}
عروض

"لو يخون الصديق": جمالية المفارقة وصنع المفاجأة

"خير لك أن تأتي متأخرًا من أن لا تأتي أبدًا"، هذا بالضبط ما حدث لي، حين اكتشفت مؤخرًا مجموعتين شعريتين للشاعر والكاتب السوري محمد ديبو، سأتناول في هذه العجالة إحداهما وهي الأقدم، إذ نشرت عام 2008 تحت عنوان "لو يخون الصديق"، علمًا أن المسافة الزمنية التي تفصل بين المجموعتين تخللتها مآسي الحرب السورية التي لم تنته بعد والتي تركت بصمات واضحة في القصائد، بدون أن ينزلق صاحبها إلى متاهات السياسة والأيديولوجيا، بل قاربها من منظور إنساني مترفعًا عن الصغائر ليصور معاناة البشر وجراح الضحايا التي لا تندمل؛ يقابل ذلك تحليق في فضاءات الجمال ترسمها ريشة فنان حساس يعيش الشعر فعل حب، ويختبر الحب معراجًا للروح واحتفاء بالجسد الأنثوي المتحرر من لوثة الخطيئة، وتجربة انصهار بين عاشقين رجل وامرأة، يجد كل منهما في الآخر طريقه إلى اكتشاف ذاته: "الأنا ذروة الآخر"، و"العطاء ذروة الحب"، بهذه الكلمات تطالعنا القصيدة الأولى التي يعطينا الشاعر من خلالها وتحديدًا من خلال عنوانها: "الأضداد"، أحد المفاتيح الأساسية للدخول إلى عالمه الشعري، أي الجمع بين المتناقضات: المحسوس والمجرد، الحسي والروحي، المألوف واللامألوف... فهو يتوسل في لغته المفارقة المنتجة للدهشة، ويعتمد على المفاجأة وخاصةً في ما سأسميه القصيدة- الأحجية حيث يتحوّل الوصف إلى وعاء للمجاز ويجد المتلقي نفسه مدعوًا لأن يقرأ القصيدة بحواسه وعقله، وأن يشحذ ذهنه ليفك شيفرتها المبثوثة في جسد النص صفاتٍ وأفعالًا.
في المجموعة أربع قصائد تنتمي إلى هذه الفئة يجمع بينها إضافة إلى توسل اللغز، المفارقة بين العنوان والخاتمة التي تحل فيها الأحجية: "كامرأة لا توقظ الشهوة"، "كامرأة لا نودها"، "كحب قديم"، "لو يخون الصديق". أتت عناوين القصائد (باستثناء العنوان الأخير) في قالب التشبيه الذي يشكل بصورة عامة مرتكزًا لبناء الصورة إلا أن وظيفته ليست بيانية عند ديبو بل إبداعية إذ لا توجد علاقة منطقية بين المشبه والمشبه به، بل هي تخييلية، مجازية: يلبس الخوف وجه المرأة التي لا توقظ الشهوة، ويأخذ الموت ملامح المرأة التي لا نودها، وما الابتسامة إلا ما يشبه "الحب القديم"؛ أما عنصر المفاجأة في العنوان الرابع، والذي اختاره الشاعر لكامل المجموعة، فلا يكمن في الصيغة بل في المفارقة بين ما تشير إليه من جهة، ومضمون القصيدة من جهة أخرى، حيث تنقلب صورة الصديق المخلص إلى ضدها العدو اللصيق الذي يصعب التخلص منه: "صديقي الوفي الذي... أشتهي لو يخون... صديقي: الفقر العزيز". واللافت كيف استطاع الشاعر أن يجسد المفاهيم والأفكار المجردة، ليصنع منها شخصيات فاعلة نابضة بالحياة فتتحول القصيدة إلى مشهدية ترسم لوحة غنية بالحركة.
من جهة أخرى، تشكل المفارقة جوهر التجربة الشعرية وتتجلى في ثنائيات مختلفة: لعل أهمها ثنائية الوجه والمرآة، وثنائية الذات والعالم. يطرح سؤال الذات نفسه بإلحاح على الشاعر الذي يفرد له قصيدة إن دل عنوانها: "ذات"، على محورية الموضوع في عالم ديبو الشعري. وأقول الذات وليس الأنا، فالأولى تعيش في الخفاء وتفرض نفسها كلغز ينبغي اكتناهه من خلال رحلة كشف صعبة، بينما الثانية، ظاهرة على السطح، واضحة المعالم، وغالبًا ما يكتسب التعبير عنها طابع الغنائية. يعي الشاعر صعوبة المواجهة، ويخشى أن ينظر في المرآة، أو أن يدخل إلى خفايا ذاته ليسائلها ويعريها: فالخوف هو "ثالث الاثنين: الإنسان وذاته". يصدر هذا الخوف عن شعور بالذنب مرده إلى وعي ثنائية الطبيعة البشرية التي يتنازعها الخير والشر، فتبقى منذورة للقلق: "لو لم يكن الإنسان ملاكًا وشيطانًا لما عرف القلق"، يقول كيركغارد أحد الفلاسفة الوجوديين المؤمنين. نرجسية ديبو، إن صح الحديث عن نرجسية، سلبية؛ يرى ذاته "ساكنة في بؤرة الشر/ متوجة بهالات الخطيئة/ وأنوار الظلمات". نرجسيته توقظ وعيه المأساوي لذاته وللعالم. فمعاناته الخاصة لصيقة بمعاناة الإنسان بشكل عام وبما يدور من حوله من مآسٍ ومظالم، مما يرتقي بالتجربة الفردية ويخرجها من حدود الأنا الضيقة إلى الفضاء الإنساني العام.
مناخ المجموعة تطغى عليه السوداوية والوحشة والشعور باليأس: "الانتظار عدوي الأبدي/ صديق الذات الأبدي/ ومكنونها المختبئ/ يعري ما لا نعرفه:/ خسارتنا المتكررة"؛ وينظر إلى الخارج فيرى المارة "الضاحكة وجوههم/ الباكية أرواحهم/ دون أن يعلموا"؛ غير أنه لا ينزلق إلى لغة البوح، بل يخضع مشاعره للعبة الخيال الذي يفعل فيها كما الخيمياء في المعدن لتحوله ذهبًا، فتلبس ثوب الغرابة وتوقظ لدى القارئ الحدس بما يخفى تحت ظاهر الكلمات، كما في هذه الأبيات: "حتى الأماكن تخاف/ تخفي صدرها/ بملاءة الإسمنت"، حيث ينفتح المعنى على دلالات عدة ويحتمل تأويلات تختلف باختلاف رؤيا المتلقي وتجربته الخاصة. ألم يفسر لنا جان بيار ريشار، أبو المدرسة التأويلية في النقد، أن عملية التلقي تقوم على تفاعل بين تجربتين: المعبر عنها في النص، من جهة، والتي يعيشها المتلقي من خلال النص، من جهة أخرى؟ وللبرهان على ذلك، قد يجد قارئ في هذا الاقتباس مجرد وصف لمباني الإسمنت التي تهددها الحروب بالدمار، لكن قارئًا آخر قد يرى فيها تعبيرًا عن شعور بالفقد وعن حنين إلى الدفء وإلى الشعور بالأمان المقترن دائمًا بالبيت- الحضن؛ وهو ما تشي به لفظة "الصدر" الذي اختفى تحت "ملاءة الإسمنت"؛ فالتناقض واضح هنا بين دلالتين: الحنان والأمومة، من جهة، وما يرتبط بالإسمنت من جفاف وقسوة، من جهة أخرى.




لكن وسط هذه السوداوية هناك فتحات ينفذ منها الضوء: ذكريات الطفولة: العصافير التي "تزقزق صباحًا مع وجه أمي"، الحب يختبره في نشوة الحواس وفي التماع الرؤى عندما يصير جسد الحبيبة بؤرة ضوء تنثر أشعتها في الكلمات والصور. إذ يتغنى الشاعر بجسد المرأة يظل بعيدًا عن الابتذال ويستعين بالمجاز ليجعل من لغته غلالةً تشف ولا تعري، وليرتقي بالإيروسية فتصبح عنصرًا أساسيًا في الجمالية الشعرية. ولديه نافذة الشعر يطل بها على عالم غريب يعرف كيف يروضه، غامضٍ يعرف كيف يدجنه، هو العصي، المتمرد، الساحر، الباحث دومًا عن حقيقة هاربة، والساعي وراء المعنى المستحيل. يختار محمد ديبو الشعر قضية وهوية، فيعرف عن نفسه في هذه الأبيات: "مضفر بمطلق المجهول/ وارتباك الحقيقة/ مشغول/ بشهوة المكر ومراودة الغموض/ وابتكار الآلهة". لكنه مدرك أيضًا أن الشعر حضور فاعل في العالم والتزام بالإنسان؛ يؤلمه انتصار الباطل، وطغيان القوة، واستبداد السلطة، ومشاهد القمع، والحروب المتنقلة، يضع الإصبع في جرح الإنسان العربي فتؤاخي لغته عندئذ بين النثر والشعر: "لهم وردة السلطة/ ولنا صدأ السلطة/ لهم مقاعد البرلمان/ ولنا مقاعد الباطون/ لهم الغرف المكيفة ولنا جنون الهواء".
يبقى أن ما يلفت الانتباه هو براعة الشاعر في هندسة القصيدة التي تبقى متماسكة البنيان وتتوالد فيها الصور الحركية: "متمرد/ كنهر في لحظة بكاء"- وتتشابك فيها الحواس ويتحاور الحسي والمجرد فيصير للروح رائحة، وللضوء صوت وندخل في عالم السحر والدهشة.
أخيرًا لا بد من التنويه إلى ما تضمنه الديوان من "شذرات" تتناغم فيها لغة اليومي مع لغة الإشارة كما في هذا النموذج: "قالت أمي:/ - يكفي تدخين/ - لست أدخن يا أمي/ لكن وطني يحترق/ فوق جبيني!!".
بناءً على ما تقدم يمكن القول إن محمد ديبو يمتلك إضافةً إلى الإحساس المرهف، والوعي الثاقب، والتجربة الأصيلة، خيالًا خلاقًا يرفده الحدس الشعري، أتاح له أن يصنع لغته الخاصة المتميزة.

*أكاديمية من لبنان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.