}
عروض

"خالتي العنقاء": المرأة الفلسطينية حاملة الهوية

حسام معروف

4 يناير 2025


في كون يضجّ بالألم الفلسطيني، يبعثر الشاعر الفلسطيني خالد جمعة ترتيب المكوّنات ليصنع فوضى شعرية، مثل دادئي يعبث بحدود اللغة والمعنى، عله يجد شكلًا آخر للوجع، يمكن للفلسطيني احتماله، أو يكون طريقًا في آخره صورة غير الموجودة الآن، وذلك من خلال مجموعته الشعرية "خالتي العنقاء" الصادرة عن منشورات المتوسط، 2024.
يمزج جمعة ما بين الواقعي والخيالي بأسلوبية مجددة، وبساطة لغوية، تفتح على تأويلات متعددة. وبينما ينسب الوجع لفلسطين فإنه يخصصه للمرأة الفلسطينية، قرينة الجبال وحاملة السر والهوية، المتجددة من بين الرماد.
ويستدرج جمعة العمق خلال نصه، معتمدًا على الصور المتسربة كالماء بين الحواس. ولا يتوقف عن ربط الشخصي بالكوني، بأسلوب بديع يحفز على التأمل وتبطيء وتيرة الخيال، لفهم حدود الصورة.

المرأة لغة وسيطة

يقدم خالد جمعة من الأم حالة كونية خارقة، تعيد تشكيل الحكاية لتبدو مناسبة لطفلها، حتى لو كان ذلك عكس الواقع. الأم في شعره ذاكرة للمكان وجذر لا بد منه، ليقوى الجسد وسط الريح.
فالأم لغة وسطية تحقق الانسجام وتطيل أمد اللحظة حتى الأبد، ولا يمكن ترك لحظة مع الأم بدون استعادة خيال الطفولة.
عند جمعة تلعب الأم بالوقت ليبدو أليفًا، وتأتي خيالية أسطورية لتدهش الصغار والكبار، تأتي ولا تذهب إلى الأبد، وإن رحلت.
لا يتعامل الشاعر الفلسطيني مع الأم بخيال طفولي، وإنما بوعي كبير، إذ يضعها في مصاف المدهشات والعجائب، تلك الصورة المثالية التي تملأ الفجوة ما بين الواقع والخيال، وتمنع الشر من دخول الغرفة عبر حكاياتها وصوتها المضيء.
من النص:
"أمي ساحرة طيبة من كمّ ثوبها، تُخرج ظلالًا في الصيف، بدعاء قصير من القلب يتوقف السقف عن الدلف في الشتاء، من حكاياتها الليلية تخرج الأميرات ويجلسن معنا على العشاء، تُملّس على خيط الحرير فتضحك الغرز ويبدأ الثوب بالغناء".
ويأتي الحزن في نصوص جمعة جماعيًا، ثقيلًا، يفكك البيت إلى صناديق معزولة. هكذا تكون عائلة الشهيد الفلسطيني، تدور في حالات شعورية مختلفة، فليست أم الشهيد كأخته كأبيه، لكنه الحزن مشترك بين الجميع، وفي لحظة يصبح طقسًا يوميًا.
ويبدو الشهيد في نصه مثل بطل الروايات المكسيكية، لا يموت حقًا، ولا يبتعد عن المكان، إنما يتوارى ليحدث الشغف، ويؤجج المشاعر.
هنا لا تتوقف الأم عن مشاركة الحياة مع ابنها الشهيد، "لأتأكد أن القميص الذي اشتريته له مناسب". تقفز هذه الصورة عن الزمن والحالة الفيزيائية للجسد، لتكشف عن ميت يستمر في النمو، ينمو في الأحلام والذكريات، ويرفض وضع نهاية لقصته.
لطالما بقيت صورة الشهيد في النص كأنها لحظة توقف عرض شخصيته في السينما. لحظة تجمد لكل شيء يحيط به، جسده وصبحه وليله وأقماره، فيبقى كل شيء على حاله متجمدًا، خارج العجلة الزمنية، عالقًا في الخيال والحلم والواقع، بعائلة تدور حوله، وحوله فقط، لتستعيد حياتها من الجمود.
يكتب الشاعر: "لم يكن في العشرين، تقول أمه بصوت نهنهة الفاجعة. كان أطول مما يبدو في الصورة، ترد أخته فيما الصورة بين أصابعها. أبو الصامت يدخن بقايا العلبة التي تركها الولد، كان يعرف أنه يدخن ويعرف أنه على علاقة بابنة بائع التحف، سعيدًا كان لأن ابنه على بوابة الرجولة يدرج، والآن يخسر قلبه نبضتين (ابني في الثلاجة، والصبح والليل وأقماره في الثلاجة معًا)".

إسوارة الحساسين

تحفر قصائد خالد جمعة في المأساة بأصابع طويلة، باحثًا عن الطقوس التي تخزنها الذاكرة الجمعية للبشر. أليست مهمة الشعر النبش في الراكد؟
لكنه الراكد الذي لا يتحرك إلا بالتناقضات، وما بين الموت والحياة يبرز ذلك المتناقض، ليكشف عن فهم أعمق للواقع، ويسرد قصة الإنسان مع ذلك.




في الواقع الفلسطيني، تحمل المرأة طقوس يومها، بتلقائية، كجزء من المقاومة غير المعلنة ضد الاحتلال والموت معًا.
وتظهر في شعره تفاصيل العرس عند المرأة، حمام الزيت، والفستان المستوحى من حكايات الجن، والإسوارة المهداة من الحساسين، كنوع من حراسة الحياة، وتجليس للفرح داخل البيوت الفلسطينية، لاستعادة توازن ما، في وجود ثقل الحروب والموت والاندثار، فيبقى الفلسطيني في أعراس دائمة، ليست كلها للفرح، وإنما لتوديع الشهداء في أوقات كثيرة.
ويعمد جمعة إلى طرح الرموز الشعرية التي تزيد من عمق قصيدته. "الجنازة طويلة والشارع ضيق". يضع هنا إصبعه على كثافة الموت في مسقط رأسه غزة، واستمرار نزيف الدم في بلاده. أما الإشارة لضيق الشارع، فهو العنف والاحتلال والسجن والاختناق الذي يسيطر على الحالة الفلسطينية.
من النص: "للبنت التي أعدت كل ما للعرس من طقوس حمام الزيت، لليدين المرتبكتين، فستان من إحدى حكايات الجن وإسوارة ألفتها الحساسين ردًا للجميل (كانت تطعمهم القمح الطري حين يكون الطقس قاسيًا) الجميع في طقس الجنازة الآن على باب البيت المزوق برسومات قديمة".
لا يكفّ خالد جمعة عن البحث في معنى عالم يطاوله التشظي وتساقط الثوابت. فهل يمكن أن تبقى الشاعرية ذاتها وسط الحرب؟ وهل يمكن أن تستمر شجرة الموت في نموها وسط النهر؟ وكيف يمكن الموازنة بين الدم والماء في مدينة عطشى؟
تلك الأسئلة الوجودية تظهر كجزء من سباق مع الأفكار. وتبدو الصورة القاتمة عن العالم راجحة في موازين النص الشعري لديه، لكنه دومًا يبدو كمن يجلس على كرسي مصنوع من الديناميت، ويعزف على البيانو، وسط حرب ضروس، تمامًا مثل عازف رواية مونولوج 1900، لأيساندرو باركيو، فتظهر مكونات الموت والحياة والحب والرجولة، في هيئة جديدة، لتنتج نصًا شعريًا مجددًا.
يضع جمعة يدًا حانية في نصوصه دومًا، تستمر في تحريك القارب نحو ضفة آمنة، بالرغم من أن عاصفة كبيرة تدور في قصيدته، وتساؤلات حول الميتافيزيقا والمعنى المرتبط بها، والعبثية والوجودية، تلك اليد هي الحب، مسار الناجين والطريقة التي تجيء بالهوية لا بالوصايا.
يكتب جمعة: "لم يربّني أحد على أن أحبك، لم تزرع أمي فضائل للموت في حكاياتها، لم يقل لي أبي إن الرجال عليها أن تموت كي تكون رجالًا، قالا لي: انزع كدر المدينة عن عينيها وستحبك إلى الأبد".

هشاشة

بين الأبدي واليومي، دومًا هنالك صراع داخلي، ووساوس لا يمكن ردمها بإغماضة العين. وفي كل مرة يقف النص الشعري في منطقة وسطية ما بين توتر الذات والراحة المنشودة. تلك المحاولات لتركيب الزمن كما يراه العقل، لا كما تعيشه مشاعرنا أو نضعه في الذاكرة.
مطالبات الشعر كثيرة، وتمنياته تفتح على المستحيل وعكس الإرادات والنواميس، كيف لا، وكل لحظة شعرية هي جزء من خيال بلا حدود، فتجلس الحرية القصوى هنالك، في أبعد ذرة للخيال، حيث تجلس قصيدة خالد جمعة والأمنيات الشاعرية.
يكتب الشاعر: "أفقت من نوم غير مريح، وجدت العمر الذي اتفقت وإياه على أن يبطئ من تدفقه فقد خانني وأحرق كثيرًا من السنوات أثناء نومي. وفوق هذا فقد أخذ الطفل الذي كنته وسرّب إلي رجل بشعر فيه بياض كثير وعينين لا تريان جيدًا، إلا بنظارة طبية. جلست مثل مأخوذ ضعيف لا يملك ما يفعل، فما الذي يمكن أن ترد به على الوقت؟".
يبطن الشاعر الواقع السياسي والاجتماعي لما تحياه فلسطين خلال نصه، مرفقًا الحالة السيئة وانعدام الأفق في يوميات الفلسطيني بوجود الاحتلال. فنرى فلسطين في نصه بلا رؤية للمستقبل، وبلا أفق. "وطني ولدٌ أعمى". لكنه يبقى دومًا على المرأة الأقوى بنية في النص، والسند الذي ترجع إليه الأشياء مطمئنة حين تفقد التوازن فرؤيته دومًا، أنه لا بد أن ترجع الحياة حيثما تكون المرأة. "ابتسمي وسأعطيك نهرًا" وقوله: "الأم غيمة".
ولا تتوقف الصورة الذكية في نص خالد جمعة عن ملامسة الشعور البشري والخيال. فما من شاعر إلا ويعرف بأن الطريق إلى الشعر صعب، ومؤرق. لذا تبدو المأساة في نصه، حتى وإن كان يلقي بالجمال بين الجمل الصغيرة. رأيته كما لو أنه يلقي خيطًا، بطرفه أكلة صغيرة لعصفور بجناح انكسر للتو. رأيته يلبس المأساة ثوب الجدات الفلسطينيات المطرز، لينقذ شكل الحياة، ولو من خلال صورة شعرية.
صنع جمعة الهشاشة ووضعها في العالم، لترى طريقة الانكسار، وصنع الشفافية ليكشف عن عدم احتمال العالم لرؤية الناجين من لوث، سقط فيه الجميع.
"لأول مرة أرى كائنًا من زجاج، كل شيء فيه واضح، ما يحب، وما يكره، رأيه في أصدقائه، من في قلبه ومن خارجه، لكنه لم يحيَ سوى ثانيتين فقط، كسروه لأن العالم لم يحتمل وجوده، حولوه إلى مزهرية فارغة"...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.