I
التاريخ هو معرفة الماضي، وهو بعبارة أخرى استجواب للماضي من خلال الحاضر. وما نملكه من الماضي يُقتصر على المخلفات والآثار واللُقى. وبما أنه لا توجد لدينا غير تلك البقايا، علاوة على بعض الوثائق المكتوبة أحيانًا، فإن على المؤرخ أن يعيد بناء الماضي باستنطاق المعلومات المحدودة بغية التوصل إلى معرفة الماضي معرفة غير مؤكدة. وقد استُخدمت حكايات التوراة غير التاريخية لإعادة بناء الماضي، الأمر الذي يعني أن الماضي التوراتي لا علاقة له بالتاريخ العلمي، بل هو أمر متخيّل تمامًا. وكانت الغاية من استدعاء التاريخ التوراتي القديم مساندة الرواية الصهيونية الحديثة، مع أن جميع الحكايات المسطورة في العهد القديم إنما هي تصورات خيالية للماضي، ولم يتمكن علم الآثار، بما في ذلك علم الآثار الإسرائيلي، من العثور على أي دليل يبرهن، أو حتى يقترب، أو يشير، إلى وجود مملكة يهودية موحدة (يهودا والسامرة)، أو ملوك من طراز شاوول وداود وسليمان، أو هيكل سليمان الخرافي.
الرواية التقليدية الشائعة تقول إن فلسطين هي المكان الذي جرت فيه وقائع التوراة قبل نحو ثلاثة آلاف سنة. لكن كمال الصليبي يقول إن حوادث التوراة جرت في جنوب منطقة عسير، بين الطائف واليمن. ويؤكد فاضل الربيعي أن تلك الوقائع جرت في محيط صنعاء. أما فرج الله صالح ديب فيرى أنها وقعت في اليمن، فيما يعتقد محمد منصور أنها جرت في الحجاز، وبالتحديد حول مكة. لكن خزعل الماجدي يعيد المدونات التوراتية إلى أصولها السومرية، بما في ذلك حوادث كالطوفان على سبيل المثال. وبهذا التناقض الإشكالي لا يمكن الجزم، على الإطلاق أو بصورة حاسمة وجازمة ونهائية، بجغرافية التوراة. ومهما يكن الأمر، فإن مهمة العلم، في هذه الحال، أن يسعى إلى بناء نموذج تفسيري يكون في إمكانه تفسير بعض وقائع التاريخ، ومنها الحكايات اليهودية. وفي جميع الأحوال يبقى أي استنتاج ترجيحيًا وموقتًا.
في هذا الميدان شديد الغموض والتعقيد، صدر للباحث الفلسطيني المجتهد أحمد الدبش كتاب عنوانه "تخيّل الأرض المقدسة: كيف تمت عبرنة الخريطة الفلسطينية؟" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2025، 303 صفحات). وفي هذا الكتاب يعرض المؤلف لأسطورية موسى وتاريخيته، ولأسطورة حكاية خروج العبرانيين من مصر، وما أعقب ذلك من قصص التيه في صحراء سيناء، ثم غزو أرض كنعان، وهو ما تنفيه المدونات والحفريات والآثار المنقوشة. فالمدونات المصرية لم تذكر إطلاقًا بني إسرائيل، ولم تأتِ على خروجهم الجماعي من مصر (ص 23). وركّز المؤلف، في الفصل الأول، على الحج المسيحي إلى الديار المقدسة (ص 55 – ص 153)، الذي بدأ بعد زيارة الملكة هيلانة إلى القدس في سنة 326 ميلادية. ثم يستفيض في الكلام عن الرحالة الغربيين، أمثال دانيال الراهب، وفيتلوس، ويوحنا فورزبورغ، وبنيامين التطيلي، ويعقوب بيركهارت (ص 95 ـ ص 153). ويمكننا أن نضيف إلى هؤلاء المترحلين ممن لم يذكرهم الكاتب كلاوس بولكن (صاحب كتاب "قديمًا في البلد المقدس")، والرحالة العرب والمسلمين من ابن بطوطة إلى جرجي زيدان، مرورًا بابن جبير، والمهلبي، والمقدسي، وأسامة بن منقذ، وإبن فضل الله العمري، والعبدري، ونعمان قساطلي الدمشقي، الذي عمل مع صندوق استكشاف فلسطين، علاوة على ناصر خسرو الفارسي (صاحب "سفرنامة")، وأوليا جلبي التركي (صاحب "سياحتنامة"). غير أن أولئك الرحالة، وغيرهم من العشرات من العرب وغير العرب، لم يكونوا علماء آثار أو مؤرخين، وكثير منهم كانوا لاهوتيين، أو مسّاحين، أو ضباط في الجيوش والاستخبارات (راجع الفصل الثاني). وأعمال هؤلاء وكتاباتهم لم تكن لها صلة مباشرة بعبرنة الخريطة الفلسطينية، ولا سيما أن هؤلاء جاءوا إلى فلسطين قبل ظهور الحركة الصهيونية بأشواط زمنية طويلة.
II
| |
| من المعلوم أن الفرنجة، على العموم، لم يكترثوا بالتاريخ التوراتي السابق للمسيح، وإنما اهتموا بالقبر المقدس في القدس |
يتناول المؤلف في الفصل الثالث مسألة "الكتاب المقدس والغرب"، ويدور الكلام فيه على إعادة اليهود إلى فلسطين، وعلى نداء نابليون بونابرت المزعوم إلى يهود المشرق العربي. أما الفصل الرابع فيدرس موضوع الكتاب المقدس والولايات المتحدة الأميركية. وفي هذا الحقل المعرفي، رأى الكاتب "أن معظم الرحالة الذين زاروا فلسطين في أيام الحروب الصليبية قدموا من الغرب الأوروبي، أي أنهم كانوا من أتباع الكنيسة اللاتينية. واستقى معظم هؤلاء الرحالة المعلومات والأوصاف التاريخية والجغرافية من الكتاب المقدس، وكتابات يوسابيوس القيصري، وكتابات المؤرخ اليهودي يوسيفوس" (ص 143 و144). لكن ماذا عن الرحالة غير الأوروبيين (العرب المسلمون)، الذين فلحوا فلسطين من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق في فترات زمنية متعددة، أو متباعدة؟ فمن أين استقوا معلوماتهم عن المواقع الجغرافية؟ من المعلوم أن الفرنجة، على العموم، لم يكترثوا بالتاريخ التوراتي السابق للمسيح، وإنما اهتموا بالقبر المقدس في القدس؛ فالصلب والقيامة كانا في جوهر العقيدة الكاثوليكية. وانصب اهتمام هؤلاء، منذ رحلة القديسة هيلانة إلى فلسطين، ثم إبان حروب الفرنجة (أي بعد 769 سنة) على مكان ميلاد المسيح (بيت لحم)، ورحلته مع عائلته من الناصرة إلى مصر، ثم عودته إلى القدس، حيث صُلب (راجع: عزمي بشارة، غوستاف دالمان واستعادة التاريخ الحضري لفلسطين، مقدمة موسوعة "العمل والعادات والتقاليد في فلسطين"، بيروت ـ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023). ومهما يكن الأمر، فإن الفصول الأربعة الأولى من الكتاب لم تشفِ غليل الباحث المتبحر، ولم تقدم إلا بعض المعلومات عن عبرنة الخريطة الفلسطينية (وهي غاية هذا الكتاب بحسب العنوان الفرعي المسطور على الغلاف). والحديث المتمادي عن مارتن لوثر والدعوات المختلفة لإقامة موطن لليهود في فلسطين ليس له صلة مباشرة بعبرنة الخريطة الفلسطينية، بل بالمسألة اليهودية، أي تهجير اليهود من أوروبا إلى أي مكان في العالم. وكانت فلسطين هي المكان الذي استقرت عليه مصالح الاستعمار البريطاني آنذاك. صحيح أن تهجير اليهود إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر فصاعدًا، قد أدى إلى تهويد الجزء الأكبر من البلاد الفلسطينية، ولا سيما بعد سنة 1948، غير أن عبرنة الخريطة الفلسطينية، وهي مسألة مختلفة عن المسألة اليهودية، ومتداخلة معها في الوقت نفسه، فضلًا عن عبرنة مسمياتها الطبوغرافية، كالقرى، والمدن، والتلال، والجبال، والأنهار، والأودية، والخرب، والسهول، والقلاع، والجسور، جرت في ما بعد، وليس في عصر الحجيج والرحالة.
ظلت عملية عبرنة الخريطة الفلسطينية قبل نكبة 1948 محدودة، ومقصورة على بطون الكتب وبعض الخرائط، بينما حافظت مواقع البلاد الفلسطينية على مسمياتها العربية والآرامية المعرّبة. أما عبرنة خريطة فلسطين فقد جرت بعد سنة 1948، وبعد تأليف دافيد بن غوريون "اللجنة الحكومية للأسماء" في تموز/ يوليو 1949. وفي حقل معرفي موازٍ، يُفرد الكاتب حيزًا ليس بالقليل لدراسة البيوريتان، واستعمار أميركا، وكريستوفر كولومبوس (ص 191 ـ ص 204). لكن ما علاقة ذلك كله بعبرنة الخريطة الفلسطينية، وما علاقة المورمون بهذا الشأن؟ (ص 211 ـ ص 215): فالكلام عن المهاجرين الإسبان والإيطاليين، ثم البيوريتان، له صلة بالبلاد الجديدة، لا بفلسطين. وأولئك المهاجرون اقتنصوا من التوراة (ومن العهد الجديد أيضًا) شخصيات ووقائع وأمثال وأسقطوها على البلاد "الأميركية" الجديدة، وأخذوا ما يلائمهم من العهد القديم لاستعمار القارة الأميركية لا لاستعمار فلسطين. ومن المعلوم أن أوروبا كانت، في الحقبة التي ظهر فيها كريستوفر كولومبوس، تغمرها أفكار المجيء الثاني للمسيح. وفي هذا الانغمار ظهر البيوريتان الذين آمنوا بالعهد القديم وبالعهد الجديد معًا (الكتاب المقدس)، وشرعوا في دعوة الناس إلى الإيمان المسيحي قبل أن يعود المسيح ويفنيهم. وفي هجرتهم القسرية إلى البلاد الجديدة راحوا ينهلون من نصوص العهد القديم ليماثلوا تجربتهم بتجربة اليهود القدامى، فصارت أميركا هي "كنعان الجديدة"، وصوّروا اضطهاد ملك إنكلترا جيمس الأول لهم مثل اضطهاد فرعون مصر للعبرانيين، ونسخوا قصة فرارهم من إنكلترا ليطابقوها مع فرار العبرانيين الخرافي من أرض مصر، وأطلقوا على كثير من مستوطناتهم أسماء بعض الأماكن في الأراضي المقدسة، مثل صهيون، وأورشليم، وحبرون، وبيت لحم. وصارت أوروبا لدى هؤلاء هي نفسها مصر الفرعونية. وأميركا هي أورشليم الجديدة، أو أرض الميعاد، والمهاجرون هم شعب إسرائيل الذي اختاره الله ليؤسس دولة جديدة تكون منارة للأمم (مدينة على تل). وهؤلاء البيوريتان، باستنادهم إلى الكتاب المقدس المسيحي ـ اليهودي، عبرنوا بعض الأماكن في الولايات المتحدة، لا في فلسطين. وفوق ذلك، لم ينجُ نابليون بونابرت ونداؤه المزعوم إلى اليهود من قلم المؤلف (ص 183 ـ ص 286). غير أن نداء بونابرت الذي قيل إنه أعلنه في سنة 1799 في أثناء حصار عكا هو نص مشكوك جدًا في وجوده، ولا يمكن العثور عليه في أي مصدر علمي موثوق، ولم يُعثر على النص الأصلي في أي مركز مرموق للبحوث التاريخية، ولا في محفوظات الدولة الفرنسية. وقد تبين أن هذا النداء اختراع صهيوني روّجه المؤرخ اليهودي بول جيفنسكي، الذي قال إنه قرأ في جريدة "مونيتور يونيفرسال" (22/5/1799) خبرًا من خمسة سطور جاء فيه: "أصدر بونابرت بيانًا دعا فيها جميع يهود آسيا وأفريقيا إلى الانضمام إلى صفوفه وتحت رايته لاستعادة القدس القديمة". وقد دحض المؤرخ المعروف هنري لورنس تاريخية هذا النداء الذي زُعم أنه صدر عن مقر قيادة نابليون في القدس بقوله إن نابليون لم يذهب إلى القدس قط في أثناء حملته على فلسطين. ويضيف لورنس أن أسماء الحاخامين الواردة في ذيل النداء، مثل الحاخام هارون بن ليفي، مفبركة كلها.
كيف استخلص الكُتّاب والمؤرخون من هذا النداء أن بونابرت كان يريد إنشاء دولة يهودية في فلسطين؟ إن ذلك شطط في المرامي. وللعلم، فإن بونابرت كان معاديًا لليهود، وهو الذي أصدر قرارات سنة 1806 نصّت في بعض بنودها على التمييز العنصري ضد اليهود. ثم إن بونابرت أصدر نداءات مماثلة إلى المسلمين أيضًا في مصر، وعدَّ نفسه في أحد تلك النداءات مسلمًا. وكان لا يضيره أن يقال عنه إنه مسلم، وراح يظهر بين الناس وهو يرتدي الزي الشعبي المصري (راجع: كريستوفر هيرولد، "بونابرت في مصر"، القاهرة: دار الكتاب العربي، 1962، ص 195 و274). وفي جميع الأحوال، ما علاقة نابليون بونابرت وإعلانه الموجّه إلى اليهود بعبرنة خريطة فلسطين؟ وفوق ذلك، يقول الكاتب إن أرنست رينان زار فلسطين في نيسان/ أبريل 1861 مرافقًا الحملة العسكرية الفرنسية مع نابليون، وعند عودته نشر كتابه "حياة المسيح"، وهو ما أدى إلى تأسيس أول مركز للتنقيب الأثري في فلسطين في عام 1865، ومركزه مدينة لندن، وهو الذي عُرف بـ"منظمة اكتشاف فلسطين" (ص 189). وهنا تداخلت الأمور بين نابليون بونابرت، ونابليون الثالث؛ فنابليون الأول مات في سنة 1821، أي قبل زيارة رينان بأربعين سنة. أما نابليون الثالث فقد أُسس في عهده "صندوق استكشاف فلسطين" (لا منظمة استكشاف فلسطين، والأقرب هو جمعية استكشاف فلسطين). ومع حملة نابليون الثالث، جاء أرنست رينان إلى فلسطين. والسؤال الداهم هو: ما علاقة كتاب رينان "حياة المسيح" بصندوق استكشاف فلسطين؟ لا علاقة له قط، لأن كتاب رينان الذي كان له تأثير في التنقيب الأثري في فلسطين هو "فهرس القطع الأثرية من فينيقيا" لا كتاب "حياة المسيح".
III
يتحدث أحمد الدبش كيف أن إدوارد روبنسون جعل عناتا الفلسطينية عنتوت التوراتية، من دون الاستناد إلى الآثار والنتائج العلمية للحفريات، وجعل قرية العنب الفلسطينية هي قرية يعاريم التوراتية، وقرية شويكة بالقرب من طولكرم سوكوه. وهذا كلام سليم تمامًا. لكن، ما هو مطلوب لنقض روبنسون وغيره هو إعادة ربط هذه المواقع بتاريخها المحقّق، وبالشواهد الآثارية التي من المنتظر أن تكون مخالفة للمعطيات التوراتية، وهو ما لم نجده في الكتاب، علمًا أن أسماء تلك المواقع ظلت فلسطينية خالصة حتى نكبة 1948، وحتى بعد ذلك. ولا مناص هنا، في هذا الميدان، من إعادة السؤال الجوهري: كيف تعبرنت خريطة فلسطين حقًا؟ أي كيف صارت أم الرشرش إيلات، وكيف جُعل تل المتسلم مجدّو، وكيف أُطلق على جبع تسمية غفعات يعاريم، وعلى بيتين بيت إيل، والجب جبعون، والسموع إشتموع، والجش غوش حالاف (وهي جسكالا القديمة)، والصرفند صرفت، والخليل حبرون، ونابلس شكيم، وقلعة هيرود قلعة داود.
لقد كشف ستيوارت مكاليستر في سنة 1925 أن من المحال أن يكون تل المتسلم هو مجدّو التوراتية، لأن مجدّو لم تكن مدينة، بل مجرد أكواخ بدائية، وأن اصطبلات سليمان ليست اصطبلات، ولا تعود إلى الزمن المفترض لسليمان بن داود، بل إلى السلطان سليمان القانوني. أما يوسابيوس القيصري فقد وضع معجمًا لأسماء الأماكن الواردة في الكتاب المقدس، وهو "المعجم الجغرافي" (ص35). حسنًا، كيف ننقضه؟ الحقيقة أن خريطة فلسطين لم تُعبرَنْ قبل النكبة إلا قليلًا، وظلت مواقعها تحمل أسماءها الكنعانية والآرامية والعربية حتى النكبة. وبعد ذلك صارت البعنة (بيت عنات)، وبيت نبالا (بيت نحمياه)، والجاعونة (روش بينا)، وملبّس (بيتح تكفا)، وجبل الجرمق (هار ميرون)، وأبو ديس (بحوريم)، وبير أيوب (عين روجل)، وسلوان (هاشيلوّاح)، وقالونيا (موتسا)، والخالصة (كريات شمونا)، وآبل القمح (كفار يوفال)، والنبي يوشع (راموت نفتالي)، وتربيخا (شومراه) وهونين (مرغليوت ومسغاف عام)، وصلحة (أفيفيم ويرؤون)... وهكذا.
IV
يورد المؤلف أحمد الدبش أن إبراهيم (النبي) وُلد في حرّان (ص 60)، لكن إبراهيم بحسب التوراة وُلد في أور الكلدان (أوركسيديم)، وقد مرّ مرورًا ببلدة حاران (حرّان). أما أور فيُعتقد أنها خرائب قرية "المغيّر" العراقية. وبرهنت الكشوف الآثارية أن أور وُجدت قبل العصر المفترض لأبرام (إبراهيم) بنحو ألف عام. وعندما ظهرت دولة الكلدان في سنة 612 ق. م، كان إبراهيم وسلالته قد ماتوا، هذا في حال كان إبراهيم شخصية تاريخية. وتذكر الروايات الإسلامية أن النمرود ألقى إبراهيم في النار، لكن النار تحولت بردًا وسلامًا. غير أن النمرود، بحسب المدونات الآثارية العراقية، عاش قبل إبراهيم بفترة طويلة. والحكاية كلها غير قابلة للتصديق، فهي كمن يقول إن الإسكندر المقدوني ألقى السلطان سليم العثماني في النار.
في أي حال، ثمة بعض الملاحظات العابرة على بعض صفحات الكتاب، وها أنا أذكر بعضها: يرد اسم الرحّالة ياكوب بوركهارت (ص 54)، لكن بوركهارت يتحول إلى بورشارد، وبروكارد، وبروخارد، في الصفحات 147 ـ ص 151. ويستعمل المؤلف الاسم هيبو (ص 63)، وهي بنزرت القديمة، فما ضرّه لو استخدم الاسم الحديث معها؟ ثم إنه يستعمل إزنيق، وهي كلمة تركية حديثة تدل على موقع نيقيا التي اشتُهرت أيما شهرة بعد عقد المجمع المسكوني فيها، الذي أصدر قانون الايمان المسيحي في سنة 325 ميلادية، وهذا تمحّل لا فائدة منه. وعلى هذا المنوال ترد سرديس (ص55) وهي سردينيا، وريفكا (ص58)، وهي رفقة، وليئة (ص58)، وهي لائقة. ويتحدث المؤلف عن أن الفرما في مصر هي القلزم. والقلزم، كما هو متعارف عليه، هي كاليزما القديمة، وعليها بُنيت، في ما بعد، مدينة السويس. أما الفرما، أو تل الفرما، فتبعد عن السويس 200 كم. وعلى هذا النحو، يستعمل المؤلف الاسم "أوزيب" (ص50 و51)، لكنه يستخدم، في الوقت نفسه، أوزابيوس، وأوسابيوس، ويوسابيوس، وكان من الملائم توحيد هذه الأسماء، إلا إذا كانت منقولة عن مصدر محدد.
وفي هذا السياق، تمنيت لو أن المؤلف وضع عنوانًا مختلفًا لكتابه، كأن يصبح مثلًا "مباحث في تاريخ فلسطين القديم"، أو "دراسات في الاستكشاف الأوروبي لفلسطين".


تحميل المقال التالي...