}
عروض

رضوضُ الهويّة: الذات تسخرُ من مِحنتها

فدوى العبود

2 نوفمبر 2025



كتب جان فرانسوا ماركيه مرة: "إذا حاولت أن أتطلع في ذاتي، معرضًا نفسي للخطر، لا أعثر إلا على ليل وضباب وهاوية، كما لو أن ضمير المتكلم انفجر إلى أقنعة كثيرة لا قوام لها"، وخلف هذه السطور يتخفى السؤال عن الهوية؟ فهل هي الثبات كما ارتأى بارمنيدس، أم التغير والتبدل عند هيراقليطس؟
بعبارته الأشهر "اعرف نفسك بنفسك"، تحولت عند سقراط من معنى ميتافيزيقي إلى البحث في الذات، ما دعا ديكارت إلى اختزالها في الفكر: "لم أعرف شيئًا يخصّ ماهيتي إلا إنني شيء يفكر". لا، بل أنا كائن يشعر، يقول حسن حنفي، "وهي على الرغم من أنها موضوع ميتافيزيقي فإنها مشكلة نفسية وتجربة شعورية"، إنها تسبق الوجود "يقول المثالي"، الوجود يسبق الهوية "يجيب الوجودي"، إذ يأتي الإنسان ثم يختار ويحدد وجوده. تاليًا، سيدفع الشك بها سيمون دي بوفوار لتكتب: "المرأة لا تولد امرأة، بل المجتمع يعاملها كذلك".
ما هويتك؟ هذا سؤال الحرب، حينها تصبح الهويات قاتلة. "إن نظرتنا هي التي تحتجز الآخرين في انتماءاتهم الأضيق، ونظرتنا هي القادرة على تحريرهم"، يكتب أمين معلوف. أعطني هويتك، يقول رجل أمن على الحاجز. من وين أنت؟ يقول سوريّ لآخر. من أنا؟ يقول اللاجئ في المهجر والشتات، إذ يصبح السؤال في الغربة امتحانًا للقيم التي شكلت وجودها. وفوق الأرض الغريبة ستقف الذات عارية إلا من الشكوك، فيصبح التاريخ واللغة والمكان الأول والجديد: "موضع نظر".
هذه وغيرها من الأسئلة سيطالعها القارئ للتجربة القصصية للقاص والكاتب السوريّ موسى رحوم عباس، إذ تدور مجموعتاه القصصيتان "العبور إلى مدين" و"هداليش" حول هذا السؤال، ولكن عبر اللغة المباشرة تارة، ومن خلال الرمز والاستعارة تارة أخرى.
في "العبور إلى مدين"، وعلى امتداد قصص المجموعة "أبواب موصدة"، "الأعور"، "الرقص بساق واحدة"، "المتسلل" وغيرها، تواجه الشخصيات العالم عزلاء، إذ إن أسئلة الهوية تتفاقم لحظة انتقالها المكاني، وتتحول إلى سؤال يطاول صلب وجودها.
من أنا؟ ومن ذاك الذي تركته ورائي؟ ما هذا المكان، وكيف للمكان الذي شكلني أن يعيد ألفته معي؟ ثم كيف تبدو الأشياء على ضفة الوجود الأخرى مألوفة لي، لتتسرب قناعاته كما يتسرب الماء من راحة اليد؟ فلا أحد يبقى ذاته لحظة اللجوء، وبمجرد أن نضع أقدامنا على الشاطئ الغريب نفقد شيئًا، فلا أحد يصل كاملًا.
لقد ألقيت القناعات مع الحقائب في البحر، أو ضاعت في طريق البر بين أعشاب الغابات، كحمولة زائدة رُميت على الطريق، ليجد السارد نفسه عاريًا من كل ما شكله وكوّن ذاته، وللتحايل على هذا الواقع تسخر الذات من هذه القناعات.

تغلب على المجموعة اللغة الواقعية والتلقائية التي تعكس نزق لحظة الكتابة ومراراتها، وفي قصة "تاريخ رملي لبطل" تصبح أي محاولة للبطولة محكومة بالإخفاق. وفي "غوغول السوريّ" يتسلم سعيد بيرم جثة أخيه في كيس صغير، يحمله أينما ذهب، فداخل معطف كل إنسان سوريّ جثة بشكل وبآخر، هي ما تبقى من قريب أو عزيز، وحين يعبر سعيد بيرم الحدود يضطر للتخلي عنه، إذ لا يمكننا أن نمضي الطريق كله رفقة جثة.
"بيبوري" بلدة وادعة في الريف الإنكليزي على نهر كولون، بهذه المقدمة يبدأ السارد قصته "قديسون ولصوص"، إذ يزور قبر شخص دُفن في كنيسة كقديس، ثم يجد شاهدة تحمل اسمه في مقبرة للصوص. إنه بطل في حكاية الكاهن ومارق في سردية أخرى، فمن أين يأتي الحكم القيمي، وكيف له أن يرسم مصائرنا، وهو بهذه الهشاشة والضعف واللامنطقية؟ إنها البلبلة البشرية وعدم اليقين الذي يغلف مصائرنا.
وفي القصة التي حملت اسم "العبور إلى مدين" يحكي السارد تجربة هروبه ونقله في شاحنة للخراف، ليشرب من المياه التي تشربها، لينازعها على العلف: "وبينما كان العشب اليابس والشعير ينثر أمام الخراف والماعز الجائع، أخذت مكاني بينها، فالتهمت كل الشعير الذي استطعت الوصول إليه".




لكن السؤال حول الذات والقيمة والعالم في "العبور إلى مدين" يصبح أكثر حدة في مجموعة "هداليش" التي تتخفف من وطأة الواقع عبر الاستعارة، مؤثرة عدم التحديق في وجهه مباشرة. وهنا ينحو فضاء النصوص من لغة وحدث وشخصيات ليصبح أكثر رمزية وميلًا للتشكيك والسخرية، بخلاف روح الفقد التي وسمت "العبور إلى مدين"، إذ تصبح السخرية في "هداليش" علنية من الذات ومن الأنا والتاريخ، كما في قصص "عندما يكون الوقت حقلًا من الخشخاش"، "أضرار جانبية"، "الرجل ذو الشعر الرمادي"، "صراة عجاج". فبين مكان حاضر في الذاكرة وآخر يعيشه السارد في بلاد اللجوء، يتوه الطفل، ورغم أنه لم يتغير فهو يتابع الركض أمام السياط التي ألهبت ظهره في بلاده هاربًا من المُخْبِر الذي يتبعه، حدّ أنه يخاف ظلّه: "كنت أظن أن ظلي مُخْبِر، وإلا لماذا يرافقني أنّى توجهت؟ عندما أراه طويلًا، طويلًا، أنكمش رعبًا، وأحيانًا يكون ضئيلًا، فأشفق عليه".
تتأرجح الشخصيات بين الحنين الساخر واللامبالاة المستسلمة، وبين النكران، لتتساءل عن قيمة الإنسان. كما أن علاقتها بالمكان مرتبكة ومشوشة، تدرك أن موت إنسان في الحرب مجرد ضرر جانبي لا قيمة له، والنبرة الساخرة هي إعلان لموقفها.
يضع المؤلف عدسة الكاميرا في مكان خاص جدًا، فيختار لحظة غير شديدة الغرابة ويصعب استيعابها. وفي إحدى القصص، وعقب نهب الجيش للبيوت، تاركًا الأرضية مبقعة بالدم، ينشغل صاحب المنزل بقصاصة سقطت من أحد الجنود، وهو على ما يبدو مريض ويحتاج علاجًا، والسارد الذي نُهب بيته يتساءل: هل سيعيش هذا الجندي أم سيموت في الطريق، فالوصفة تكشف عن تأزم حالته؟
لا يغيب سؤال الهوية ورضوضها عن أغلب النصوص، منذ لحظة تحوّل السارد إلى خروف صغير يشارك الخراف العلف، وحتى وصوله عابرًا البحر، إذ يسخر المؤلف من صورته في المرآة، من تشظي هذه الصورة في المنافي، من شخصية عاشها في البلاد، وجواز سفره القديم، ومن جواز السفر الجديد والحياة المستعارة.
وتعيد قصة "مسيرة البغال" سؤال التاريخ المصبوغ بالدم والقيمة التي تجعل اللص في طرف من ضفة النهر قديسًا على الضفة الأخرى. بين مقبرة الصديق ومقبرة الخصم، بين أغنية وأغنية، وبين الذاكرة والنسيان، بين المنتصر والمهزوم يتبدّد كل يقين. وفي قصة "عائدون"، وحين يقرر السارد الكهل العودة إلى بلده، وحال نزوله من الطائرة يخضع للتحقيق:
  • إي حكيم! أخبرنا ما الذي جاء بك بعد كل تلك السنوات؟
  • وما الغريب يا بُنيّ؟
  • لست ابنك، أنا المحقق!
  • آسف، عدت إلى بلادي.
  • ما سبب العودة؟
  • لا أحتاج لأسباب، وإذا كنتَ مُصرًّا على ذكر الأسباب، فأنا رجعت لأموتَ وأُدفن في تراب أرضي.

"دوّت ضحكة في أرجاء المكتب: يعني أن بلادنا لا تصلح للحياة، بل هي صالحة للموت وحسب! حسنًا، سنسميها جمهورية المرحوم محسن الخليف، هل أنت سعيد الآن؟"...

تصبح الكتابة في هذه التجربة نزقًا، وفي الوقت ذاته ركضًا وهروبًا، إذ تشبه الكتابة أحيانًا إيقاع حياة من يكتبها. فمن عاش حياته خلف طاولة لا شك ستكون كلماته أكثر ثباتًا في سيرها فوق السطور، ومن عاش مشردًا ستتغطى كلماته بالثلج والبرد. ولأن الكوخ يُصنع من أشجار الغابة، فإن كلماتنا تُصنع من طريقة حياتنا.

تركض الكلمات في تجربة موسى رحوم عباس متلاحقة، وكأنها مطاردة، جملة تلو أخرى ومفردة تلي مفردة: "أنظر إلى أصابعي تقطر دمًا، أتلفت حولي، الحشود قد هدأت تمامًا، العِظَة ابتدأت، ورائحة البخور تعبق في الممرات شبه المظلمة، صوت الواعظ يتهدّج ولا يستقر على حال، يضعف حتى تكاد لا تسمعه، يصرخ حتى تمتلئ منه رعبًا، الدم ما يزال يشخُب من بين أصابعي، ابتسامة الرجل الرخامي ما تزال هي الأخرى غير مكتملة، اقتربت منه أكثر، كأنني سمعته يسألني: من أخبركم أنني قديس؟ من وصفني بالبطل القومي؟".
الجنون، القداسة، الذات، والآخر، القيمة، المكان الأول، والمكان الجديد. بهذه الكلمات يمكن تلخيص الرؤية النهائية لعوالم الكاتب موسى رحوم عباس. أما العالم فهو مسرحية هزلية، وفي "عودة عطيل" يلتبس على الطفل أن يميّز بين الواقع والمسرحية، فيهجم على الممثلين الذين يخذلون أخاه الذي يؤدي دور عطيل، ليخبره الأخ لاحقًا: "اسمعْ ياخُويَهْ، هذه الحياة كلها مسرح كبير، كبير جدًا، أكبر من نهر الفرات، ولكلٍ منا دور يؤديه، هذا ناسك، وذاك داعر، هذا وطني، وذاك خائن، لكن كل هذه أدوار نؤديها على مسرح الحياة".
"سألته: هل هؤلاء الذين يقفزون على الرصيف من ساحة النعيم إلى بوابة المركز الثقافي الذي خرجنا منه كلهم ممثلون؟ ضحك، وقال: نوعًا ما، في النهار يمثلون دور الموظف المخلص أمام المدير، الفاسد أمام المراجعين، وفي المساء دور الأب، وفي الليل دور الواعظ أمام أبنائهم، وربما دور لاعب القمار في آخره! لم أقتنع كثيرًا، ولكنه أخي الكبير الذي لا يكذب ولا يخطئ". بعدها سيضيّع الطفل الحدود بين الحقيقة ونقيضها، بين الواقع والمسرحية، إذ لا يصدق موت الأخ بعد سنوات ويتابع النظر إلى هذا الموت أنه تمثيلية.

*كاتبة سورية.

إحالات:

  • جان فرانسوا ماركيه: مرايا الهوية: الأدب المسكون بالفلسفة.
  • موسى رحوم عباس، العبور إلى مدين، عمّان، دار فضاءات، 2020.
  • موسى رحوم عباس، هداليش وقصص أخرى، عمّان، دار فضاءات، 2022.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.