حظي مفهوم الغموض بأهمية خاصة في الفلسفة، قديمها وحديثها، ونظر فيه كثير من الفلاسفة والمناطقة، بل إن بعضهم كان يتعمّد الغموض في أفكاره وألفاظه، فيما اعتبره آخرون موضوعًا رئيسيًا للبحث في الفلسفة. كما مثّل تحدّيًا للمنطق الكلاسيكي، وجادل فلاسفة مثاليون فيما إذا كان الواقع نفسه غامضًا، حيث افترضوا أن الإنسان حين يريد التوصل إلى تعريف الحق بالمعنى الأخلاقي، فإنه يبحث عن مفهوم يشمل الأفعال التي يفترض أنها صحيحة، ويقوم باستبعاد الأفعال الخاطئة، لذا اعتبر بعض الفلاسفة أنه يجب على المرء أن يحاول التوصل إلى تعريف غير واضح في الحالات الفاصلة. وتناول فلاسفة ومفكرون حالة الغموض التي يجسّدها كثير من قول الفلاسفة الذي لا يفهمه الفلاسفة أنفسهم، وتزيد هذه الحالة مع الناس الآخرين. وقد انتقد الفيلسوف البريطاني برتراند راسل حالة الغموض والإبهام، واعتبر أنه "لو بحثنا عن تعريف للفكرة المطلقة عند هيغل، لوجدناه من الغموض بحيث يغدو أمرًا لا جدوى منه". ورأى أن عدم انتشار فلسفة هيغل في فرنسا هو غموض كتابته باللغة الألمانية، وشكّل ذلك الغموض مانعًا أمام ترجمة أعماله إلى اللغة الفرنسية. كما انتقد غموض فلسفة هايدغر، واعتبر أن اللغة التي كتبت بها فلسفته تسير بلا ضوابط.
تكبر المشكلة مع الاعتقاد بأن الغموض الزائد دلالة على عمق الأفكار المطروحة، وهو ما لجأ إليه فلاسفة ومفكرون في مختلف المراحل والعصور. لكن الحديث هنا يطاول البنى المنطقية للمنظومات الفلسفية التي لا تحصر نطاق الإحالة في الإشارة إلى منطق واحد، وإن صح الزعم بأن جلّ الأنساق الفلسفية الكلاسيكية، قديمها وحديثها، إنما أخذت مفاهيم وقوانين المنطق الأرسطي مبادئ لها، وذلك أمر طبيعي، فإنه طالما كان يُنظر إلى علم المنطق على أنه ولد كاملًا مع أرسطو. وفي هذا السياق، يتناول محمد الشقيف في كتابه "منطق الغموض: من نظرية الحدّ إلى المنطق الغائم" (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2024) حالة الغموض عند أرسطو، عبر التحديد الدقيق للغموض، بما هو مفهوم ولفظ وظاهرة لغوية ومعرفية، وتمييزه عن ظواهر مشابهة له ومتشابكة معه، مثل الإشراك والإبهام والالتباس والتقريب وافتقار المعلومة وانعدام الدقة وتعذّر البتّ وغياب المعنى وفعل الكلام غير المباشر، وذلك عبر تتبع مسار الظاهرة والتفكير منطقيًا ودلاليًا في مشكلتها، واستعراض النقد الذي وجّهه المناطقة المحْدَثون إلى منطق أرسطو، الذين تناولوا إشكالية الغموض وعقيدة التحديد التي تقوم عليها نظريته، وتحديد المسافة بين عقيدة التحديد وغموض القول والفكر، والعودة إلى تاريخ المنطق، والنظر في الشروط التي وضعها أرسطو في الحد المنطقي، واعتباره أن الغموض يمكنه أن ينتج من استخدام الأسماء الغامضة، ولكنه لا يمكن أن يوجد في الحقائق ذاتها.
أثارت مشكلة الغموض جدلًا واسعًا في الفلسفة وتاريخ المنطق، واعتبر بعضهم المنطق الأرسطي إطارًا مثاليًا لفهم العالم، حيث اعتمد على مبدأ الثنائية القطبية التي تفرز العالم إلى حقائق مطلقة أو أخطاء مطلقة، لكن تطور الفكر الفلسفي وعلم المنطق كشفا أوجهًا من القصور في المنطق الأرسطي، خاصة فيما يتعلق في التعامل مع قضايا معقدة كالغموض والتدرج وسواهما، وأسهم المناطقة المحدثون الذين نادوا بضرورة تجاوز الحدود المتعارف عليها للمنطق الأرسطي، نظرًا لعقيدة التحديد التي تحكمه، وثبت عجزها عن تمثيل الظواهر المعقدة التي تتسم بدرجات متفاوتة من الحقيقة أو الغموض. وقد شهد علم المنطق تحولات كبيرة، بدأت من ظهور المنطق المتعدد القيم في بدايات القرن العشرين المنصرم، وأفضت إلى ظهور نظريات عديدة، مثل المنطق الغائم الذي يستوعب التدرجات بين الصواب والخطأ. وباعتبار أن الغموض يمتلك أهميته الفلسفية والمنطقية، فإن القول الغامض مثّلّ تحدّيًا جديًا للمنطق التقليدي، الأمر الذي يستلزم تقديم مقاربة معمقة لمفهوم الغموض، تعمل على توضيح الكيفية التي برزت فيها الحاجة إلى إعادة النظر في القواعد التقليدية للمنطق الأرسطي، بغية إيجاد حلول جديدة وفعالة. ويحضر في هذا السياق مفهوم المنطق الثلاثي القيم الذي اقترحه جان لوكاسيفيتش.
تبرز إشكالية نظرية الحدّ عند أرسطو في مطلب التعريف بالماهية الأفلاطوني، حيث اعتبر المعلم الأول أن الحد هو أكمل تعريف، خاصة التام منه، لأنه يحدِّد من الشيء ذاته وماهيته وجوهره، فهو يعرِّف ما هو الشيء، أو بالأحرى هو قول ما هو، الأمر الذي دفع ابن رشد إلى القول إن السبيل الذي به يمكن الوقوف على ماهية الشيء هو الحد، لأنه يعرِّف جوهر الشيء، فهو قول منبّئ عن ذات الشيء المحدد. ووضع أرسطو خمسة شروط للحد كي يكون حدًا صحيحًا عن ماهية الشيء، وتتجسّد في أن يكون الحد موجودًا لمحدود يصدق على جميعه، وأن يُؤخذ من ذات الشيء، وأن يكون مساويًا للمحدود في الحمل وخاصًا له، ودالًا على جوهره وماهيته، وأن يُؤتى فيه بماهية الشيء، ويميّز الشيء عما سواه، وأن يكون حسنًا لا زيادة فيه ولا نقصان. لكن ثمة عيوب تصيب الحد، وأهمها غموض عبارته وافتقارها للبيان. ولم يتجاوز الفلاسفة نظرية أو عقيدة التحديد إلى أن جاء فلاسفة محدثون ووجدوا آليات تكفل بالغوص في ماهية الأشياء وصياغة حدودها بيسر وإتقان، وذلك من خلال ابتداع لغة علمية كونية تعزز قوة العقل بشكل يفوق ما تقدمه العدسات البصرية لأعين البشر، وراحوا ينتقدون عيوب عقيدة التحديد التي يجسدها الغموض في ألفاظ اللغة ومقولات الفكر وأشياء العالم. وفي هذا السياق، قام فلاسفة اللغة وعلماء المنطق في القرن العشرين بتبيان مشكلات الغموض الدلالية ومعضلاته المنطقية، وإظهار تمنعها من تمثيل الأفكار في وضوحها وتصوير الوقائع في دقتها، التي تجسدها ظواهر متعددة.
دفعت عقيدة الحدّ المنطق الأرسطي الكلاسيكي إلى حصر إجابته عن سؤال: هل القضية صادقة أم كاذبة؟ في أنها إما صادقة أو كاذبة ولا توجد احتمالات أخرى. أما في المنطق الثلاثي (الذي نهض على مبدأ الثالث المرفوع) فإن ثمة بُعدًا جديدًا من الحقيقة إلى جانب القيمتين التقليديتين، الصدق (ص) والكذب (ك). ومن خلال تطبيقات المنطق الثلاثي برزت الحاجة بقوة إلى تجاوزه وتطوير المنطق الرمزي الكلاسيكي إلى ما يعرف منذ ذلك بالمنطق متعدد القيم، الذي لا يقتصر فيه الحكم المنطقي على استخدام قيمتي الصدق المعروفتين (ص، ك)، لتغدو القضية ليست صادقة أو كاذبة فقط، بل تتعدد قيم الصدق بينهما بشكل يسمح باستخدام قيمة الصدق الثالثة، أو الرابعة، وصولًا إلى النسق المنطقي ذي العدد اللامتناهي من القيم.
غير أن المنطق اللامتناهي القيم واجهته مشكلة أشد صعوبة مما سبق، ألا وهي تأرجحه بين العمل وفقًا لقواعد ومبادئ الاستدلال في المنطق الرمزي الكلاسيكي، تلك التي أعلن أنه يسعى للحفاظ عليها قدر الإمكان، وبين التخلي عنها ونبذها كأدوات لا تصلح للنسق المنطقي الجديد، ما يعني أن هذا المبدأ ينجح في حال تطبيقه على قضايا النسق، لكنه لا يصاحبه النجاح حين يتناول قضايا اللغة الغامضة ذاتها، الأمر الذي يتطلب تجاوز هذه المسألة إلى دراسة المنطق الغائم باعتباره تطورًا نوعيًا يعالج الظواهر الغامضة بطريقة أكثر واقعية، كونه يعتمد على النمذجة الرياضية التي تتيح تقسيم الحقيقة إلى درجات نسبية، وبشكل يجعل المنطق أكثر قدرة على التعامل مع المشكلات المعقدة في الحياة الواقعية، وخاصة كيفية التعامل مع الغموض في مجالات مثل اللغة والقرارات، الأمر الذي يشير إلى مرونة هذا المنطق. وعليه يتخذ المؤلف المنطق الغائم كنموذج نظري وتطبيقي، يمتلك أصوله النظرية، التي تظهره بوصفه امتدادًا للمنطق متعدد القيم، ويمكن استخدامه في الذكاء الاصطناعي لمعالجة البيانات الغامضة والمعقدة، وفي تصميم أنظمة دعم اتخاذ القرار، وفي الهندسة الصناعية أيضًا. كما يمتلك المنطق الغائم استخدامات عملية في الطب، من خلال تحليل الحالات الطبية ذات التقييمات الغامضة، وفي الهندسة عبر تطبيقه من أجل تحسين أنظمة التحكم الآلي.