في مجموعته الشعرية الصادرة مؤخرًا عن "منشورات الجمل" في بيروت، يواصل الشاعر العراقي صلاح فائق المقيم حاليًا في الفلبين، التحليق منفردًا في فضاءات القصيدة بأجنحة خيال تغوص في كل ما هو يومي. ويمكن القول إن هذه المجموعة تدون مسيرة شاعر يكاد يكون من أغزر الشعراء العرب إنتاجًا لقصيدة حداثية للغاية، فيها ما يشتبك مع المنفى والضباع والسكارى والمخذولين والقطارات والجبال والسواحل والنهار والليل والبرق والمطر والغزلان والنمور والصمت والضجيج والقلاع والحصون والأنبياء والمهربين. وهي في اشتباكها هذا تنجز كتابة شعرية فارقة، تملأنا فرحًا وارتباكًا، شغفًا وتحليقًا، انكسارًا وانشراحًا، كلما قرأنا له، إذ تأتي قصيدته طازجة أشبه بسمكة قفزت لتوها من الماء إلى النار، ثم إلى مائدة فقراء عثروا على أنفسهم فجأة أمام البحر.
معظم قصائد الكتاب مهداة إلى أصدقاء شعراء وغيرهم يتناثرون في أصقاع الدنيا، والمجموعة تمثل همزة وصل بينهم وبين كاتبها الذي يمتلك لغة سريالية متجددة، يؤمن بالشعر ويكفر بغيره، محولًا صفحته المغمورة على منصة "فيسبوك"، إلى منتدى مفتوح على مدار الساعة للاحتفاء بالقصيدة، فهي أول ما يصافح به العالم والكائنات من حوله وآخر ما يراقصه ويهذبه عند انبزاغ ضوء الفجر، وكل ذلك قبل أن يذهب لينام ولكي يحلم بمعارك وأساطير تنتج في المحصلة قصائد عما قريب.
يكتب فائق قصيدته من دون أن يكلف نفسه تهيئة اللحظة المناسبة للعصف الذهني، أو انتظارها، أو ابتكار حيلة للإيقاع بها، فهو في فضاء شعري مستمر. إن لم يكتب على الأوراق بالطريقة الكلاسيكية، فهو ينقر برؤوس أصابعه على نوتة إلكترونية تمهيدًا للنشر في صفحته على "فيسبوك"، والتي باتت منبرًا وأرشيفًا ونافذة للتواصل مع الآخرين وفي مقدمتهم الشعراء والكتاب وحاملي لواء التنوير.
إن صلاح فائق مخلص لعوالمه، كما أنه مخلص لكل ما يمر به، ويراه، أو يتخيله. يكتب سيناريو يوميًا لكل ما يصادفه من مشاهدات وأحلام وخيالات، متكئًا على تجربة ممتدة، ولغة غنية بالاستعارات والرموز والصور، وقصيدة تقارب الحاضر والمستقبل، حيث الخوف من نوايا الليل (المجهول) وضبابية الحاضر، والرغبة في التحرر من القيود الاجتماعية والسياسية ورفض الامتثال لها.
إلى جانب ذلك كله نعثر في المجموعة على الشخصية الشعرية المعقدة والمتعددة، حيث يصور الشاعر نفسه في مواقف مختلفة، يتصالح، يترقب، يتحاور، يناور، ينعزل، يضحك، يكتئب، يغني، يقفز، ينام، يفوز، يخسر. ولكن بالرغم من ذلك كله أو بالأصح إلى جانب ذلك كله تظل عينه على القصيدة، وتبقى أنياب خياله - إذا ما جاز القول - مغروسة في أعماقها، بينما هو يقوم بالتأمل وفي الوقت عينه ينصت إلى حياة قيد التشكل في آفاق الخيال بينما هو يتأمل، وكذلك بينما هو يقرأ أو يرتب أثاث غرفته، مترقبًا ومضة سريالية ساحرة.
عروض
"دببة في مأتم": قصائد سريالية
صدام الزيدي
19 أكتوبر 2025


تحميل المقال التالي...