العنوان، الذي يتكرر كـ "لازمة" تُفتتح بها كل قصيدة تقريبًا، من "وَالآن، تعال أيُّها الصمت"، مرورًا بـ "والآن، تعالي أيتها الشمس"، ووصولًا إلى "والآن، تعال أيُّها العالم"، ليس مجرد صيغة أسلوبية، إنما جوهر التجربة ومفتاحها النقدي. إنه فعل أمرٍ موجّه للعالم بكل مكوناته: المادية والمجردة، السياسية والحميمة، القاتلة والمُحِبّة، ليحضر قسرًا أمام ذات الشاعرة، ويخضع لمشرط مساءلتها الشعرية.
تتأسس المجموعة على طبقات متعددة تتداخل فيها الذات بالموضوع، والخاص بالعام، واليومي بالوجودي، أولها "جسد الواقع"، ذات المضمون السياسي، وهي الطبقة الأكثر مباشرة وسطوعًا، حيث لا تكتب الشاعرة عن الاحتلال، بقدر ما تكتب من داخله، وحيث الواقع الفلسطيني ليس خلفية، إنما نسيج اللغة ذاتها.
نجد هذا جليًا في استدعاء الفصل العنصري، كما في قصيدة "والآن، تعال أيُّها الأبارتهايد"، فلا يتم تعريف الفصل العنصري نظريًا، بل يُعاش كتجربة حركة يومية: "نحن، على الطرق الالتفافية/ نقطع الجغرافيا عَبْرَ المُخَيَّمَاتِ والقُرى النائية/ عَبْرَ طُرُقٍ تُرَابِيَّة"، وهو ما يتكرّس في استحضار أدوات القمع، بحيث تُستدعى هذه الأدوات بأسمائها كـ"شخوص": "الحواجز"، و"المستوطنة"، و"البيوت المهدمة"، و"البيوت المهجرّة".
ولا يقتصر الأمر على أدوات القمع، بل يمتد إلى الأجساد التي تقاومها، مثل "سائقي الفوردات بين المدن"، والطُّلاب العالقين "في الباصات البرتقالية".
وتصل هذه الطبقة إلى ذروتها في قصيدة "والآن، تعالي أيتها الجمل"، حيث تُعرّف الشاعرة ذاتها بالكامل عبر هذا الواقع، وتصبح ابنةً للغة التي أنتجها: "أنا ابنة أرض محتلة... ابنةُ جُمَلِ/ في جيش بالبلد".
وتُظهر المجموعة، في طبقة ثانية، وعيًا حادًا بفعل الكتابة ذاته، فالشاعرة لا تستدعي العالم الخارجي فقط، بل تستدعي أدواتها أيضًا، كما في القصائد التي تحمل عناوين مثل: "والآن، تعال أيُّها الكتاب"، "والآن، تعالي أيتها القصيدة"، "والآن، تعالي أيتها الكتابة"، "والآن، تعال أيُّها الشعر"، "والآن، تعال أيُّها المجاز".
في هذه الطبقة، يتحوّل النص إلى مرآة لذاته. في "والآن، تعال أيُّها الشعر"، يُعرَّف الشعر بما ليس هو: "لا هُو قِصَّةٌ ولا رواية ولا حتى أغنية؟"، وبما يشبهه: "نعتقد أنه أقرب للصمت منه للغة".
وتصل هذه "الميتا- شعرية" إلى أقصى درجات وعيها بالعنف في قصيدة: "والآن، تعال أيُّها القتل"، حيث متعة الحذف في الشعر هي "متعة أن تُطلِقَ النَّارَ على صَفٍّ من الرِّجال/ متعة الإعدام"، مؤكدةً أن "لا يأتي إلى العالم شيءٌ دونَ عُنف/ حتى الشعر".
ويتجاوز النص، في طبقته الثالثة المتمحورة حول ما يمكن تسميته بـ"الحفر الوجودي"، المحلي ليلامس الكوني، وهنا تستدعي الشاعرة المفاهيم المجرّدة التي تشكل الوعي الإنساني، في قصائد مثل: "والآن، تعالي أيتها الأعماق"، "والآن، تعال أيُّها العقل"، "والآن، تعالي أَيَّتُهَا الجينات"، "والآن، تعال أيُّها الرعب".
وهنا يبرز "ما وراء مضامين النصوص"، فـ"الرعب" مثلًا لا يُستدعى لرفضه، إنما كشرطٍ ضروري للإبصار: "أنتَ ما نحتاجه حتى نرى الأشجار، حتى أرى خصمي"، بل ويصبح شرطًا للقراءة العميقة: "بدونِكَ لَن يقرأ أَحَدٌ جُملةً في كتاب/ أكثر من مرة وهو يشهق".
وفي مجموعة "والآن، تعال أيها العالم"، يتم استدعاء اليومي والهامشي ليصبحا مركز الحدث الشعري، بعد أن تُنزع عنهما صفة العادية ليصبحا كاشفَين للحقيقة، فالشاعرة لا تنشغل بالأحداث الكبرى بمعزل عن تفاصيلها اليومية. هي ترصد "اليومي" لا كوصف عابر، بل كـ"مسرح" تتجسد عليه الدراما السياسية والوجودية.
وهنا يمكن الحديث عن "يوميّات القراءة والكتابة"، حيث يتحول فعل القراءة من طقس نخبوي إلى ممارسة يومية حميمة، وحيث يتم استدعاء "الكتاب" وهو "يجلس الآن على الكومدينةِ قُربَ سَرِيرك"، أو يُقرأ "مُمَدَّدًا على الكنبة بينما أصوات العائلة/ تأتيك من غُرفة أُخرى"، كما تُستدعى "القصيدة الأخيرة التي قرأتها على هاتفك المحمول"، وأنت في "الباص القادم من القدس"، أو تلك التي تُقرأ "أول شيء في الصباح قبل أن تستيقظي تمامًا".
والأمر ذاته ينطبق على "يوميّات المشي والانتظار"، بحيث ترتقي الشاعرة بتفاصيل الحركة اليومية إلى مستوى الشعر. المشي في الشارع يصبح حدثًا شعريًا، كما في وصف عبور "دوار المنارة" بـ "يداك في جَيبَتَيكِ/ ولَفحتُكِ تُعْلِّي نِصْفَ وَجْهِكِ"، أما التوظيف الأعمق لليومي، فيتعلق بـ"يوميات الاحتلال"، فالاحتلال في نصوص طه ليس فكرة مجردة، إنما لغة يومية.
وتتبنى الشاعرة فلسفة واضحة وصريحة، مفادها أن الحقيقة والمعرفة لا تسكنان في المراكز المعترف بها كالجامعات أو الجرائد الرسمية، بل في الهوامش.
تبدأ المجموعة باستدعاء الصمت كـ "لغة" للمهمشين: "النساء في المصحات العقلية"، "شعوب كاملة... وضعت في قبو السفن"، و"المراهقات/ في مؤسسات الإصلاح"، كما تستدعي الشاعرة أيضًا "اللامُقتَبَسون"، وهم "المجهولين/ الذينَ غَيَّرَت أفكارهم العالم/ دون أن يقتبسهم أحد".
وتركز الشاعرة على الأماكن التي تحدث فيها الكتابة المهمشة كفعل مقاومة: "الكتابات على الجدران"، و"ما خَطَّه المراهقون في البيوت المهجورة"، و"الرسائل التي تبادلها الناس بالسر".
ويبرز الهامش كـ"ميتافيزيقيا" للمعرفة، في المجموعة التي تكرس قصيدتين كاملتين ("الكِتابَةُ في الهامش" و"الحواف") لهذه الفلسفة، ففي "الكِتابَةُ في الهامش"، يصبح هامش الكتاب "أجمل" مكان للكتابة. الهامش الذي هو ليس فراغًا، بل فضاء للفكرة الحرة، حيث الكلمات "مضغوطة/ كأنها أيضًا محشورة في زنزانة"، وحيث تبدو الفكرة "حُرَّةً/ مِثْلَ سَهُم".
وفي "والآن، تعالي أَيَّتُهَا الحواف"، تقدم الشاعرة أطروحتها بوضوح: "الفكرةُ تَصِلُ الهامش قبل المركز"، و"تعيش الحقيقة في الحواف".
ويمكن اعتبار العديد من النصوص في هذه المجموعة بمثابة "سيرة ذاتية" للشاعرة، أو على الأقل نصوصًا ذات طابع اعترافي وسير ذاتي واضح.
الشاعرة هنا لا تستخدم ضمير "الأنا" الشعري العائم أو الشامل، بل تؤسس "أنا" محددة، متجذرة في سياق سياسي، وثقافي، وإبداعي خاص بها، فهناك نصوص تعمل كـ "بطاقة تعريف" مباشرة لهوية الشاعرة وسيرتها، كما في "والآن، تعالي أيتها الجمل"، وهو النص الأكثر مباشرة في كونه سيرة ذاتية، حيث تُعرّف نفسها ليس فقط بمكان ولادتها، لكن باللغة التي شكلت وعيها. هي "ابنة أرض محتلة"، "وابنة جيبات الجنود والحواجز/ والهويات الخضراء"، والأهم، ربما، أنها "ابنةُ جُمَلٍ"، وتسرد "قاموسها" الشخصي الذي نشأت عليه: "في جيش بالبلد"، "من اعتقلوا اليوم؟"، "هل الطريق فاتحة"، و"كيف الحاجز؟"، وهي سيرة ذاتية لغوية وسياسية، ترسم كيف تشكّل وعي الفرد داخل منظومة الاحتلال اليومية.
وتقدّم الشاعرة الفلسطينية سيرتها الأدبية، كما تقدّم نصوصًا أخرى بما يُشبه "اليوميات" أو الاعترافات حول عملية الكتابة والتفكير الخاصة بها.
تتميز المجموعة بتركيب فني متماسك يعتمد على آليات تقنية محددة تخدم الرؤية الكلية، فالشاعرة تعتمد على شكل قصيدة النثر، متحررة من الوزن والقافية، ما يمنحها مساحة لتدفق الوعي السردي والفلسفي، لكنها تفرض "إيقاعًا بديلًا" عبر التكرار الاستهلالي آنف الذكر.
وتعدّ "الأنسنة" التقنية الفنية الأبرز في المجموعة، عبر مخاطبة كل شيء كـ"شخص" عاقل، فالشاعرة تخاطب الصمت قائلة: "أيها الصمت، نحن لا نبني قبورًا، هذه ألسنتُك الحجرية"، وتخاطب "مصانع الأسلحة"، و"الأغاني العسكرية"، ما يحوّل العالم الصامت إلى "شاهد" و"شريك" في الحوار.
وتتفوق طه في تحويل المجرد إلى محسوس، كما في "والآن، تعالي أَيَّتُهَا الكِتابَةُ في الهامش"، بحيث يصبح النص الأصلي "ثَقِيلًا مِثْلَ دَبَّابَة/ مثل سجن"، والكلمات فيه "مُستقيمة/ مِثْلَ غُرَفِ المُعتقل"، بينما "الفكرةُ حُرَّةً/ مِثْلَ سَهُم".
وتبني الشاعرة قصائدها على "المقابلة" الحادة، ولعلّ المثال الأبرز في "والآن، تعالي يا مصانع الأسلحة"، حيث تضع الجمال الكوني (تبادل الأشجار: "بونسيانا صفراء من الأرجنتين"، "شجرة الصفورة من اليابان") في مواجهة العنف الكوني (تبادل الأسلحة)، وتخلص إلى النتيجة الصادمة: "مِن كُلِّ غابة أرسل لنا شجرة/ مِن كُلِّ مصنع نوع أسلحة/ وأخذنا الأولى في تُربتنا/ والثانية في أطفالنا".
"والآن، تعال أيها العالم" ليست محض مجموعة قصائد، بقدر ما تُشكل بيانًا في "الحضور"، حيث لا تصف داليا طه العالم، بل "تستدعيه" للمثول أمامها، عبر بنية فنية محكمة، وصوت شعري واضح وحاسم، مقدمة مجموعة نصوص متعددة الطبقات، تمتزج فيها وجع "الندبة" السياسية بأسئلة "العقل" الوجودية. إنها نصوص تثبت أن الشعر، في أعتى حالات العنف، ليس ترفًا، بل ضرورة قصوى للإبصار والشهادة والوجود.


تحميل المقال التالي...