مفهوم خطاب الكراهية هو من المفاهيم السائبة، غير المقيدة، حيث لا يوجد تعريف شامل له في الفلسفة والفكر السياسي، ولا بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. ولا يزال هذا المفهوم محل جدل ونقاش واسعين، خاصة في ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير، وعدم التمييز، والمساواة وسوى ذلك.
يشير خطاب الكراهية بشكل عام إلى الكلام المسيء الذي يستهدف مجموعة، أو فردًا، بناء على خصائص معينة، مثل العرق، أو الدين، أو النوع الاجتماعي، والذي قد يهدد السلم الاجتماعي. ويعّد ظاهرة اجتماعية وسياسية خطيرة تؤثر بشكل سلبي على التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي في عدد من المجتمعات. وهذا النوع من الخطاب يؤثر على تنامي مشاعر العداء والتمييز ضد مجموعات معينة بناءً على هوياتهم العرقية، والدينية، والثقافية، أو حتى الجنسية.
سعت الأمم المتحدة إلى تأمين إطار عمل موحد لمعالجة خطاب الكراهية على الصعيد العالمي، ووضعت استراتيجية وخطة عمل في شأنه من خلال تعريفه بأنه "أي نوع من التواصل، الشفهي، أو الكتابي، أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية، أو تمييزية، بالإشارة إلى شخص، أو مجموعة، على أساس الهوية. وبعبارة أخرى، على أساس الدين، أو الانتماء الإثني، أو الجنسية، أو العرق، أو اللون، أو النسب، أو النوع الاجتماعي، أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية". وعليه، فإن خطاب الكراهية يمكن أن يتجسد في أي شكل من أشكال التعبير، سواء أكان مكتوبًا، أو شفهيًا، أو عبر الإنترنت، يعبر عن العداء، أو الكراهية، أو التمييز تجاه شخص، أو مجموعة، بناءً على صفاتهم الشخصية، مثل الدين، والعرق، والجنس، والتوجه الجنسي، أو أي سمة أخرى قد تحدّد هوية الفرد. ويمكن أن يشمل هذا الخطاب تعبيرات لفظية مهينة، أو تهديدات مباشرة، ويتضمن أيضًا نشر صور أو مقاطع فيديو تروّج لأفكار متطرفة، أو تحرض على العنف ضد الآخرين.
يكشف واقع الحال أن الحدود بين حرية التعبير وخطاب الكراهية باتت معقدة ومثيرة لجدل متزايد. ولعل التشابك والتقاطع بين حماية حرية التعبير وحظر خطاب الكراهية خلق نوعًا من الغموض في المعايير التي تبنى عليها قوانين حظر الخطابات التي تتسم بطابع الكراهية، أو التي يسمح بإبدائها وفق مبدأ حرية إبداء الرأي في بلد ديمقراطي تعددي. وقد شكلت هذه الازدواجية دافعًا أساسيًا للقضاء باعتباره المفسر للقانون عبر وضع معايير للفصل بين ما يعد خطاب كراهية محظور، وما يسمح به على أساس حرية تعبير.
غير أن منع أو حظر الكلام لا يمنع الشرور، بل قد يؤجّجها، ووفق هذا الاعتبار، تتناول الباحثة الأميركية نادين ستروسن في كتابها "خطاب الكراهية: بين الرقابة القانونية وحرية التعبير" (ترجمة أحمد علي ضبش، الكويت، مركز نهوض للدراسات والنشر، 2024)، العلاقة بين قوانين تجريم خطاب الكراهية، ومبادئ حرية التعبير والمساواة، مركّزة على مدى اتّساق القوانين الأميركية التي تجرّم هذا الخطاب مع الضمانات الدستورية، وخاصة التعديل الأول للدستور الأميركي، وما إذا كانت تحقق هدفها الذي يتجسد في الحدّ من التمييز والعنصرية والعنف، أم أنّها تُستخدم لقمع معارضي الأنظمة، والعاملين في وسائل الإعلام، والحركات الشبابية والطلابية، خاصة حين يكون تعريف الكراهية تأويليًّا ولا تحدّه ضوابط ومحدّدات.
منذ البداية، لا تخفي ستروسن تخوفها من أن تؤدي قوانين تجريم الكراهية بصياغاتها العامة إلى نتائج عكسية تمنح أصحاب هذه الخطابات شعورًا واهيًا بالمظلومية، وتستند إلى التعديل الأول للدستور الأميركي كمرجعية لحماية حرية التعبير، حيث تطالب بضرورة التفريق بين التحريض المباشر، الذي ترى ضرورة تجريمه، وبين خطابات الكراهية العامة التي يمكن نقاشها في أكثر من مستوى. ومنطلق ذلك ليس الدفاع عن خطاب الكراهية، إنما عن حرية التعبير، التي يمكن استخدامها لمواجهته، لا لتعزيزه في إجراءات قانونية قد يُساء استخدامها من قبل السلطات السياسية.
تنهض فرضية الكتاب على أن مواجهة خطاب الكراهية تكون أكثر فاعلية عبر أدوات غير رقابية، أهمها الخطاب المضاد. ووفقها يجري تعريف خطاب الكراهية وأشكاله المختلفة، وتبيان كيفية تأثيره على المجتمع، ويشمل ذلك التمييز العنصري، والتحريض على العنف ضد الأقليات. إضافة إلى تسليط الضوء على التحدّيات المعاصرة المرتبطة بتنظيم خطاب الكراهية في ظل حرية التعبير، والتعرض للقضية الشائكة المتمثلة في فرض القيود القانونية على خطاب الكراهية، لأن مثل هذه القيود قد تؤدي إلى التعدي على حق الأفراد في التعبير عن آرائهم بحرية. ولعل الأجدى هو حماية حرية التعبير، لا تقويضها، هي ما يتيح للمجتمعات معالجة الظواهر الإقصائية، لأن المجتمعات التي تواجه الكراهية علنًا، هي الأقدر على تفكيكها. ويدعم هذا التوجه مواقف رموز حركة الحقوق المدنية الأميركية، مثل جون لويس، وثورغود مارشال، وسواهما من الذين رأوا في حرية التعبير أداة للنضال، لا تهديدًا له.
يبدو أن خطاب الكراهية بصوره المتنوعة هو من أكثر المواضيع إثارة للجدل عند الحديث عن علاقته بحرية التعبير، وكيفية الفصل بين التعبير المشروع عن الرأي، والذي لا يجوز تقييده، والتعبير الذي ينتج عنه انتهاك حقوق الآخرين. وأفضى تصاعد موجات خطابات الكراهية في معظم دول العالم إلى نقل رسائل كراهية إلى مختلف وسائل الإعلام والتواصل، الأمر الذي استدعى إنشاء آليات وطنية ودولية للتصدي لخطابات التحريض، والوقاية من التمييز وخطاب الكراهية ومكافحتهما، حيث اُنشأت كل من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والمحكمة الأميركية لحقوق الإنسان من أجل تفسير وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان الأساسية في نطاق اختصاص كل منهما، بغية وضع معايير للفصل بين أنواع الخطاب.
تبحث المؤلفة في إشكالية تعريف خطاب الكراهية قانونيًا، وتستعرض القوانين الأميركية التي تحاربه، مع مبادئ المساواة وصون الحريات، والاستثناءات التي يجيز فيها القانون تقييد الخطاب، مثل التحريض المباشر على العنف. ثم تعرض الإشكاليات الناتجة عن عمومية الصياغات القانونية، بغية العثور على تعريفات دقيقة تتجنّب غموض القوانين. وذلك بهدف دحض الدعوى التي تقول بضرورة تبني مفهوم أوسع لخطاب الكراهية المعاقب عليه، لأنها تمثل اتجاهًا يمكن أن ينتهك مبادئ الديمقراطية، فضلًا عن أنه يضر أيضًا أكثر مما ينفع. كما تشير إلى وجود حالات قانونية في دول مثل فرنسا، وألمانيا، والدنمارك، وكندا، وكينيا، والهند، استخدم فيها خطاب الكراهية لاضطهاد الأفكار اليسارية ومعاقبة أصحابها، كما أُدين فيها أفراد بسبب تعبيرهم عن آراء دينية، أو سياسية، واستخدمت القوانين لتقييد حرية المعارضة. وعليه، تظهر الإشكالية في تشريعات خطاب الكراهية في الدول الغربية، وخاصة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية، حيث يبدو أن هذه التشريعات غالبًا ما تقيّد حرية التعبير بشكل غير مبرر، الأمر الذي يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الحقوق المدنية وحقوق الأقليات، لذلك ينبغي تبيان الأبعاد القانونية والسياسية التي تؤثر بشكل غير مباشر في قوانين خطاب الكراهية، وإيجاد حلول بديلة توازن بين حماية الأفراد من خطاب الكراهية من جهة، وضمان عدم انتهاك حرية التعبير من جهة أخرى.
يمكن اعتبار هذا الكتاب مرجعًا هامًا في مجال حقوق الإنسان والقانون الدولي العام، وفي ما يتعلق بتحليل العلاقة بين حرية التعبير ومكافحة خطاب الكراهية. ويقدم تحليلًا جريئًا لأثر الرقابة القانونية في حرية الرأي، حيث ينظر إلى حرية التعبير بوصفها حقًا أساسيًا في الديمقراطيات الحديثة، مع تأكيده على ضرورة حماية هذا الحق حتى في مواجهة الآراء المتطرفة، أو الخطابات المسيئة. إضافة إلى أنه يفتح آفاقًا جديدة لفهم التحديات القانونية التي تواجه المجتمعات الحديثة في معالجة الخطاب المسيء من دون التعدي على الحقوق الأساسية.


تحميل المقال التالي...