الكتاب الصادر عن دار "خطوط وظلال للنشر والتوزيع" (عمّان)، يضمّ نحو مائة صفحة من النصوص والرسوم، ويتشكّل من مقاطع شعرية ونصّية متتابعة، كأنها لوحات في معرض واحد، تتجاور وتتكامل وفق إيقاع انسيابيّ في وَجْده وسيرته. لغته تميل إلى القصيدة النثرية المفتوحة، وإلى البناء الذي يراكم الصور ويُذيب الجمل في إيقاعٍ داخليٍّ يتردّد كنبضٍ بين الصورة والمعنى. ومنذ العنوان، يُفصح العامري عن مقولة شعرية تأسيسية: المحو كحالة وجودية، والنأْي كموقف جمالي. يعمل العنوان كجسر بين الفعلين المتناقضين: أن يكتب وأن يمحو، أن يقترب وأن يبتعد. وبذلك يؤسّس الشاعر نصّه على توتّرٍ دائمٍ بين الحنين والافتراق، بين الرغبة في القبض على المعنى والوعي باستحالته.
ينتمي هذا العمل إلى جنس الشعر الحرّ المعاصر، لكنه يتجاوز حدود الشكل التقليدي لقصيدة النثر، ليصوغ بنيةً هجينة تُزاوج بين السرد الشعري والتشكيل البصري واللغة التأمّلية. إذًا، يذهب هذا العمل إلى ما بعد القصيدة النثرية، أي إلى النصّ الذي تجاوز الثنائية بين الشعر والنثر، وبين الشعر والرسم. يكتب العامري نصًا "تشكيليًا" في جوهره، حيث العين شريكة الذاكرة في إنتاج المعنى. هذا المزج بين النص واللون يأتي كحاجة معرفية ــ وجودية ــ إبداعية. فالشاعر، الذي هو في الوقت نفسه فنان تشكيلي، يجرّب أن يستعيد ذاته بالوسيطين معًا، كما لو أن اللغة وحدها لا تكفي، وكأنّ الرسم وحده لا يحتمل فائض العاطفة والحنين.
يقوم أسلوب العامري في هذا الديوان على البنية اللغوية المشهدية، حيث تُستبدل البلاغة الخطابية ببلاغة الصورة، ويتحوّل الإيقاع من وزنٍ خارجي إلى نبضٍ داخلي يتولّد من تكرار الأصوات والظلال والمعاني. اللغة عنده لا تسرد الأشياء بل ترسمها؛ كل بيتٍ أو مقطع هو مساحة لونية، وكل استعارة هي ضربٌ من الضوء والظل. يستخدم الشاعر المفردة كريشةٍ تُمرَّر على سطحٍ رخوٍ من الذاكرة، فيترك أثرها ثم يذوّبه ليعيد تشكيله، في دورةٍ جمالية تشبه تلاشي الأثر في الرمل.
تمثّلات الغياب
تتعدّد الثيمات في "يمحو سيرته.. وينأى"، لكنها جميعًا تدور في فلكٍ واحد: الغياب كجوهرٍ وجوديّ. فالقصائد ليست حكايات عن غائبين، بل هي ظلال الغياب ذاته، بوصفه نسيجًا للكينونة الإنسانية. هنا، تتجلّى الأم كرمزٍ أوليّ للحضور والدفء، وكقلبٍ كونيٍّ ينبض في القصائد كمنبعٍ للحنين ومهدٍ للغة. الأم رمزٌ للبيت، للرحم الأول، وللذاكرة الجمعية التي تُستعاد وتُمحى في آنٍ واحد؛ فكل عودةٍ إلى الأمّ هي عودةٌ إلى الأصل الذي يبدو مستحيلًا، وكل استدعاءٍ لها هو حنينٌ لظلٍّ لا يتكرر ولا يعود.
ومن هذه الثيمة تتفرّع أخرى: المحو كفعلٍ معرفيّ. فالشاعر لا يكتب ليثبت ذاته بل ليحرّرها، وكأن الكتابة طقسٌ تطهيريّ يعيد الإنسان إلى نقطة الصفر. في هذا المعنى، يتحوّل الديوان إلى مرثيّةٍ صامتةٍ للذات وللعالم، حيث كل قصيدة هي محاولة لتدوين ما لا يمكن تدوينه، وللقبض على المعنى قبل أن يتبخّر. كما تبدو اللغة وكأنها تتواطأ مع الريح في نحت أثرٍ زائل، في صوغِ لحظةٍ من الجمال لا تدّعي الخلود بل تتغذّى من فنائها.
يحضر الزمن كثيمةٍ ثالثة، لا بوصفه تسلسلًا خطّيًا، بل كنسيجٍ متداخلٍ من الذكريات والمشاهد. يتعامل العامري مع الزمن ككائنٍ حيٍّ متشظٍّ، ينهض وينكسر ويعود إلى بدايته. تتقاطع الأزمنة في نصوصه: الطفولة تُطلّ من نافذة الشيخوخة، والماضي يتكشّف في صيرورة الحاضر. هذا التداخل يخلق نصًّا متوتّرًا، يشتغل على حافة الحلم واليقظة، ويمنح الديوان بُعدًا ميتافيزيقيًا يجعل القارئ يعيش في فضاءٍ لا زمانيّ، حيث اللحظة الواحدة تتسع لتحتوي دهورًا من الحنين.
أما المكان في الديوان فليس تضاريس وجغرافيا بقدر ما هو نفسيّ ــ وجداني؛ البيت، الحديقة، الغرفة، الطريق، كلها رموز لمواطن داخلية، أقاليم تسكنها الذات لا الجسد. المكان هنا ذاكرةٌ لا حدود لها، تتّسع لتضمّ أطياف الراحلين، وتهتزّ عند كل استدعاءٍ شعريٍّ للغائب. وفي خلفية هذه الأمكنة يتردّد صدى الوطن بوصفه معنىً أكبر للبيت، حضورًا هشًّا مهدّدًا بالمحو، فيتخذ النص بعدًا إنسانيًا وجماعيًا يتجاوز الفرديّ إلى التأمّل في هشاشة الوجود ذاته.
أمومة الضوء
يُفتتح النصُ بوَصِيفٍ لا يترك للقارئ فرصة الوقوف على الحياد: "نمرّ على البيتِ لَيْلًا لنقطف منه بنفسجةً وحريرًا"، فتتبدّل اللغة عند العامري إلى طقسٍ وحنطة؛ بيتٌ يثمر رؤى، ويدٌ أمٍّ تُقايض الدم بالقمَر وبالسحاب. الأم هنا ليست مجرد صورة للحنين، بل كيانٌ كوني يحيل المكان والزمان إلى تجربة حسّية وروحية متشابكة: "وأمّي هي امرأة تعشق الزرع، تُعطيه من دمها قمرًا وسحابًا". تنحو اللغة هنا نحو الشعر الرمزي، فالأمّ تمثل الأرض والسماء والضوء، تجسّد الطقس والدفء والحياة، وتحوّل الروتين اليومي إلى أسطورة فردوسية: "تحلم بالعشب والأغنيات الحنونة، تَذكُر غيابها حين تصحو الديوك، وتصحو، لتطرح أسماءنا في الغياب". النص يشيد بأمومة كونية تتجاوز البيوت لتصبح عماد الوجود، والكتابة نفسها تتحول إلى طقس من الاتصال الحسّي والروحي مع الأمومة، حيث يصبح الحنين مرآة الوعي ومفتاحًا للاشتباك مع جوهر الوجود.
في النص التالي للمُفْتَتَح يتسع السطر ويتكاثر السرد ("تُمسِّدُ أغصانها.. تُزيحُ ستائر.. تَعُدُّ ضُلوع أشجارها.. تُرضِعُ ريحانة.."). يتحوّل النص إلى حِكايةٍ طقسيةٍ لا تُفَكّ شفراتها بِيُسْر؛ تراكمُ الأشياءِ يَنحتُ أمًّا أسطوريةً تكون من جهةٍ "خزانة أسرارنا" ومن جهةٍ أخرى "سلالم للغيم". الاقتران الجمعيّ "نحنُ" يعمّمُ العلاقةَ ويحوّل ذاكرة الفرد إلى ذاكرةٍ عشائريةٍ، والبيتُ: "بيتُنا" الذي تُنسِجُه الأمّ برائحةٍ وصوتٍ و"صفصافة" تهطلُ الظلّ.
في هذا النسيج تبدو الأمّ درعًا أمام الاختزال والزوال: "كلُّ شيءٍ يُطل على نومنا، وجهها وتعاويذ تدفع عنا الهلاك"، فتتجلّى لديها وظيفةُ الحمايةِ الوجوديةِ؛ هي التي تحمي البيت من أن يتحوّل إلى "رُدوم بلا نور". وفي نهاية النص ينزلق الخطاب نحو كتابةٍ تعاقديةٍ مع الوجود: "سأكتب دنْياكِ حبرًا يُطهّرني" و"أنا لا أُحِبُّ المرايا لِتَكْسِرَني صورتي"، عبارتان تختزنان وجدان الذات الشاعرة: الكتابة كطهارةٍ/ تطهير، والرفضُ لمرآةٍ تكسرُ الهوية لتكشفَ هشاشةَ الانعكاس. هكذا، يصبحُ المُفْتَتَحُ والنصُّ اللاحق بيانًا تأسيسيًا؛ أما الأمّ فليست فقط موضوعًا للشعر، بل أفقٌ فلسفيٌّ يجعل من الحنوِّ والزرعِ والطقوسِ مقولةً عن الخلود المؤقّت والهويةِ السائلة.
عتبة الظلّ
في قصيدة "في الأعالي" تتكثّفُ نبرة العامري إلى أقصاها، فيتحوّل النصّ إلى مشهدٍ من وعي يحترق، حيث يرتفع الصوت ليبلغ العتبةَ التي لا تَرى فيها العين إلا ظلالَها. "نعيقُ غرابٍ يطول" هذا هو الجرس الأول للخراب، نذيرُ الغياب حين يتحوّل الزمن إلى نواحٍ/ دمٍ يسيل "على غامق الوقت"، وكأنّ الليل جسدٌ تُذبح فيه الذاكرة ببطء. يتكلّم الشاعر من هوّةٍ مرتفعة، لا يرى الأرض ولا السماء، بل فضاءً ثالثًا يسكنه "قمر من حليب" و"سديم يرافقني في الضلالة"؛ القمر علامةُ ارتباكٍ أبيض، والسديم رفيقُ تيهٍ لا خلاص منه.
اللغة تهتزّ مثل جسدٍ مُتعب، تتنقّل بين الفعل والصورة دون رابطٍ نحويٍّ صريح، كأنّها تُحاكي اضطراب الوعي نفسه. الجمل تتوالد من شظاياها، تتناثر مثل "دماء على جسد الليل"، لتُقيم القصيدة في منطقةٍ بين الحلم والكابوس، بين التذكّر والنسيان. وفي ختامها يطلّ الاعترافُ العاري: "لو أستطيع الهروب هربت، ولكنني مُغرم بالغياب"، هنا يبلغ النصّ جوهرَه الوجوديّ، إذ يصبح الغياب ليس فِعلَ فقدٍ بل شهوةَ وجودٍ معكوسة؛ إنّه اعتناقُ العدم بوصفه وطنًا مؤقّتًا، صعودٌ إلى الأعالي كي يتعلّم الشاعر كيف يهوي داخله.
في نصٍّ مطلعه "قمر ينحني"، يكتب العامري انكسار النور على جسد الحلم، فيتحول القمر من كائنٍ سماويٍّ إلى كائنٍ بشريٍّ يشيخ من فرط الهوى. "يتقوّس مثل سماء رمادية"؛ جملة تضع الندم في هيئة ضوءٍ مائل، والشيخوخة في صورة قوسٍ من حنين. هنا ينحني القمر كما ينحني القلب أمام ذاته، وتغدو الصفصافة أمًّا ثانيةً "تخبّئ أيّامه"، كأنّها تحفظ الزمن من التلف. اللغة في هذا النصّ تنهض على حركة انحناءٍ شاملة: الأشياء تميل، الصور تتقوّس، الجسد ينوء، والحلم يهبط تحت اللحاف "تلالًا من الوهم والأمنيات".
إنّه مشهد الانطفاء الجميل، انحدارٌ من الضوء إلى الرماد، حيث يقول الشاعر: "لم أعد غير بوابةٍ للخراب"؛ اعترافٌ يجعل القمر مرآةَ الإنسان حين يكتشف هشاشته. كلّ شيءٍ في القصيدة يذوب في سُكْر التلاشي: الروائح، النعناعة، التفاحة، القميص، علامات يومية تتفكّك لتعلن أن الهوى نفسه جرحٌ كونيّ، وأنّ الشاعر لا يطلب النجاة بل صفاء الانكسار، قمرًا ينحني ليحرس آخر ومضةٍ من الحنين قبل أن تنطفئ في الصمت.
طائر العتمة
في "أنا طائر الليل" يتخذ العامري من الطيران استعارةً لوعي مأهول باليقظة والشجن، ليمسي السهر لعنةَ الرؤية التي لا تستريح. يقول: "لا نوم لي، حذفتني العيون إلى سهرٍ أبدي"، جملةٌ تضع الشاعر في منطقةٍ بين الحلم واليقظة، بين السماء والجسد. الطائر هنا ليس رمزًا للحرية، بل كائنٌ مسمَّر في فضائه، يراقب من علٍ "قتلى حروب مضت" ويجرّ "ظلاله إلى جسد قد هوى في السرير"، كأنّه يجرّ تواريخ موءودة، أو يسحب الليل وراءه كوشاحٍ من رماد.
في هذه القصيدة تتكاثف مفردات الحرب والموت: البنادق، القبور، الجبال، الدخان، الخيل والحديد، لتصوغ أسطورة الخراب الجمعيّ الذي يعبر من جيلٍ إلى جيل. ومع ذلك، يحتفظ النصّ بفتنة الغناء المكسور؛ فالصوت لا يصرخ، بل ينزف بهدوءٍ كضوءٍ على جدارٍ مهدّم. "أجوسُ المسافة ما بين قلبي وبيني"، تلك هي المسافة الوجودية التي يحفرها العامري بحدّ اللغة: انقسام الذات عن ذاتها، طائرٌ يطير في داخله، يُبْصر العالم من الأعلى فلا يجد سوى رماده. هنا تتحوّل القصيدة إلى نشيدٍ للتيه، وإلى صلاةٍ يردّدها مَن لم يعُد يملك سوى جناحيه المرهقين وشهوةَ مواصلةِ النظر في العتمة.
في نصٍّ مطلعه "في البعيد، نشاهد بابًا، وقُفلًا يراوغ مفتاحه"، يرسمُ الشاعر خرابًا وجوديًا بملامح بيتٍ فقد أهله وذاكرته، فيتحول المكان إلى مرآةٍ للغياب، والزمن إلى حطامٍ يتساقط من الذاكرة. "الباب" الذي يُراوغ مفتاحه رمزٌ لعجز الذات عن الولوج إلى ماضيها أو خلاصها. و"الهواء يُمشّط عشب البيوت" استعارة تُعيد الحياة شكليًا إلى ما مات باطنًا. بين "البجع والنوارس التائهة" يتجسّد تيه الروح بين النقاء والمنفى، فيما تتحوّل المقاهي والمرايا إلى مقابر للزمن المهدور، حيث يتحطم "الوقت" ولا يبقى سوى "ردوم تُخبّئ قتلى وشيئًا من الذكريات". البيت الذي كان حضنًا يصير ظلًّا، والعودة إليه عودة إلى الوهم لا إلى الأمان. في ختام النص، يُطلّ وجه الأم كرمزٍ للسلام المفقود، آخر وردة في الحديقة التي خُنقت بالتراب. النص كله تأبينٌ خافتٌ للزمن الإنساني حين يتهدّم البيت الداخلي ويغدو الوجود مجرد أطلال تتنفس الصدى.
كأس الغياب
في بعض المقاطع، يبلغ الشاعر أقصى درجات التكثيف، فيغدو النص سطرًا واحدًا لا أكثر، وكأنه وميض لغوي يفتح أفقًا بصريًا في فراغ الصفحة، وآخرَ تشكيليًا عبر الرسم الذي يليها. هذا الاختزال تعبيرٌ عن امتلاء اللغة حتى تفيض عن حدودها، إذ يتكثّف المعنى حتى ينفلت من العبارة نحو التكوين البصري في الفراغ. يقول: "يبتغي حُبًّا ولا يُهدى إليه، يستقي رَملًا وكأس شاربيه". يتجسّد المعنى على صفحة واحدةٍ كأنّ النصّ يصعد فورًا إلى صورةٍ تكمّلُه وتكثّفه. يهمس النصّ برغبةٍ ناقصة: حبٌّ مطلوب لا يُمنح، ورغبةٌ تتحوّل إلى طقسٍ بدائيّ (استقاء الرمل) وكأسٍ يحمل المرارة أو السُكْر؛ تلك معانٍ تختزل فقدان الانتماء وحاجة إلى طقس يُكرّس الوجود.
الرسم في الصفحة التالية يجاوبُ الهمسَ بصوتٍ خشِنٍ: أجسادٌ متداخلةٌ مرسومةٌ بخطوط مرتبكة ومتداخلة، كأنّها عدة محاولاتٍ لضبط نفس الحركة: حامل ومحمول، واقفٌ ومنحن، خلفهما ظلٌّ قاتمٌ، كتلةٌ سوداءٌ تُحيل إلى فراغٍ أو ذاكرةٍ ممتلئةٍ بالغياب. الفراغ الأبيض حول الشكل يضخّم الوحدة، أما التداخل الخطيّ فيجعل الهويةَ مهزوزةً ومتعدّدة: "يبتغي حبًّا" لكن الذات جريحة، و"لا يُهدى إليه" لأنّ الحبّ نفسه يظهر هنا ككأسٍ شاغرةٍ أو رملٍ يتساقط. المربع الأسود يعمل كحائط مبهم يرفض النور، الخطوط المهتزة تعكس عطشًا توّاقًا إلى فعلٍ لا يأتي؛ فالنصُّ واللوحة معًا لا يقدِّمان مشهدًا مكتملًا بقدر ما يصنعان حالةً وجوديةً: شوقٌ طقسيّ، رغبةٌ في ملء كأسٍ بالرمل، ومحاولةُ حملِ الآخرِ أو حملِ الذات نحو ما لا يُعطى.
لغةُ الظّلال
تحضر الرسوم التي يتضمّنها الكتاب بوصفها الوجه الآخر للنصّ، لا تشرح القصيدة بل تواصلها بلغةٍ أخرى؛ كأنّ الحبر الذي كتب به العامري نصوصه عاد في هذه اللوحات إلى أصله المادّي، إلى لحم الخطّ والعتمة والبياض. في هذه الرسوم لا نرى "أشكالًا" بقدر ما نرى آثار كائنات تمّ محوها، أجسادًا تتفكّك وتتعانق وتتهاوى في فضاءٍ بين الحضور والغياب، تمامًا كما تفعل اللغة في القصائد والنصوص.
تقوم هذه الرسوم على فلسفة المحو ذاتها التي تحكم النصّ: فكل خطّ يبدو وكأنه يسير إلى فنائه، وكل هيئة إنسانية تتبدّد لتغدو صدىً لذاكرةٍ تسعى لأن تستحضر ذاتها. الوجوه هنا بلا ملامح واضحة، وكأنّ العامري يرسم ما تبقّى من الذاكرة بعد أن جفّ ضوءها؛ يرسم الإنسان وقد تجرّد من تاريخه ومن سيرته، عائدًا إلى مادّته الأولى، إلى الخطّ، كما تعود الروح إلى رمادها.
يستعمل الفنان الخطّ لا كأداة تمثيل، بل ككائنٍ حيّ يتناسل ويتشابك ويتأوّه. الخطوط تتراكب مثل طبقات من الوعي، أو مثل أصواتٍ متداخلة في حلم. الشخصيات في الرسوم كتلٌ بشرية ذائبة في بعضها، تشكّل جسدًا جمعيًّا واحدًا يسير أو يسقط أو يحتضن نفسه، كما لو أن الكائن الإنساني هنا لم يعد قادرًا على التميّز عن ظله أو عن الآخر. هذه الكثافة الجسدية تعكس ما في النصوص من حنينٍ إلى الأصل، ومن فزعٍ من التلاشي، ومن رغبةٍ في الخلاص عبر الانمحاء.
أما الخلفيات، بما فيها من زخارف هندسية وخطوط عربية شبه متحلّلة، فهي بمثابة جدار الذاكرة الذي تنقش عليه الكائنات وجودها قبل أن تزول. تتجاور فيها الروح العربية القديمة مع التجريب المعاصر في الرسم، فيتحوّل الفراغ الأبيض إلى ذاكرةٍ بصريةٍ، توازي الذاكرة الشعرية في النص. بهذا المعنى، فالرسوم ليست مرافقة للقصائد، بل هي قصائد أخرى مكتوبة بالخطوط والظلال. وكما أن الشاعر يمحو سيرته بالكلمات، فإن الرسّام يمحو ملامحه بالخطوط، ليجعل من هذا المحو طقسًا للظهور، حيث يتحقّق الإنسان فقط حين يتخفّف من ثِقله، وحين يصبح أثرًا. إنّها رسوم التحوّل والعبور: عبور من الجسد إلى الذاكرة، من الذاكرة إلى الضوء، ومن الضوء إلى الظل. في هذا التواشج بين النصّ والرسوم، يصبح الكتاب كلّه محاولة لتشييد سيرة لا تُكتب، بل تُمحى لتظلّ معلّقة بين الرؤية والغياب.
فنّ الفناء
يمتلك "يمحو سيرته.. وينأى" قيمةً جماليةً تتجاوز موضوعاته، إذ يقدّم نموذجًا للقصيدة التي تعيد كتابة ذاتها في ضدها، ونصًّا يرى في الكتابة فعلًا من أفعال الفناء الخلّاق. قوّته لا تكمن في الصورة الشعرية المفردة بقدر ما تكمن في نَسَقِها الداخليّ، في ذلك الإيقاع الهادئ الذي يشبه تنفّس الغياب. العامري يكتب بوعيٍ جماليٍّ عميق، يوازن بين الاقتصاد اللغويّ والثراء الرمزيّ، ويجعل من الصمت شعرًا ذا دلالات.
على المستوى البنائي، يتمكّن الشاعر من خلق نسيجٍ متماسكٍ رغم تشظّي القصائد، إذ يوحّدها خيطٌ دقيق من الإحساس بالزوال، وبأن الجمال لا يُستعاد إلا عبر فقدانه. غير أن هذا الاشتغال العالي على الرمز قد يجعل النصوص عصيّةً على القراءة السطحية؛ فالقارئ قد يشعر بالتيه أمام كثافة الصور وانعدام الخطّ السرديّ الواضح. لكن هذا التيه، في جوهره، هو جزء من لعبة الديوان، إذ يدعو المتلقّي إلى أن يشارك في عملية المحو نفسها، أن يملأ البياض بتأويله الخاص، وأن يصبح شريكًا في إعادة كتابة النصّ.
يُسجَّل للعامري أيضًا وعيه بعلاقة الشعر بالفنون الأخرى. فهو يكتب من داخل الحسّ التشكيليّ، ويمنح النصوص بُعدًا بصريًا قلّما نراه في الشعر العربي المعاصر، بحيث يتجاور الرسم والقصيدة في مشهدٍ واحد. هذه المقاربة تجعل الديوان عملًا مفتوحًا، قابلًا للقراءة النقدية من زوايا متعدّدة: وجودية، فنية، أدبية، بل وحتى فلسفية.
في النهاية، يبدو "يمحو سيرته.. وينأى" كأنه نصّ يسعى لأن يمحو ذاته ليُبقي أثرها.
إنه كتابٌ عن الكتابة كغيابٍ مستمرّ، وعن الذاكرة كفنٍّ في إعادة رسم ما تلاشى.
يَخرُج القارئ منه وفي داخله شعورٌ بأن المحو ليس انطفاءً، بل طريقٌ إلى ضوءٍ آخر أكثر
صفاءً.


تحميل المقال التالي...