عرف التاريخ البشري، قديمه وحديثه، جريمة الإبادة الجماعية، بوصفها ذلك الفعل الذي يتجاوز القتل ليطاول الكينونة الإنسانية، بهدف محو الهوية الثقافية لمجموعة من البشر. ولم يظهر مفهوم الجينوسايد إلا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث جرت صياغته كمفهوم له مركباته القانونية من طرف القانوني البولندي رفائيل ليمكين، متأثرًا بما حصل في مجازر للأرمن والآشوريين.
عاد مفهوم الجينوسايد بقوة إلى مجال التداول العالمي مع حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. واستدعى الإمعان في هذه الجريمة الإسرائيلية تقديم جمهورية جنوب أفريقيا ملفًا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، اتهمت فيه إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، ودعمته بشواهد بيانات مفصلة حول هذه الجريمة البشعة.
استدعت الجريمة الإسرائيلية التي ارتكبت علنًا أمام مرأى العالم ردود فعل عالمية مستنكرة، خاصة من طرف القوى المناهضة لجرائم إسرائيل، فقدمت جمهورية جنوب أفريقيا دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، تتهمها بارتكاب جريمة إبادة جماعية. وفي هذا السياق يأتي كتاب "الجينوسايد أو جريمة الجرائم: مجريات محاكمة إسرائيل في لاهاي"، (تقديم عزمي بشارة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2025)، الذي يتضمن ترجمة لخمس وثائق أساسية في الدعوى التي رفعتها جمهورية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2023، وذلك بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.
يشمل الكتاب لائحة الاتهام التي رفعتها جنوب أفريقيا ومرافعاتها، فضلًا عن مرافعة إسرائيل، والتقرير المرفوع إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي يوثق بالأدلة وجود نية إسرائيلية لارتكاب إبادة جماعية، عبر تصريحات رسمية وأعمال عسكرية ممنهجة تستهدف الفلسطينيين بصفتهم جماعة قومية، بهدف تدميرها ماديًا أو تهجيرها قسريًا. كما يعرض الكتاب جلسات المحكمة التي عُقدت في كانون الثاني/ يناير 2024، وصولًا إلى إصدارها أمرًا بتطبيق الاتفاقية في 26 من الشهر نفسه. ويتابع مواصلة جنوب أفريقيا جهودها القانونية والدبلوماسية، من خلال تقديم أدلة إضافية إلى مجلس الأمن في أيار/ مايو من العام نفسه.
يتتبع المفكّر عزمي بشارة في مقدمته التحليلية المعمّقة للكتاب المفهوم القانوني للإبادة الجماعية، الذي اجترحه القانوني البولندي رفائيل ليمكين عام 1944 في كتابه "حكم المحور في أوروبا المحتلة"، واعتبر أن المستهدف في هذه الجريمة هو الجماعة، ذات الشخصية الثقافية المميزة، أي الجماعة القومية، وأن الأفراد يستهدفون لأنهم أعضاء في الجماعة، ما يعني أن الغاية منها هي قتل الجماعة، بما في ذلك ثقافتها ونمط حياتها وهويتها، وبشكل يفضي إلى خسارة الإنسانية إسهام هذه الجماعة في غنى التنوع الإنساني.
لم يكن ليمكين يقصد بالجينوسايد الجريمة التي ارتكبت بحق اليهود فقط حين تناول الإبادة الجماعية، إنما ممارسات ألمانيا النازية في كل المناطق التي احتلتها، بما فيها جرائم النازيين المرتكبة بهدف تقويض الوجود القومي لتلك الشعوب الأوروبية المعتبرة غير جرمانية وفق معايير النظرية العرقية النازية.
يركز بشارة جهده النظري على تفكيك محاولات إسرائيل إنكار الجينوسايد أو الالتفاف عليها، من خلال تقديم ساستها ادعاءات "الدفاع عن النفس" أو استحضارهم الهولوكوست، حيث تستأثر إسرائيل بسردية الهولوكوست لتشكيل هويتها القومية وتحصين نفسها من الإدانة، بينما يُوسم أيّ انتقاد لها بمعاداة السامية. ويرصد مواقف الحكومات الغربية المنحازة، التي تحرّم توجيه أي نقد لإسرائيل بدعوى معاداة السامية، ثم ينظر في المسارات القانونية والأخلاقية التي تقود إلى إثبات نية الإبادة الجماعية، حيث يورد المركبات القانونية لهذه الجريمة، كي يكشف المراوغات السياسية التي تلجأ إليها المواقف الغربية. وينسحب الأمر على المؤسسات الغربية التي دانت عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لكنّها صمتت حيال الجرائم والفظائع التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة. والأنكى من ذلك أنها لجأت إلى استخدام مصطلح "التهديد الوجودي" لتبرير القتل الجماعي، بينما غاب عن تداولها جذور الاحتلال والاستعمار. إضافة إلى تماهي أغلب وسائل الإعلام والخطاب السياسي الغربي مع هذا المنطق، حيث تحوّل الدفاع عن النفس إلى أداة لإبادة ممنهجة، تتوارى خلف لغة الأمن والسيادة، بينما يُقتل الفلسطينيون تحت ركام الصمت الدولي.
عرّفت الأمم المتحدة الجينوسايد بأنها "إنكار حق الوجود لجماعات بشرية كاملة، مثلما أن جريمة القتل هي إنكار حق الحياة للأفراد، مثل هذا الإنكار لحق الوجود يزعزع ضمير البشرية، وينتج منه خسائر جسيمة للإنسانية من الإسهامات الثقافية وغيرها التي تقدمها هذه الجماعات للبشرية، وهي تتعارض مع القانون الأخلاقي وروح الأمم المتحدة وأهدافها".
تعتبر الإبادة الجماعية أخطر الجرائم الدولية، فقد تمت ملاحقة مرتكبيها ومحاسبتهم ومعاقبتهم في محكمة "نورمبرغ" وفي المحكمة العسكرية في اليابان. وهي جريمة لا يشملها حق اللجوء السياسي، لذلك لا يعامل مرتكبوها على أنهم مجرمون سياسيون، حيث نصت اتفاقية "منع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها" التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، على أنه "لا تعتبر الإبادة الجماعية والأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة جرائم سياسية على صعيد تسلّم المجرمين. وتتعهد الأطراف المتعاقدة في مثل هذه الحالات بتلبية طلب التسليم وفقًا لقوانينها ومعاهداتها النافذة المفعول". كما اعتبرت الاتفاقية الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي، وهي "تعني أيًا من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة، (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة، (ج) إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة، (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى".
اكتسب مفهوم الجينوسايد أو "جريمة الجرائم" قيمة قانونية وسياسية وعالمية، وذلك بعد تبني الأمم المتحدة في كانون الأول/ ديسمبر من عام 1948 اتفاقية خاصة لتجريم ومعاقبة مرتكبيها. وجاءت الاتفاقية ردًا على الهولوكوست، لكن على الرغم من أهميتها، لم تتطرق لأبعاد خطيرة، مثل التدمير الثقافي، إضافة إلى استثناء جماعات سياسية واجتماعية، الأمر الذي أضعف شمولية تعريف الجريمة. كما أن القانون الدولي على الرغم من أنه يحرّم الإبادة الجماعية، إلا أن الاعتراف بها يبقى أسير السياسة ومصالح الدول، كما ظهر جليًا في المواقف المتناقضة للدول الغربية تجاه الجرائم المرتكبة في رواندا، وأوكرانيا، والجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين، حيث لجأت حكومات هذه الدول إلى تفادي وصف جرائم إسرائيل بالإبادة الجماعية، بغية تفادي تبعات قانونية وأخلاقية، لأن الإقرار بالجريمة يفرض التزامات التدخل لوقفها، بينما يبقى إثبات النية العقبة القانونية الأكبر، كونها غالبًا ما تكون مستترة، ولا تصدر بشكل أوامر صريحة، لذلك تستند المحاكم على الأدلة الظرفية، مثل خطابات التحريض أو الممارسات المتكررة. وقد أتاح المفهوم القانوني التقليدي، المرتكز على النية المعلنة، مساحات للإفلات من العقاب، حسبما يرى ديرك موزس، الذي يدعو إلى توسيع التعريف ليشمل الأفعال الممنهجة التي تؤدي إلى الفناء، بصرف النظر عن التصريح بالنية، مثلما حصل في قطاع غزة.
أعادت جرائم إسرائيل في حربها على الفلسطينيين في قطاع غزة جريمة الإبادة الجماعية إلى موقعها الأصلي كنوع من الجرائم ضد الإنسانية، لا كجريمة مستقلة عنها، بالرغم من أن تصنيف القانون الدولي للجرائم الدولية واضح جدًا في اعتبار جرائم الإبادة الجماعية نوعًا خاصًا من الجرائم الدولية التي تحتاج إلى إثبات أركان جرمية أشد وأوضح مما هو مطلوب للجرائم ضد الإنسانية، وبالتالي فصلها كليًا عن الجرائم ضد الإنسانية عند تقنين أحكام الجرائم الدولية.
ثمّة فرق ما بين جريمة الإبادة الجماعية بوصفها جريمة قتل جماعي لمجموعة من البشر تتم على أساس تمييزي بقصد فنائهم الكلي كعرق أو شعب أو مجموعة متميزة مستقلة حضاريًا أو ثقافيًا أو لغويًا أو دينيًا أو لأي سبب يميزهم من الباقين، وبين جريمة الإبادة التي تعني القتل الجماعي لمجموعة من البشر من دون قصد إفنائهم كمجموعة متميزة، بل يتم الأمر للتخلص منهم في منطقة ما لسبب آخر عدا الإفناء الكلي لهم، حيث يتداخل مفهوم جريمة الإبادة مع مفهوم أوسع وأعم هو مفهوم "التطهير العرقي"، الذي يعتبر من الجرائم ضد الإنسانية، ليس بكونه جريمة مستقلة، وإنما بممارسات عدة يتم بواسطتها ارتكاب جريمة أو عدد من الجرائم ضد الإنسانية بقصد تحقيق التطهير العرقي. وهي جريمة تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين منذ نشأتها.
يذكر أن التطهير العرقي هو مصطلح قديم وجريمة جرى ارتكابها بأشكال مختلفة في العديد من الصراعات، وأحيانًا جرت عن طريق اقتراف جرائم العنف الجنسي، أو الاضطهاد، أو ممارسة الإرهاب، والمذابح الضيقة ضد أفراد الجماعة المراد التخلص منها، حسبما جرى في البوسنة، وكما حصل في فلسطين أيضًا.
يحسب لجمهورية أفريقيا الجنوبية تسجيلها سابقة، كونها أول دولة في العالم ترفع دعوى ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، مستندةً إلى اتفاقية عام 1948، وإلى أدلة دامغة كالقتل الجماعي، وتدمير المرافق المدنية، وفرض ظروف معيشية قاتلة، وتحريض علني على القتل من طرف أعلى القيادات السياسية والعسكرية. وأرفقت دعواها بتقارير وشهادات عن عشرات آلاف الضحايا الفلسطينيين، بينهم آلاف الأطفال. إضافة إلى وثائق وصور تظهر تدمير البنى التحتية ومراكز الحياة، من مدارس ومستشفيات ومزارع ومنازل. واعتبرت الدعوى أن ما يحصل في قطاع غزة لا يمكن فصله عن مسار استعمار إحلالي وفصل عنصري مستمر منذ قيام دولة إسرائيل، ولفتت إلى أن النية في الإبادة لا تُقاس بالتصريحات فقط، بل في الأفعال الممنهجة والسلوك السياسي المتبع كذلك، حيث تحوّل الخطاب الإبادي الإسرائيلي إلى ثقافة عامة في إسرائيل تشمل قطاع التعليم، وسائل الإعلام، والقيادات العسكرية والمدنية. وبناء على الدعوى، أصدرت محكمة العدل الدولية، في 26 كانون الثاني/ يناير 2024، قرارًا طالب إسرائيل باتخاذ تدابير مؤقتة لحماية المدنيين ووقف التحريض، لكنها لم تلتزم به، بل استمرت في حرب الإبادة، الأمر الذي ردت عليه جنوب أفريقيا بدعوى جديدة مدعومة بوثائق تُظهر ازدراء القرارات الدولية، لكن مجلس الأمن فشل في اتخاذ خطوات عقابية ضد إسرائيل، بالنظر إلى الدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل.
تكمن أهمية الكتاب، ليس فقط في تقديمه ترجمة لنصوص الوثائق الخمس البالغة الأهمية، التي يضعها في متناول عموم القراء، والمؤسسات العربية، الرسمية والحقوقية، بل أيضًا في كونه يقدم إطارًا واسعًا يعرّف بجريمة الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، ويوثقها بالاستناد إلى مذكرات ومداولات قانونية دولية. إضافة إلى نقاشه لإشكالية إثبات وجود نيّة الإبادة، وتحليله دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل وأمر المحكمة بشأنها، وتوجيهه نقدًا لاذعًا لمقاربة إسرائيل للهولوكوست وتحويلها إلى وسيلة لاحتكار دور الضحية وتوجيه اتهامات باطلة لمنتقديها باللاسامية، وتعرية انحياز مؤسسات أكاديمية متخصصة في الهولوكوست والإبادة الجماعية، تعاملت مع جرائم إسرائيل بوصفها دفاعًا عن النفس، على الرغم من الأدلة التي قدمتها جمهورية جنوب أفريقيا.


تحميل المقال التالي...