"الله يجازيك يا صنع الله يا ابن الكلب يا مجنون
خلاص مش قالوا فضوها لا عاد عنتر ولا شمشون
تقوم انت اللي تعملها وتحرق ورقة المأذون
أديك نيلتها بنيله وضربت يجي ألف زبون
زباين جايزة الدولة يا صنع الله أُمم أبابيل
تاريخ في الرقص ع السلم وهز البطن والشخاليل"...
بأبيات أحمد فؤاد نجم هذه، التي كتبها تحية إلى صنع الله إبراهيم وقت رفضه المدوي والتاريخي لجائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية، اختُتم كتاب "صنع الله إبراهيم في مرايا محبيه"، الذي صدر بغلاف بديع للفنان أحمد اللباد، تزامنًا مع حفل تأبينه في قاعة محمد حسنين هيكل بنقابة الصحافيين قبل أيام، في أمسية شهدت مشاركة كبيرة لمتحدثين من الأدباء والمثقفين المصريين والعرب، فضلًا عن مستعربين ومترجمين، وحضور قلما اجتمع في حدث ثقافي من مختلف الأجيال في الحياة الأدبية المصرية.
المتحدثون هم: الشاعر والصحافي يحيى وجدي، الذي أشرف مع أسرة صنع الله على تنظيم اليوم، وقال كلمة تقديمية قبل أن ينتقل الحديث للدكتور محمد أبو الغار الذي أدار حفل التأبين، ومن أسرة صنع الله تحدثت ابنته نادية الجندي في كلمة كانت الأكثر تأثيرًا، ذلك أن حالتها معه هي الأقرب إنسانيًا، ودليل حي على كيف كانت طبيعة شخصيته متسقة تمامًا مع أفكار أفنى حياته في تصديرها عبر مواقف لا تحصى، حيث وجدت فيه نادية، التي هي على الأوراق الرسمية ابنة زوجته، أبًا مثاليًا مؤمنًا وفر لها ما يحتاجه الإنسان من مناخ كي يكبر حرًا. تحدث أيضًا زوجها عادل عوض عن علاقته بالعالم الشخصي لصنع الله إبراهيم، ثم توالت الكلمات: زين العابدين فؤاد، الذي ألقى قصيدة مهداة لصنع الله، ومي التلمساني، وسعد القرش، وحمزة قناوي، وعلي علاء، وإيهاب فايق، وعلي الفارسي، وداليا أصلان، وماجدة رفاعة، ونائل الطوخي. ومن المثقفين العرب، محمد برادة، وانتشال التميمي، ومن المترجمين والمستعربين إليوت كولا، ولوث غارثيا.
الكلمات تشترك في ما بينها بمشاعر فقد صديق كبير وأخ روحي وأستاذ ترك لدى كل من اقترب منه مساحة إنسانية على أرضية حب الكتابة وقيم الحياة الإنسانية العادلة، غير أن أكثر فقرات الأمسية جمالًا كانت بضعة لقاءات مصورة لصنع الله سجلتها معه ابنته نادية، يحكي عن ذكرياته في مراحل مختلفة لحياته، من المعتقل مرورًا بتنقله بين عدد من البلدان التي عاش فيها، وكواليس بدء كتابته لعدد من أعماله الروائية، وذكريات رحلته مع صديقيه كمال القلش، ورؤوف مسعد، ورحلتهما إلى أسوان للعمل على رواية تسجيلية عن السد العالي، ستؤول إلى كتاب مشترك بعنوان "إنسان السد العالي"، بينما كان أكثر هذه التسجيلات تأثيرًا، تسجيل نادر ربما يُعرض للمرة الأولى لكلمة صنع الله يوم رفض جائزة مؤتمر الرواية بين أكثر من مائتي كاتب عربي، وفيما قرأ أغلبنا كلمته تلك مرات ومرات حتى أن بعضنا يحفظ مقاطع منها، وفر لنا ذلك التسجيل رؤيته يلقيها. وكما ارتجت القاعة يومها بالتصفيق مرتين، مرة حين أُعلن فوزه، ومرة حين أعلن رفضه الجائزة، ارتجت قاعة نقابة الصحافيين للمرة الثالثة بعدما ألقاها في الفيديو.
وكتاب "صنع الله إبراهيم في مرايا محبيه"، كان طرح فكرته الكيميائي والمثقف المعروف فكري أندراوس، أوائل العام الحالي، وقت مر صنع الله بوعكة صحية، قبل أن يبدأ بالتعاون مع الكاتب والناقد حمزة قناوي في التواصل مع عدد من أصدقاء ومحبي صنع الله للمشاركة في الكتاب أملًا أن يصدر احتفالًا بذكرى ميلاده، إلا أن القدر كانت له خطة أخرى.
ويضم كتاب صنع الله إبراهيم في مرايا محبيه شهادات ومقالات لكل من: نادية الجندي، يارا عادل، عادل عوض، محمد أبو الغار، حمزة قناوي، ريشار جكمون، فكري أندراوس، رؤوف مسعد، ربيعة جلطي، محمد ملص، محمد برادة، سعد القرش، فكري حسن، محمد توفيق، مراد منير، صدوق نور الدين، ليانة بدر، حسام فخر، محمود الشاذلي، سمية عزام، حسام أبو العلا، سامية محرز، سمير نصر، عادل الغرباوي، نهى رضوان، إضافة إلى حوار صحافي مؤثر مع أسرته في المنزل، ممثلة بالسيدة أم إبراهيم، مختتمًا بقصيدة أحمد فؤاد نجم.
قبل بدء الأمسية، داعب الأصدقاء بعضهم بعضًا حول أن صنع الله لم يكن يحب القاعات والمحافل الرسمية، وأنه لو كان موجودًا في ليلة للاحتفاء به لفضّل مجالسة أصدقائه ومحبيه خارج القاعة بحميمية. صحيح أن المشهد قد لا يناسب طبيعته، غير أن لرمزيته معنًى مهمًا، ليس لصنع الله الذي ترك ما يحفظ قيمته على جميع المستويات، لكنه مهم للحياة الثقافية المصرية، يضيف إلى مساحتها بعدًا رمزيًا كبيرًا، حيث الاحتفاء العلني برجل هو أبرز أدباء الرفض المعاصرين، ارتبط اسمه بالوقوف على الجهة المقابلة لكل ما هو سلطوي، ليس على المستوى السياسي فقط، ولكن كل ما يعني التسلط في جميع أشكاله، منتصرًا للمساواة والعدالة وحق كل إنسان في حياة حرة. أن يُحتفى به في أهم قاعات نقابة الصحافيين المصريين في قلب القاهرة، مؤكد أنه مكسب لمساحة الحياة الثقافية بشكل أو بآخر، خصوصًا أن هذا يحدث بعد أسابيع من المشهد الأخير في حياة الرجل، واهتمام الدولة المصرية ممثلة في أعلى مستويات قيادتها بأمر مرضه وصولًا لمشاركة الدولة في مراسم جنازته ممثلة في وزير الثقافة د. أحمد هنو. مشهد ختامي يعد غريبًا على مشوار حياته، لكن فيه من الرمزية ما يقول: "أحيانًا، لا يوجد مفر من الاعتراف بالقيمة".
نعم، لم يكن صنع الله ليهتم بشكليات الأحداث، لكننا نهتم، ليس احتفاء به فقط، ولكن احتفاء بأنفسنا كجماعة ثقافية وقوفًا وراء حالته نتكئ على مُجمل صورتها، وربما أن هذا بالضبط ما يليق به وما يحبه لنفسه.


تحميل المقال التالي...