتزوّجها بعرس مهيب يستحقه أمير عائد من الموت. تستيقظ تسوتسا لتجد ما سعت إليه قبض الريح، فتندب حظها، لكنّ الحبّ سيدٌ مطاع، فتشتري قرب قصر الأمير بيتًا لتؤنس نفسها بالقرب منه.
يلاحظ الأمير تاديو تسوتسا ويميل قلبه إليها، لكن الخادمة تستشعر التغيّر في مشاعر زوجها فتغضب وتهدّده، بأنّها ستجهض جنينهما بضربة من يدها على بطنها. انكفأ تاديو عن غاياته الدفينة نحو تسوتسا خوفًا على ابنه المنتظر. وهنا بدأت تسوتسا تستخدم الحبّات المسحورات، واحدة تلو الأخرى وقد كانت الأخيرة حبّة البندق التي خرجت منها دمية تغزل الذهب، فطلبت الخادمة من زوجها تاديو أن يشتري تلك الدمية، فذهب بنفسه إلى تسوتسا التي همست بأذن الدمية أن تُولع قلب زوجة تاديو بالحكايا وكان ذلك!
اشتعلت الرغبة بسماع الحكايات في قلب الخادمة، ولأنّ تلك الرغبة هي أقرب للوحام التي يصيب الحامل، خشيت إن لم تتحقّق رغبتها أن يأتي ولدها ثرثارًا مهزارًا لا يليق بأن يكون ابن أمير وأميرة، فطلبت من زوجها أن يحضر لها من يقصّ عليها الحكايات حتى يحين وقت ولادتها. تجمهر الكثير ممن يسردون القصص والخرافات، لكنّ الأمير انتقى عشر حكّاءات فقط، وهكذا بدأت البنتاميرون.
كما استطاعت شهرزاد أن تدفع عن نفسها وبنات جنسها الموت بإشغال شهريار بالحكايات؛ كذلك فعل بوكاشيو في الديكاميرون للنجاة من الموت بالطاعون. ومثلها فعلت تسوتسا التي قامت بإشغال قلب زوجة الأمير بالحكايات إلى أن تحين اللحظة المناسبة وتفضح فعلتها الخسيسة وكيف سرقت منها حبيبها.

البنتاميرون

كانت الحكّاءات يتبادلن القصّ واحدة تلو الأخرى، بحيث تُقصّ عشر حكايات في اليوم؛ متنوعات المواضيع والحكم والمعاني. حيث يجد القارئ في تلك القصص صيغًا أخرى للحكايات المشهورة؛ من سندريلا إلى القط ذي الجزمة أو الأميرة النائمة أو الإوزات الوحشيات قبل أن تخضع تلك القصص للتطوير والتعديل من كتّاب ورواة آخرين، فسندريلا على سبيل المثال ساعدت الخادمة في إبعاد زوجة أبيها الجاحدة لها، من ثم أقنعته بالزواج من الخادمة التي أبدت لها حبّها، لكنّها تتغير عليها بعد الزواج من أبيها، وتذيقها من العذاب ألوان! أمّا إوزّات الكاتب الدانماركي هانز كريستيان أندرسن فقد كنّ حمامات في قصص بازيلِه.
مهما يكن فاكتشاف التشابهات بين البنتاميرون وغيرها من نسخ القصص المتعدّدة في المرويات الشعبية الأخرى يعود للقرّاء، كما قال كروتشه في ختام تقديمة لهذه التحفة الأدبية، لأنّ ما يهمه هو أن يتذوّقها القرّاء كعمل فنّي متكامل بذاته، لا أن يتوهوا بين مقارنة هذه النسخة من الحكاية عند بازيلِه وعند غيره من الكتّاب. مهما يكن ممّا سبق، فالنقطة الأهم في البنتاميرون أنّنا أمام إرهاصات الرواية البوليسية، قبل أن تولد مع القاص إدغار ألان بو في القرن التاسع عشر. لقد تملّك حبّ الحكايات الخادمة والأمير، وفي اليوم الخامس، تتغيّب إحدى العجائز وتحضر بدلًا منها تسوتسا لتروي قصتها منذ اللعنات التي صبّتها عليها تلك العجوز السليطة اللسان إلى لحظة غرقها في النوم قرب قبر تاديو. وأمام الدلائل التي ساقتها تسوتسا يكتشف الأمير خدعة الخادمة، فينتقم منها ويقتلها ويتزوّج الأميرة تسوتسا.




لا ريبَ أنّ البنتاميرون مرآة تعكس القصّ الشعبي بأبهى صوره، على الرغم من أنّه قد أُهمل طويلًا من قبل النقّاد وقرّاء الأدب الجّاد، كما حصل مع ألف ليلة وليلة، وعندما اكتشف كروتشه هذا الإجحاف بحقّها، جهد بأنّ يضعها بين يد القرّاء. ومن الضروري التنبيه، بأنّه عند قراءة البنتاميرون على القرّاء أن يأخذوا بحسبانهم بأنّها أشبه بلعبة الماتريوشكا الروسية، ما إن ترفع غطاء البساطة عنها، حتّى يتكشّف لهم غناها المتنوّع الألوان. وفي ختام هذا المقال لا بدّ من القول بأن ترجمة أمارجي ويوسف وقاص لهذه التحفة الفنية كانت من السلاسة والتدفّق، لدرجة تدفع القرّاء لتذكّر حكايا الجدّات في الطفولة.

*كاتب سوري. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.