}
عروض

"أنثروبولوجيا العنف والصراع": دراسات إثنوغرافية

رباب دبس

21 أكتوبر 2025
يتجلى العنف الممارس على النساء في الصومال في إجبارهن على الاختيار بين شكلين من العنف الشخصي: الاغتصاب أو الموت (Getty)


نادرًا ما كان العنف موضع تحليل أو دراسة، فموسوعة العلوم الاجتماعية نفسها تخلو من أي مقالة عن العنف، وفق ما تذهب إليه الفيلسوفة الألمانية حنّه أرندت، باحثةً في عادية العنف، ومتساءلةً: إلى أي درجة يُعتبر العنف والعسف المرتبطان به أمرين عاديين، بحيث إنهما لا يَلقيان أي عناية خاصة؟ المرء هكذا لا يطرح أسئلة على أمور تبدو بديهية للجميع، ما يعني أن العنف متجذر في بنية البشر. يوافق الفيلسوف الفرنسي بول ريكور أرندت على أن الشر مترسّب في تكوين الإنسان، رادًّا العنف إلى الضعف البشري الذي يحمل الإنسان على ارتكاب الشرور.

تتخذ آليات العنف في آراء الفلاسفة وعلماء الاجتماع طابعًا نظريًا ورمزيًا، غالبًا ما يتمثل في الهياكل التنظيمية ومؤسسات الدولة والسلطة وغيرها، فيما تبدو الأبحاث الحقلية ضرورة لبناء فهم جديد حول العنف، لا سيما أن تجلياته تبدو ملموسة ومحسوسة ومعاشة. فالعنف، وفق عالم الاجتماع الألماني جورج سيمل، حدثٌ تزامني بقدر ما هو نمط من العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد والجماعات.

مقابل ندرة المواضيع المختصة بالعنف في موسوعة العلوم الاجتماعية كما تشير إليها أرندت، هناك ذاكرة الحروب والموت والفواجع التي تطل برأسها من الكتب والمذكرات والسير التأريخية والدراسات البحثية والإثنوغرافية، التي تتصدر العنف وتتخذه موضوعًا وحيدًا. كيف لا والعالم يعيش في دوامة الحروب المتجددة منذ الربع الأخير من القرن العشرين وحتى اكتمال الربع الأول من القرن الحادي والعشرين؟ ففي الحقبة المذكورة عانت شعوب كثيرة، ولا تزال، من الآثار الوحشية التي خلفتها المعارك. نرى مثالًا على ذلك في سراييفو وكوسوفو والعراق وغزة والسودان ولبنان وليبيا واليمن وغيرها من البلدان، التي كانت شاهدة على دورة العنف المتصاعدة.

ظاهرة العنف في المجتمعات المعاصرة

تزايد الإصدارات حول موضوع العنف، وإن كان أمرًا لافتًا، إلا أنه أقرب إلى أن يكون نتاجًا طبيعيًا، كانعكاس لدينامية البنى المجتمعية، على ما يذهب إليه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. ما يلفت أيضًا في تلك الإصدارات هو التقنيات المستخدمة في إنجازها، التي يغلب عليها الطابع الإثنوغرافي، أي أنها مستمدة مباشرة من الحقل المدروس، وأهميتها كونها تقدم مادة حيّة مستلة من أفواه الجماعات التي عاشت وخبرت الحرب. هكذا يغدو في استطاعتنا أن نرى كيف أن العنف يستقطب الباحثين إلى أعماقه وجذوره الأولى.

نشير في السياق المذكور إلى عدد من الدراسات الأنثروبولوجية حول الموضوع، من بينها "ظاهرة العنف في المجتمعات المعاصرة: مواجهات إثنوغرافية"، الذي يتضمن عددًا من العناوين، بينها: "مكتوب على جسدي"، و"أعمال الشغب والمجازر المنظمة في أحمد آباد"، و"العمل الحقلي والخوف في كردستان العراق"، و"أغاني الحرب ومعانيها"، و"النوم بعيون مفتوحة"، و"الحلم والعقاب في لبنان".

هناك أيضًا كتاب "المال: مواجهات إثنوغرافية"، وهو معاينة للطرق التي "تسهم فيها خبرات الأنثروبولوجيين وتجاربهم مع المال والنقود في تشكيل خبراتهم الحقلية، وحصولهم على التبصرات المتأتية من دراسة نطاق واسع من الموضوعات المتعلقة بالمال والتبادلات".




أنثروبولوجيا العنف والصراع

"أنثروبولوجيا العنف والصراع" هو أيضًا أحد المؤلفات المشغول بتقنيات إثنوغرافية لمجموعة من الباحثين، ترجمته إلى العربية د. هناء خليف غني، وشارك في التحرير بتينا أي. شميدت وأنغلو دبليو شرودر.

ضمن الكتاب بحث لغلو بومان، يتقصى فيه العنف من أساسه، من مفهومه، من أصله في اللغة التي يتجذر في المفردات التي يستخدمها البشر في حياتهم اليومية، حيث يضع مفردة "ينتهك" وما يقابلها من تفاسير مستندًا إلى القاموس الإنكليزي: "يزدري، يقتحم، يكسر، يخرق، يخالف، يسلب، يعتدي، ينتهك حرمة قانون ما، يغتصب، يبطل، يقاطع أثناء الحديث، يتخطى، يُلحق العار، يُسيء معاملة، يُعطب، يُهلك، يسلب، يُوقع الفوضى والاضطراب، يُفسد نظام شيء" إلخ… وقد هدف بومان من إدراج التفاسير الكثيرة لمفردة العنف وما يقابلها إلى ترسيخ الحقل الدلالي للمفردة، التي لا تظهر بوضوح، في رأيه، في خانة الأفعال العنيفة.

تحت عنوان "السياقات الاجتماعية والكونية وأشكال العنف" دراسة لإرنست هالمباير عن شعب اليوكبا في شمال غرب فنزويلا. يبين هذا البحث ارتباط العنف لدى أوساط اليوكبا ارتباطًا وثيقًا بتمايزات التنظيم الاجتماعي. تقترن هذه الأشكال بالمفاهيم المحلية الشائعة للسلطة والمكانة والمهابة الاجتماعية. أصحاب هذه المكانة هم الذين يتمتعون بالقدرة على التوفيق بين الاختلافات الداخلية، لذلك يسعون إلى توطيد شبكة علاقاتهم عن طريق الزواج وتبادل الطعام والعمل وتوظيف تقنيات الاتصال الروحي مع أكبر مجموعة من الناس والأرواح، من أجل دمجها وتنشئتها اجتماعيًا وضمها إلى الجماعة.

يستند جون إبنك في بحثه "العنف والثقافة" إلى رؤية عدد من الأنثروبولوجيين الذين يعتبرون العنف أحد مظاهر الحياة الاجتماعية الأكثر شيوعًا في المجتمعات المحلية، التي تتحدى في العادة التفسيرات المبسطة، مقدمًا نموذجًا عن أشكال الصراع بين قبيلتي الديزي والسوري في جنوب أثيوبيا، بوصفه نزاعًا ثقافيًا غايته الأولى تقويض المكانة الاجتماعية لدى فئة الأعداء. من أمثلة العنف الممارس لدى القبائل المذكورة "قتل شابات في مقتبل العمر بهدف وضع حد للتكاثر والتناسل"، بما يعنيه التكاثر والتناسل من رأسمال اجتماعي ومكانة مرموقة.

"حين يصنع الصمت تاريخًا: الجندر وذكريات الحرب وعنفها في الصومال"، بحث لفرانسيسكا دكليش، تستكشف فيه الأسلوب الذي اتُّبع في إعادة إنتاج ذكريات الحرب في الصومال لدى النساء والرجال، وما يستتبعه من أزمات نفسية بعد انتهائها. أكثر تمثلات العنف تبدو في عمليات الاغتصاب التي تتعرض لها النساء أمام حشد من النساء. يتجلى العنف الممارس على النساء أيضًا في إجبارهن على الاختيار بين شكلين من العنف الشخصي: الاغتصاب أو الموت. هكذا تقبل النساء بالاغتصاب لقاء بقاء العائلة وسلامتها. ومن أشكال العنف أيضًا إجبار الرجال على مشاهدة زوجاتهم وبناتهم وهنّ يُغتصبن أمام أعينهم.

يشير بيتر كلوس في بحثه حول الحرب الأهلية في سريلانكا إلى أشكال العنف التي مُورست فيها، من بينها حرق الضحايا بوضعهم داخل إطارات السيارات المشتعلة، ما شكّل عائقًا في تحديد هويتهم. هكذا اختفى أثر عشرات الآلاف من السكان، قُدّر عددهم بين أربعين إلى ستين ألفًا.

"خبرات الحرب وأخلاقياتها في سراييفو" بحث لآفانا ماجك، يتمحور حول حصار سراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك، بين الأعوام 1992 و1996. تُقارب فيه الباحثة تصورات المدنيين في سراييفو حول الحرب بما هي موضوع متعارض مع السلام الذي يُعد نمطًا مألوفًا من الحياة المتحضرة، حيث يسود القانون، فيما تمثل الحرب حالة ارتباك وقطيعة زمنية فاصلة.
من آراء السرايوفيين عن الحرب: "إنها تقع في أماكن بعيدة"، و"ثمة استحالة لتورط المرء في الحروب والقيام بأي من الأعمال العنفية". إلا أن استبعاد الحرب لم يمنع وقوعها وتوغلها في قلب النسيج الاجتماعي، ويدل وصفها من قبل السكان على مقدار عنفها الذي، كما ورد في شهاداتهم: "لم يكن بقدرة أحد تخيّله"، و"الحدث الأكثر قسوة في التاريخ البشري"، و"ينبغي أن تكون للحرب قواعد وأحكام محددة، هذا شيء لم يشهد التاريخ له مثيلًا، إنها أشكال من الشر والوضاعة لم تخطر على بال أحد ولم يختبرها أحد من قبل".

تنتهي الحرب، ولا ينتهي العنف. يدفن البشر ضحاياهم، فيما الناجون من الموت يستعيدون ذكرياتهم عن العنف ويكتبونها، ليعيدوا تثبيتها وإنتاجها مرة أخرى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.