قد نظن أننا كأشخاص نصنع ماضينا ومستقبلنا بأنفسنا، غير أنّ الواقع يقول بأنّ الأمكنة وعلاقات العمل والروابط الأسرية هي من تساهم في تشكيل هويتنا الاجتماعية. فالمكان يسكننا مثلما نحن نسكنه تمامًا فكيف إذا كان مطبوعًا بالتاريخ والعراقة مثل منطقة رأس بيروت، وخصوصًا الجامعة الأميركية في بيروت التي تأسّست عام 1862.
يأتي كتاب "خلف السور: 40 سنة عمل في الجامعة الأميركية في بيروت" الصادر حديثًا عن دار نلسن (2025) للروائي اللبناني زياد كاج، ليسلط الضوء على العلاقة بين الإنسان ومكان وظيفته، كما وعلى علاقة الإنسان بالآخر الزميل والرئيس والدكتور وما لهذه العلاقات من انعكاس على التطور الشخصي والفكري، وبالتالي التطور العائلي والاجتماعي، في سردية شخصية للكاتب شكلت نقطة التقاء مع سرديات لآخرين عاشوا بالمكان نفسه، أو عايشوا الأحداث ذاتها توازيًا مع الراوي.
مما لا شك فيه أنّ الجامعة الأميركية في بيروت كانت وما زالت حلم الكثيرين من الطلاب اللبنانيين والعرب والأجانب، فكيف بالعمل في حرمها. هذا الأمر لم يكن ممكنًا من دون دعم ما أو "واسطة"، يقول كاج في الصفحة 13 من مقدمة كتابه: "أنا من القلة القليلة الذين دخلوا الجامعة من دون دعم حزبي أو طائفي. لم تسعفني شهادتي الجامعية ولا المجموع العام والمميز الذي حصلت عليه في امتحان اللغة الإنكليزية، بل ما فتح أمامي أبواب الجامعة كانت واسطة عمي المرحوم أبو حسن، وهو التاجر البيروتي العتيق العارف بأحوال المدينة والجامعة...". وقد أتى إهداء "خلف السور" إلى روح هذا العم البيروتي، وكانت طريق البداية في حزيران/ يونيو من عام 1985.
تقسم هذه السردية إلى ثلاثة أجزاء تبعًا للعمل المتنقل الذي مارسه الكاتب في الجامعة، بالإضافة إلى علاقته مع مكان العمل، غير أنّ معرفة الجامعة كانت منذ المراهقة واللّعب بكرة السلة على الملعب الأخضر فيها. كانوا شلّة من الصبيّة يقفزون فوق السور البحري للجامعة ليلعبوا بالكرة: "منحنا الملعب الأخضر فرصة ذهبية لننجو من جحيم وجنون الحرب العبثية في شوارع بيروت. أنقذنا الملعب الأخضر للجامعة ولعبة كرة السلّة فأحسنّا التسديد على سلّة ولم نحمل السلاح ونسدّد على البشر".
إذًا، مرحلة العمل الأولى كانت ككاتب طابق في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. البداية في الطابق الثامن جنوبي، المتخصص بأمراض الأذن والأنف والحنجرة وأمراض العين. هناك يكتشف الراوي عالمًا غريبًا بحسب قوله في الصفحة 19: "يضجُ ويعجُ بالأطباء والممرضات والمرضى والزوار... عالم أبيض مضغوط، لاهث بشكل لافت، يتبّخر فيه الوقت كبخار غطاء طنجرة بريستو رُفع للتو...". نلاحظ في هذا الجزء، كما في كل أجزاء السردية، حسّ الفكاهة الذي تمتّع به الكاتب في مقاربته لمواضيع الخوف وروتين الحياة ربما لكسر الحاجز الذي يفصله عن الحياة القاسية التي كان يعيشها البيروتيون من حرب عبثية شوّهت المدينة كما نفوس البشر. في مكان عمله الأول، يُدخلنا الكاتب ليس فقط إلى تفاصيل هذا العمل، بل إلى نفوس زملائه وزميلاته والأهم إلى المسؤولين الذين تعاقبوا في تسلّم المهام. من الوصف الخارجي للمسؤولة الأرمنية، على سبيل المثال، إلى الولوج في أخلاقها وكيفية تعاملها مع الحالات والأشخاص. بالإضافة إلى الغوص في شخصية زميل أطلق عليه الكاتب لقب "مسّيح جوخ" وما أكثر من هم أمثاله في المستشفى كما في الحياة.
فرصة العمل في هذا المجال منحت الكاتب التعرّف على التراتبية في مهنة الطب التي يجب أن يتعامل على أساسها الجميع بشكل محترم. ولا شك في أنّ الكاتب في هذا المجال يكشف بعض الأسرار لبعض الأطباء والممرضات الذين عمل معهم مع ذكر الأحرف الأولى لأسمائهم. ولعلّ تجربته في العمل مع الممرضات الفليبينيات أثبتت له بأنّ الممرضات هنّ ملائكة الرحمة في المجتمع نظرًا لتضحياتهن. وشكّل عمله مع مديرة قسم التمريض في المستشفى الأميركية مورو حينذاك تجربة مهنية عالية، وربما ليس للكاتب نفسه فحسب، بل لجميع العاملين مع السيدة مورو في ظروف صعبة إبان الحرب الأهلية اللبنانية. وبالفعل وثقت تلك الممرضة تجربتها الفريدة في مستشفى الجامعة الأميركية في كتاب أصدرته حمل عنوان: "ممرضة أميركية وسط الفوضى". يأخذنا كاج إلى عالم هذه الممرضة الفذة ومسيرتها الغنيّة بالإنجازات ليخبرنا عن كتابها والتحدّيات التي عاشتها خصوصًا في قسم الطوارئ مثل قيام عناصر مسلحة تنتمي لتنظيمات متناحرة بتصفية جريح، أو انفجار قنبلة يدوية في غرفة الأشعة كانت مخفية في جيب بنطلون المقاتل الميلشيوي المصاب.
شواهد كثيرة عن الحزن والكثير من الدموع ومآسٍ حقيقة عاشها العاملون في المستشفى. 15 عامًا عمل فيها زياد كاج مع أطباء لطفاء، متواضعين، وكانوا يتمتعون بالإنسانية، ومع أطباء آخرين كانوا ماديين. نوعان من البشر التقى بهم الكاتب في مكان عمله، يصنّفهما في الصفحة 58 على النحو التالي: "بعضهم يجعل حياتنا أسهل ويحوّلها إلى سرير من الأزهار، ونوع يجعلها صعبة ويحوّلها إلى سرير من شوك. لكن مع الوقت والخبرة، نكتشف أن كلاهما كانا، بطريقة وأخرى، ضروريان كي ننضج ونتعلم منهم".
أعوام مضت كان يشعر فيها الكاتب الحامل شهادة جامعية في الإعلام والصحافة بأنّه خارج مكانه. يقول: "كنت خارج المكان بالكامل، شعرتُ بعد سنوات بالغربة والنقصان لعملي ككاتب طابق وفي حوزتي شهادة جامعية. بعد تخرجي، أسرعتُ إلى مكتب الموظفين لأضيف شهادتي إلى ملفي الشخصي كي أحصل على ترقية أو وظيفة تليق بمستواي العلمي". هنا نعود إلى تلك العلاقة مع المكان الذي يحدّد سعادة الإنسان أو تعاسته. لقد ركز الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884-1962) على هذه النقطة تحديدًا في كتابه "جماليات المكان" كاشفًا الأسباب العميقة لارتباطنا بمكان ما، فهي ظاهرة نفسية، حيث أنّ "بيت الطفولة هو رمز الألفة المحمية"، فبحسب باشلار، حتى الصور الخارجية للبيت تردنا إلى جذورنا في هذا العالم.
من حكاية إلى حكاية، نتعرّف مع الكاتب ليس فقط على أقسام المستشفى والعاملين فيها من الطابق الثامن جنوبي، ثم السابع شمالي إلى السادس شمالي، بل على الممرضة النشيطة التي أحبها وتزوجها. ثم ننتقل معه إلى مرضه، الاكتئاب الثنائي القطب، ووضعه الصحي الذي جعله ينتقل نهائيًا من المستشفى إلى داخل سور الجامعة.
في "مكتبة صعب الطبية"، سنحت له فرصة العمل مع إداريين، من مديرة المكتبة إلى مساعدتها وزميلاتها المحترفات "تمتعن بثقافة نخبوية كانت ثمرة دراسة وخبرة وسفر" (ص: 93). في أسلوب الوصف الذي اعتمده الكاتب للأشياء والموجودات في المكاتب يُسقط عليه طباع الشخص الذي يشغل المكان عينه، ومهما كانت هذه الطباع، يبقى كاج على مسافة احترام وهدوء مع الجميع. فنقرأ شخصيته المسالمة من خلال تعامله مع شخصيات الآخرين.
في مكانه الجديد، اكتسب كاج مهارات تكنولوجية ومعرفية ما كان ليتعلمها لولا مساعدة زميلاته وزملائه من مختلف الانتماءات الدينية والمناطقية. انعكاسًا لهذه الحال، يقول في الصفحة 104: "جميعنا كلبنانيين عشنا أهوال الحرب، وكنا ضحايا لحظات وتجارب مرعبة تركت آثارها على نفسياتنا. لذلك نحن نتعاطف مع بعضنا بسبب نفق الخوف والقلق الذي مررنا به لسنوات طويلة"، إلى أن أصبحوا عائلة "المكتبة الطبية" يتشاركون المشاكل والأفراح والمؤتمرات العلمية العالمية، بالإضافة إلى التبولة وورق العنب بالزيت.
بعد 13 عامًا من العمل في "المكتبة الطبية"، كان الانتقال إلى الجزء العلوي من الحرم الجامعي، قرب مبنى "الكولج هول" والبوابة الرئيسية للجامعة أي إلى "مكتبة يافت". في هذه المكتبة، تنقّل الكاتب من سلطة المديرة الرزينة، إلى سلطة الدكتورة المثقفة الطيبة القلب. وبالفعل، أتى الانتقال إلى مكتبة يافت ليمنح الكاتب دفعًا إيجابيًا واهتمامًا فكريًا متعددًا نظرًا لغنى المصادر والمراجع المكتبية. بالإضافة إلى تطور في الشخصية المجتمعية في الأجواء الاحترافية مهنيًا وفي ظل أجواء احتفالية كان يعيشها الموظفون في الأعياد المسيحية والإسلامية؛ هو اليساري المدمن على القراءة والذي تماهى المكان معه في انسجام واضح، يقول في الصفحة 155: "للأمكنة في رأس بيروت ذاكرة يصعب محوها أو نسيانها. للأمكنة بصمة في القلب والروح".
من العمل في زمن الحرب العبثية إلى زمن الوصاية السورية، ينقل لنا كاج الأزمات التي مرت بها الجامعة وقضايا عاشها المعنيون ودفع ثمنها بعض الموظفين مثل "فضيحة الوصفات الطبية"، و"قضية التسمّم في الكافيتيريا"، إلى الزمن الحالي ما بعد أزمة كورونا و"تسونامي الطرد من مستشفى الجامعة" والتي نالت فيه زوجته الممرضة نصيبها المرير في ذلك. خيبات عاشها الكاتب، ونجاحات حصدها إلاّ أنّ عرفان الجميل لهذه المؤسسة كان هو الأساس، يوم شهد على حفل تخرّج أولاده من الجامعة الأميركية في بيروت على الملعب الأخضر، الملعب الأخضر نفسه الذي كان حلمًا مستحيلًا فتحوّل إلى يوم الحصاد.