شهد العامان الماضيان من الحرب الصهيونية الهمجيّة على غزة (منذ طوفان 7 تشرين الأول/ أكتوبر، 2023 وما سبقه بالطبع وعلى مدى عشرات السنين، وحتى اليوم)، موجة غير مسبوقة من الحراك الأدبيّ، في غزّة خصوصًا، موجة حفلت بآلاف النصوص الإبداعية، نصوص مكتوبة بالدم والرعب والضحايا والأحلام والأوهام، وبقدر عالٍ من الصدقية في التعبير عن المشاعر والأحاسيس تجاه ما جرى ويجري، وذلك انعكاسًا لشدّة الكارثة التي تعرّض لها هذا القطاع المنكوب. وكانت الكاتبات، والأمّهات منهنّ بصورة خاصة، هنّ الأكثر حضورًا ومشاركة في كتابة نصّ/ نصوص المأساة الجارية.
وما بين توصيف وتصوير ورسم وكتابة، تصعد كلها بالحزن والألم اليوميّين، إلى حدود المأساة الوجودية للكائن البشريّ، فإنّ قارئ نصوص آلاء القطراوي في كتابها "يكلّمني كِنان" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2025) يكاد ينسى أنه أمام نصّ أدبيّ، ويصعد معها إلى ما يجعل الحياة نصًّا، والنصّ حياةً نعيشها مع الكاتبة التي تشتغل في منطقة ثنائيات: الموت- الحياة، الحلم- الواقع، الاستسلام- التمرّد، النصر والهزيمة. هذه الثيمات الأساسية في كتابة تعبّر عن رغبة وإرادة في المواجهة، مواجهة أدوات الموت والإبادة التي حدثت وتحدث في غزّة، والعنوان- الرمز للنصوص التي تكتب، هو كِنان الشهيد بسنواته الستّ، في غيابه وحضوره.
نصوص آلاء القطراوي عن الشهيد الحيّ كِنان (6 سنوات)، هي نصوص عن غزّة، تمزج بين التسجيليّ والتأمّليّ، بين الدراميّ والملحميّ، الواقعي والفانتازيّ في وقْع أحلامه وآلامه، بين الصوت الفرديّ والنشيد الجماعيّ، بين اتّكاء على النصّ القرآني والأحاديث النبوية، واستلهام لنصوص شعرية فلسطينية معروفة، وموروث من الغناء الشعبيّ يُثري التجربة بنصوص بكائية. لكنه بكاء ينفتح على الحلم لا على الهزيمة أو اليأس. وإلى ذلك، فهي نصوص تتنوع في الأداء والتقنيات، هي بروح شعرية هادئة في الأغلب، وبلا صراخ ميلودرامي وعاطفيّ، لأنّنا حيال أمّ- شاعرة تدرك معنى الكتابة وغايتها، وأن الكتابة حياة جديدة.
في نصّ افتتاحيّ، و"قبل كلّ شيء"، تسرد الشاعرة محطّات من العذاب والنضال الفلسطينيّين، ومنذ نكبة 1948 حتى 2023، منذ تهجير الشعب من وطنه، وإجباره على ترك "منازله الجميلة وأرضه الغنّاء"، إلى الخيام، ثم المزيد من التهجير والمزيد من الخيام، ورغم مرور سبعة وسبعين عامًا وعدم نسيان هذا الوطن، فإن عقاب عام 2023 جاء أشدّ شراسة، لأن الشعب المشرّد "ما زال يتذكّر بيته... ولا يستطيع النسيان". وفي ما "قبل البدء" تروي يوم اجتياح جيش الاحتلال لخان يونس في الأول من كانون الأول/ ديسمبر، وحصار أطفالها الأربعة (يامن 8 سنوات، كنان وأوركيدا توأمان 6 سنوات، وكرمل سنتان) مع جدّتهم لأبيهم، فيما هي بعيدة عنهم ولا تَواصل معهم سوى بالهاتف، ولمدة تقارب ثلاثة أسابيع، ثم اكتشاف استشهادهم مع كثيرين. فتختار أن تكتب، يوم 31 أيار/ مايو، من النصيرات، رسالة "ليست أخيرة" إلى كِنان، تستعيد فيها ضحكاته وحواراته ولثغته "الحلوة" بحرف الراء، وذكاءه وخطه الجميل أيضًا، وغير ذلك من سمات شخصه الذي تفتقده.
فصول النشيد الطويل
بعد هذه التقديمات والافتتاحيّات، تبدأ فصول الكتاب الخمسة وملاحقها بالانثيال، ورغم تعدد الفصول إلّا أنّ الكتاب يبدو نصًّا واحدًا متواصلًا، من جهة وحدة الموضوع واللغة والروح. فالشاعرة في النصوص أمّ لشهيد، وأم الشهيد شاعرة، وما بين الشعر والنثر السرديّ، تجسّد نصوص هذا الكتاب تمثّلات الأمّ وصورها، أمّ للأطفال جميعًا، لكنان وأترابه، تراه فيهم، وطفلُها ابن لكثير من الأمّهات. تستحضر شهيد(ها) في ذكرياتها معه، وتأمّلاتها لما كان عليه، وما كان سيكون عليه، وأحلامه التي تكسّرت في حرب ليست حربَه. تراه في حالات قوّتها وشدّتها، وفي مقامات ضعفها وهشاشتها أمام ما جرى له، والأحلام المشتركة بين أمّ وابنها. ولذا نجد هنا تكثيف المشاهد في صور، والصور في مشاعر، وهذه المشاعر تتكثف في كلمات، وتتحول الكلمات حرائق تُذكي العواطف، فتتحرك هذه لتعيد العناصر إلى تلك المشاهد والصور والمشاعر.
في فصل أوّل يحمل عنوان "من فوق الكون بينما أنظر إلى الأرض..." وبعنوان فرعيّ "رأيت الكنانية"، نقرأ مشاهدات وانطباعات ونماذج بؤس، ولكن عبر حوارات؛ حول غزة التي تبدو "بوجه شاحب، وأطراف زرقاء ترتجف"، لا تتغطّى لغياب الأغطية، ولا توقد النار لغياب الحطب، و"لا يمدّ الناس من حولها أيديهم ليحتضنوها"، إذ "بتَر الاحتلال أيديهم" حقدًا، وكلّ مأساتها أنها "ترتجف لأنّها وحيدة"، حيث الوحدة "أشدّ وجعًا من البرد/ إنها شتاء طويل بفصول أربعة على القلب". ومثل هذا الحوار نقرأ عن طفل "يبحث عن أمّه في الليل، موجوع، سقط أكثر من مرّة، كان متعبًا وهزيلًا..."، التقط له الصحافيّون الصور، وسيكتبون عنه "الطفل الصامد"... واسمه "ابن غزّة"، فهو الاسم "الحركيّ" لأطفال غزة جميعًا. هذان نموذجان من نماذج بؤس غزة وأهلها، وخصوصًا أطفالها، ومثلها الكثير.
أما في نص "من وسط قلبكِ أسألكِ"، ننتقل مع القطراوي إلى "أسئلة كنانية"، حيث ابنها الشهيد كنان هو مَن يوجّه لها الأسئلة المؤدية لمزيد من المآسي، بدءًا من سؤال "هل ما زلتِ تحبّين البحر؟"، ويجيء جوابها "ليس كالسابق"، أمّا لماذا؟ فلأنّها لا تعرف كيف تبني على شاطئه مدينة من الرمل، وحين يفكر هو أنها يمكن أن تجد ولدًا يعلّمها، تقول إنّها وجدت ولدًا لكن المأساة أن "يده مقطوعة". ثم تتوالى الأسئلة عن بكاء الأطفال الأيتام، وعن حبّ الألوان الذي تكاد تنساه لأن العدوّ قصف "الألوان في غزة" فباتت أسماؤها مرتبطة بالقبر وشخص مجهول الهوية لكن في يده "زجاجة ماء زرقاء فارغة"، وحين يتعلّق الأمر بوجهها الشاحب، وكونها لا تشرب الحليب" بسبب فقدانه، يطلب منها أن تحتضن صورته، يأتي جوابها القاسي فهي سوف تتوجّع لأن صورته سوف تجرح وجهها حين لا تبادلها القُبَل! أمّا الأحمر الذي كانت تحبّه فقد غدا يحيل على دمه المسكوب على الركام "لأربعة أشهر".
تمنّيات وأسئلة
وفي نصّ مطوّل ومتفرّع آخر بعنوان "أتمنّى لو"، وهو بمثابة "أمنيات كِنانية" تأتي من رحم المعاناة، فأوّل أمنيات كنان أن "تمطر السماءُ حليبًا" لأنه شاهد طفلًا يبكي ولا تستطيع أمه إرضاعه "فصدرها قد جفّ"، والحليب مفقود من السوق، فنام الطفل "من شدّة البكاء وهو جائع"؛ ومن بين أجمل الأمنيات يتمنّى أن تزرع شتلة عسى أن تكبر ذات يوم فيعلّقوا عليها علم فلسطين في حفل انتصار عظيم ويغنّوا قصيدة درويش:
"على هذه الأرض سيّدةُ الأرض،
أمّ البدايات، أمّ النهايات،
كانت تسمّى فلسطينَ، صارت تسمّى فلسطينَ،
سيّدتي: أستحقّ لأنّك سيّدتي، أستحقّ الحياةْ".
وبالانتقال إلى نصّ جديد بعنوان مطوّل "أغمضي عينيك يا ماما، وتخيّلي بعيدًا عن الإبادة، ماذا يعني لكِ"، ننتقل مع الشاعرة إلى ما تدعوه "أجوبة آلائية"، أجوبتها هي على أسئلته المتنوّعة، بدءًا من السؤال عمّا يعنيه لها الشاطئ، فتجيبه إنه "رجل نبيل يخبرني: لا تقتربي من الموج العالي كي لا تغرقي"، أمّا النار فهي بالنسبة إليها "كلّ بداية صادرتَ فيها خوفكَ ومنحت بها الكبريتَ صكوك الأمان"، وعن قوس المطر تقول إنه مؤشر على فرصة دائمة لظهور الألوان في حياته وليس عليه سوى أن يرفع رأسه إلى السماء؛ أمّا البيانو فهو كما تقول لشهيدها "يعلّق السماءَ على صدرك/ وبدلًا من أن تطير إليها/ تطير هي إليك".
وبمثل هذا الخيال والحلم، نتابع مع الشاعرة النص الطويل الأخير، والأسئلة والأجوبة بعنوان "ماذا لو... افتح عينيكَ يا كنان وأخبرني"، وعنوان فرعي "أجوبة كنانية"، ويكون سؤالها الأوّل له "ماذا لو كنتَ فلّاحًا" فيكون جوابه "سأزرع بين كلّ حجَرَين مهدومَين شتلةَ نعناع/ لنشمّ رائحة الأرض أثناءَ نزوحنا/ قد نشعر بالألم/ لكنّنا لن نشعر بالغربة". وعمّا لو كان "صانعَ دُمى؟" يجيب بما يحلم به وأنه سيضع "داخل كلّ كفنِ طفلٍ دميةً/ كي لا يشعر بالوحدة". وفي إشارة إلى معاناة الأطباء في هذه المجازر فتسأله "ماذا لو كنت طبيبًا؟"، فتأتي الإجابة على ذكر واحد من أشهر الأطباء "سأكون حسام أبو صفيّة/ وسأجعل معطفي الأبيضَ لوحة انتصار على الإبادة".
وفي الختام، تكتب الشاعرة "إلى كنان رسالة ليست أخيرة" (النصيرات 21 تموز/ يوليو 2025)، التي تنمّ عن ضرورة استمرار الحلم، ثمّ تكتب "وصية كنان" الذي كان يحلم أن يصبح "طيّارًا يجوب العالم"، لكن العدوّ قتله قبل أن يكتشف "الكثير من الأشياء التي كان سيحبها بالتأكيد". وفي "بريد حب لكنان"، ثمة بورتريه لكنان وعنوان بريد لمن يريد أن يوجّه له رسالة، وفي ملحق خاص، تثبّت الشاعرة أخيرًا مجموعة من شهادات الكتاب العرب لها حول شخصية كنان خصوصًا، وحول كتابها هذا عمومًا! ويليه ملحق صور فوتوغرافية لها مع كنان وأشقّائه في أوضاع مختلفة.


تحميل المقال التالي...