تتّخذ رواية "شوقي إلى ليلى" للأديب نشأت المصري من فاعليّة التأويل طريقًا لتفكيك عناصرها التوليفيّة بين الحكاية والفكرة، ليكون الاشتغال عليها نابعًا من القدرة على فهم اللعبة التي تحتاجها هكذا رواية. فالرواية تتفاعل بقدرة إبداعيّة على تعدّد منصّات التأويل، فهي رواية حكاية عن منابع كثيرة بين الحبّ للوطن والرومانسيّة التي تعطي عتبات مفعولها منذ العنوان.
وخصائص التأويل في أوّل وجوهه أنّه حاصل جمع القراءة والتفاعل بين فاعليّة المتلقّي وقدرته، وفاعليّة النصّ واحتوائه على المقدّرات الإبداعيّة التي تجعل من التأويل مفتاح المحصول، وتجعل من المحصول فاعلًا لإنتاج المستوى التأويلي. ورغم أنّ التأويل لا يكون واحدًا في كلّ نصّ، فكيف بتعدّد المتلقّين، فإنّ الرواية أرادت للمتلقّي أن يُمسك بأولى العلامات ما بعد العنوان، من خلال عناوين الفصول، وخاصّة الأوّل (اعترافات ليلى حاتم)، بوصفه الربط التفاعلي مع العنوان الرئيس الذي يُعَدّ البوّابة الكبيرة التي يدخل منها المتلقّي إلى مدينة النصّ.
فعنوان (شوقي إلى ليلى) لا يتوجّه إلى فاعليّة التأويل بغير الحبّ، وفعل الشوق فعل حاضر مرتبط بـ"أنا" المتكلّم، يُضاف إليه ما هو مرتبط بالذاكرة والوعي الثقافي لاسم العلم (ليلى) الذي يدلّ على الحبّ والمعاناة معًا، ووجود الصراع الذي سيكون فاعليّة ثانية للتأويل، لكنّها فاعليّة من أجل تفكيك خاصيّة الشوق. غير أنّ الرواية تأخذ من شوقي معنًى آخر يرتبط برجل واسم علم، فيتحوّل التأويل من خاصيّة معاشة إلى خاصيّة البحث عن الدليل.
ولهذا فإنّ الحبّ هو المفتاح الأوّل الذي يعلنه مفتتح الفصل الأوّل الذي يبدأ باعترافات مَن وُجِد اسمها في العنوان الرئيس: (أُحبّ الليل، وهو يُحبّني، ويمنحني أسراره، ويُهديني مراكبه الفضائيّة التي تجوب المجرّات). إنّه استهلال مناط بالقوّة التي تبدأ من الليل وهو فراش الحبّ ومساحته وزمنه. لتبدأ اللعبة التدوينيّة في المحافظة على المسافة بين ثلاث حالات: الحبّ الرومانسي، حبّ الوطن، الصراع والربط بين الحالتين.
هكذا تتجلّى فكرة الرواية في محاولة الجمع بين ثلاث حالات متوازية، الحبّ الرومانسي، وحبّ الوطن، ثمّ الصراع والربط بينهما. إنّها لعبة سرديّة تسعى إلى الكشف عن جوهر واحد يتوارى خلف التفاصيل؛ فالحبّ هو الأسّ الفاعل الذي يمنح الوجود معناه، وبدونه تغدو الحياة قاسية، تختلط فيها الدروب، ويضيع الإنسان بين المعاناة والبحث عن خلاص.
تفكيك الحكاية
الرواية في حكايتها تتحدّث عن بطلتها ليلى حاتم، تروي حياتها بطريقة "أنا المتكلّم"، تأخذ مساحة كاملة من العمر ليتبيّن أنّ ليلى ليست شابّة، ولهذا فهي تعترف لتكشف الكثير ممّا مرّ بها من آلام، وأحلام، وخيبات، وحنين. ولهذا فإنّ المستويين الإخباري والتصويري هما المهيمنان على اللعبة التدوينيّة، وهما اللذان يقودان إلى المستويين الآخرين: التحليلي والقصدي، حيث يذهب الروائي إلى جعل المتحدّثة التي تُنيب عنه في سرد الأحداث تُحلّل ما تراه مناسبًا من ذكريات فاعلة. والمستويات الأربعة تقود إلى المستويين الفاعلين، ومنها المستوى الفلسفي الذي تُبنى عليه خاصيّة السؤال، والمستوى التأويلي حيث يجتمع فيه حاصل المنتوج.
فالبطلة في اللعبة تدعو المتلقّي لمشاركتها ذكرياتها، كي يفهم من خلالها مسيرتها الشخصيّة والوجدانيّة. فهي تسرد ذكريات الحبّ، وفريد الأطرش، والأديب الإيرلندي أوسكار وايلد ومذكّراته، وجملتها القصديّة التي تربط بين مذكّرات أو ذكريات ليلى بهذا الأديب ليكون الفعل الأوّل مرتبطًا بخاصيّة التفاعل: (وإلّا لكان امتنع عن كتابة هذه الأسرار المزرية في عُرف الآخرين).
إنّ الحكاية مليئة بالتحوّلات الزمنيّة والعُمريّة والمكانيّة، بين الحبّ والزواج، والرجال المختلفين، والازدواجيّة في العلاقات التي تؤدّي إلى حزن عميق داخلي لا يخرج سرّه إلّا من خلال هذه المذكّرات. ليأتي الربط في أحداث البلد، حيث أراد الروائي أن يُوسّع الرابط بين عمر ليلى الكبير وبين مساحة الأحداث التي شهدتها مصر، ليتبيّن مفعول التأويل أنّه يمتدّ إلى أفكار أخرى تتسرّب من بين يدي الحكاية: الانتكاسة في 1967، والانكسارات، ثمّ نصر 6 تشرين الأول/ أكتوبر، ثمّ تحوّلات سياسيّة لاحقة.
لنكتشف أنّ لها ابنًا (كريم) والصراع الذي يكشف تأويل الترابط السرّي وما يحصل فيه من صراع لا يمكن البوح به إلّا في المتن الروائي. لنصل إلى مرض ألزهايمر حيث تفقد الذاكرة، وهو النقطة الفاعلة في تأويل فقدان الأمل، وفقدان الحبّ، وفقدان التواصل المريح وفق الصراعات الاجتما–سياسيّة، ممّا يجعلها لا تستطيع التواصل مع (شوقي) الحبيب الذي يكون هو المعادل الموضوعي أو الرديف لحياة ليلى؛ فيكون حضوره ما بين الكشف عن الأسرار ووجوده في حياتها، وهو صحافيّ ارتباطه قائم على كشف الأسرار والقدرة على اللعب في متون الحكاية للوصول إلى مفعول تأويل الفكرة.
فتكون معادلة الطرفين بين الحزن واليأس والمرض والصراع، وبين الحبّ والوفاء وتقاسم بعض الألم والأمل. وحتى بعد الزواج من شوقي يتّضح مفعول العنوان (شوقي إلى ليلى)، حيث السعادة لا تدوم، ليس لوجود الصراع الخارجي فحسب، بل لتدهور حالة ليلى الصحيّة والذهنيّة. ولهذا فإنّ النهاية هي نقطة التأويل الكبرى، حيث لم يكشف الروائي ماهيّة التفاعلات التي أحدثتها الحكاية ومسيرتها الوصفيّة والدلاليّة والإخباريّة، إذ تركها مفتوحة على عدد من التأويلات بين الأمل والخذلان، مع صراع الذكريات والنسيان، وبين واقع المرض والحبّ المستمرّ رغم التدهور.
اللغة وفاعليّة السرد
الرواية تعتمد بشكل كبير على السرد أكثر من الحوار، ممّا يمنح النصّ طابعًا تأمّليًّا داخليًّا. حتى إنّه جعل ثمّة هامشًا في كل فصل، حيث تتحوّل فيه العمليّة السرديّة من المتكلّم إلى الغائب في عمليّة توصيفيّة لتحضير ما غاب. ويكون صدىً موازيًا يقدّمه الراوي العليم ليكشف ويضيء زوايا لم ترها، فيخلق بذلك نصًّا متعدّد المستويات والأصوات. وهو صدىً تأويليًّا تركه للمتلقّي ليكشف عن الأسرار التي لم تتحدّث عنها الراوية، أو أنّه بتعمّد تركه ليكون نقطة نقاش.
إنّ اللغة هي مفتاح الاستمراريّة الفاعلة. فهي تتراوح بين وصفيّة وإخباريّة كما ذكرنا، لكنّها تأخذ بُعد الشاعريّة في التوصيف، وخاصّة ما يتعلّق بوصفات الحبّ. أو أنّها توصيف قصدي لربط مرحلة زمنيّة بأخرى، أو واقعة بأخرى، أو مكان مقصود:
(أعدت الملفّ إلى حقيبتي، ورجعت إلى حجرتي ومكتبي الصغير المطعَّم بالصدف، صمّمته بحجم وطراز مكتب طلعت حرب الذي شاهدته في بنك مصر حين زرته مصادفة).
إنّ اللغة بسيطة، أو ما يمكن أن يُقال عنها اللغة الثالثة الروائيّة، لكنّها مشحونة بالعواطف التي تعطي أدلّة التأويل ليمسك بها المتلقّي، فيجد فيها العمق السردي الذي يتحدّث عن كلّ هذه التفاعلات: بين الماضي والحاضر، بين الحبّ وصراعاته السلبيّة، بين الوطن والأحداث التاريخيّة، بين ما هو فاعل على المستوى الشخصي وبين ما هو مراد على المستوى المجتمعي. فيكون التأويل فاعلًا في الإحالة لا في الاستعارة والوجود.
المستوى التحليلي
القصة في الغلاف المبطن لا تحكي عن امرأة عاديّة أحبّت ومرضت وتزوّجت وفقدت. ولهذا يمكن استخلاص عدّة علامات تحليليّة تقود كلّها إلى المستوى التأويلي:
أوّلًا: ليلى بوصفها رمزًا. فهي وإن كانت امرأة عاديّة، إلّا أنّها أصبحت في الرواية وضمن الفكرة رمزًا تدور حوله كلّ خطوط الرواية الأخرى، ليس فقط في جانب الحياة البيتيّة:
(كلّنا في بعثة الحياة يا حبيبي... آه يا ليلى).
ثانيًا: ليلى بوصفها تحمل الخاصيّة التأويليّة. حين يتمّ إخراجها من الرمزيّة العائليّة والحبّ إلى الرمزيّة الوطنيّة، حيث يرافقها الخذلان أيضًا حين تمرّ الأحداث أمامها:
(لم يمسح بزوغ كريم في حياتي أحزان هذا العام، عام الفقد، وبعد انطلاق أبي إلى الجنّة بالشهور، أقبل الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967).
بمعنى أنّ التأويل يجعل من حكايتها الشخصيّة استعارة كبرى للواقع المصري.
ثالثًا: شوقي بوصفه حالة اجتماعيّة من جهة، ومعادلًا رمزيًّا للحبّ المتأخّر. فهو الذي منح ليلى الأمل والحبّ، وهو من الناحية الظاهراتيّة السبيل المؤدّي إلى الخلاص أو إلى حالة الخلاص المرجوّة. وهو بالتالي يكون من الناحية التأويليّة للفكرة البديل عن الماضي الضائع؛ أي محاولة لإعادة صياغة الذات بعد الانكسار. لكنّ الزمن والمرض (ألزهايمر) يقفان ضدّ اكتمال هذه التجربة.
رابعًا: معالجة الحكاية من خلال استخدام فاعليّة ألزهايمر كنوع من التقنية. لتحويل الشخصيّات، خاصّة النظرة لشوقي، من كونه عاشقًا إلى استعارة للبحث عن معنى في العمر المتأخّر. فيكون ألزهايمر من الناحية السرديّة اضطرابًا ذاكراتيًّا، يؤدّي إلى صراع الأزمنة بكلّ ما احتوته من فعاليّات. وكتقنية سرديّة وتأويليّة يمكن أن يُقرأ ألزهايمر كرمز لانمحاء التاريخ أو تزييفه؛ فالأمّة التي تُصاب بفقدان الذاكرة تفقد توازنها وقدرتها على التعلّم من الماضي. فيصبح المرض ليس عارضًا شخصيًّا بل مجازًا عن نسيان الأمّة لخيباتها وانتصاراتها معًا.
خامسًا: الهامش بوصفه صوتًا إضافيًّا. وهي لعبة تقنيّة تدوينيّة ليجعل رأي الراوي التابع لشخصيّة الروائي أكثر منه إلى شخصيّة الراوي في الرواية. وهو من الناحية التأويليّة يكون كصوتٍ موازٍ، من أجل منح المتلقّي قدرة على الإمساك بما لم يمسكه من خلال صوت الراوي. فيكون الهامش مساعدًا ليس على الكشف عن السريّات بل ليكون لتأويل مفتوحًا أمام تعدّده.
سادسًا: التقاطع بين الشخصي والوطني. وهي فاعليّة بوصفها الالتحاق بالجانب الثاني من معادلة الاجتما–سياسي. وهي فاعليّة تندمج بين يوميّات ليلى وبين المحطّات المتنوّعة في تاريخ مصر، وهو تأويليًّا اقتناص جزء من هذا التاريخ وتبويبه سرديًّا.
سابعًا: النهاية المفتوحة. التي هي علامة السرد ولعبته والتدوين وقدرته على احتواء الحكاية والفكرة. وكلّ ما حصل يمكن إلحاقه بالنهاية المفتوحة للحكاية التي تكون واقعة تداخليًّا، وكأنّها –أي الرواية بكلّ تفاصيلها– بلا نهاية حاسمة، بل بتداخل بين النسيان والحبّ والأمل المعلّق. بمعنى أنّ التأويل يكون قدرة المتلقّي على جعله تراجيديا هزيمة كاملة للذاكرة والحبّ، أو نهاية مفتوحة على الرجاء باعتبار الحبّ أقوى من الفناء. أو أنّ شخصيّات الرواية حملت هي بذاتها أبعادًا رمزيّة تتجاوز ظاهرها. مثلما قد يكون التأويل قد ربط المركز بالهامش، باعتبار أنّ تنازع الأحداث احتاج إلى هوامش فصلًا عن شخصيّات مساعدة من أجل الوصول إلى البعد الدلالي.


تحميل المقال التالي...