}
عروض

"ميثوبيديا": حين خرج العلم من رحم الأسطورة

سناء عبد العزيز

4 نوفمبر 2025


من أين انبثقت الأسطورة؟ ربما من ارتجاف الإنسان أمام وميض البرق، أو من رغبته في كشف سرّ هزيم الرعد، أو من كليهما معًا. إنها استجابة فطرية لمجهول الطبيعة والكون منذ فجر الوعي، وأول وسيلة امتلكها الإنسان لمجابهة الرعب. فحين عجزت مداركه عن تفسير الظواهر الطبيعية، تولّى الخيال الجمعي تسهيل المهمة، بتحويل مشاعر الغموض والخوف إلى قصّة مفهومة.
في هذا السياق، يأتي كتاب "ميثوبيديا: الأساطير القديمة المنبثقة من عجائب وكوارث العالم الطبيعي" الصادر حديثًا عن مطبعة جامعة برينستون لعالمة الفولكلور والمؤرخة الأميركية أدريان مايور، بوصفه رحلةً في ذاكرة الأرض، حيث تختزن الأسطورة بذور المعرفة، وتتحوّل الجغرافيا إلى سجلٍّ يؤرّخ للعالم. فمن المدن الغارقة إلى الجبال الملعونة، ومن البحيرات القاتلة إلى الأحجار الغنّاءة، تستكشف مايور أثر الأسطورة في تشكيل وعينا بالطبيعة، مُظهِرةً كيف يمكن للحكاية أن تكون وثيقة بشرية وعلمية في آنٍ واحد.

حكايات لا تُمحى

لم تكن الأسطورة مجرد خرافة لتزجية الوقت، حتى في الأزمنة الغابرة، ولكن مع صعود العقلانية، أُقصيت هذه الحكايات إلى الهامش، وصار يُنظر إليها بوصفها أثرًا من طفولة الوعي، قبل أن تعود العلوم الحديثة لتكتشف في طيّاتها بقايا معرفةٍ جيولوجيةٍ مدهشة. وتُعدّ أدريان مايور واحدة من أبرز الباحثات المعاصرات في تقاطع الأسطورة مع العلم والتاريخ الطبيعي، أسّست لنفسها موقعًا فريدًا في الدراسات الحديثة بفضل ريادتها لما يُعرف اليوم بـ"الجيوميثولوجيا" (Geomythology)؛ العلم الذي يدرس كيفية انبثاق الأساطير من الظواهر الجيولوجية والكوارث الطبيعية.
فبدلًا من أن تُعامَل الحكايات الشعبية على أنها مجرد أوهام أو رموز غامضة، ينظر إليها هذا العلم كنوعٍ من "الذاكرة الأرضية" التي تختزن في طياتها إشاراتٍ دقيقة إلى أحداث كبرى. في مؤلفاتها السابقة، مثل "أول صائدي الحفريات" (The First Fossil Hunters)، و"أساطير الحفريات لدى الأميركيين الأوائل" (Fossil Legends of the First Americans)، و"النار الإغريقية والسهام المسمومة وقنابل العقارب" (Greek Fire, Poison Arrows & Scorpion Bombs)، طوّرت مايور مقاربةً تجمع بين التحقيق العلمي والرواية الثقافية، مما جعلها صوتًا مميزًا في ربط الخيال الشعبي بالذاكرة البيئية للكوكب.
ويرتبط اهتمامها بهذا الحقل بفضولٍ قديم تجاه بقايا المخلوقات المتحجرة التي انقرضت منذ أزمنةٍ سحيقة، لكنها كانت حاضرةً للعيان في العصور الكلاسيكية، حين لم يكن هناك علمٌ يفسّرها، فاحتضنها الخيال في هيئة عمالقة وتنانين ووحوشٍ أسطورية. تقول في هذا الصدد:
"وجدتُ أن القصص التي رواها الناس عن العمالقة والوحوش تحمل في طياتها رؤى مدهشة حول أشكال الحياة القديمة والانقراضات والزمن السحيق. ومن المثير أن نرى اليوم دراسات تُجرى في الصين والهند وأفريقيا وأميركا الجنوبية وأستراليا تتناول الاكتشافات الأحفورية وتفسيراتها قبل داروين، أي في العصور التي لم يكن فيها العلم قد صاغ بعدُ نظرياته الحديثة عن التطور".
ولعل علم الجيوميثولوجيا، رغم حداثته النسبيّة، من تلك العلوم التي تثير سلسلةً من الأسئلة المدهشة: إلى أي مدى يمكن أن تمتد الذاكرة الثقافية في عمق الزمن؟ وكم من الوقت تستطيع الأساطير الجيولوجية أن تحتفظ بقوتها ومعناها؟ وإلى متى يمكن للتقاليد الشفوية أن تصمد أمام النسيان؟
تقول مايور إن الإجابات عن هذه الأسئلة، المرتبطة بما تسميه "طول عمر الشفاهة"، تتّسع يومًا بعد يوم مع تراكم الأدلة الميدانية وتحليلها في شتّى أنحاء العالم، لتكشف أن الذاكرة الشفوية البشرية قد تمتد آلاف السنين، محتفظةً بصيغٍ رمزيةٍ مكثّفة بما عجزت الكتابة نفسها عن نقله أو تخليده.

في البدء كان الخوف

يقع كتاب "ميثوبيديا" في نحو 216 صفحة، مزدانًا برسومٍ مدهشة للفنانة ميشيل أنجل (Michele Angel). وقد صُمم على هيئة موسوعةٍ مصغّرة أو خزانة أساطيرٍ مصوّرة، تُنظَّم محتوياتها وفق الترتيب الأبجدي (A–Z)، بحيث يقدّم كل مدخلٍ أسطورةً واحدة أو موقعًا طبيعيًا ارتبط بحدثٍ غامضٍ أو بكارثةٍ بيئيةٍ تحوّلت إلى حكايةٍ خالدة. ويفتتح بمقدمةٍ تمهيدية تمثل الأساس النظري للعمل، وفيها توضّح مايور أن الأساطير لم تكن يومًا خرافاتٍ ساذجةً صدرت عن عقولٍ بدائية، بل محاولاتٍ أولى لفهم الطبيعة وتفسير اضطراباتها الكبرى. فمنذ أن امتلك الإنسان اللغة، بدأ يصوغ القصص لتأويل ما يعجز عن تفسيره علميًا: الزلازل، والانفجارات البركانية، والفيضانات، والتقلبات المناخية المفاجئة، وحتى سقوط النيازك.
ترى مايور أن النزعة إلى تفسير الظواهر المحيّرة في الطبيعة، والرغبة في فهم الأحداث الكونية الهائلة التي تتجاوز التصوّر، هما سمتان إنسانيتان خالدتان. كما أن الذاكرة الثقافية، بخلاف السجلات المكتوبة، تمتلك قدرةً استثنائية على حفظ الحدث في صورةٍ شعريةٍ قابلةٍ للبقاء، لتصبح وسيلةً فريدة لتمرير المعرفة العلمية عبر الخيال الجمعي.
في فصلٍ بعنوان "الجبال الملعونة"، تستعرض سلسلةً من الأساطير التي تدور حول جبالٍ مسحورةٍ تثير الرعب والدهشة منذ القدم، لأنها "تبتلع المارة" أو "تُصدر أنينًا غامضًا" أو "تتصاعد منها ألسنة الدخان والنار". تُعدّ هذه الجبال آخر معاقل البرية الأوروبية، إذ لم تُستكشف بالكامل حتى اليوم لوعورتها وغموضها. فقد عاشت في وديانها جماعاتٌ بشرية منذ العصر الحجري، فيما تمتد جذور بعض القرى الصغيرة فيها إلى العصور الوسطى. في الأزمنة القديمة، كانت ملجأ للعُصاة وقطاع الطرق، وفي العصور الحديثة مسرحًا لثاراتٍ عشائريةٍ دامية. وصفها الرحّالة الأوائل بأنها منطقة ذات سحرٍ غريب، تجمع بين الجلال والرهبة، حيث القرى الحجرية كأنها خارجةٌ من أسطورة، تحيط بها قممٌ شاهقةٌ محاطة بالغيم والعزلة.

أطلقت بحيرة نيوس سحبًا كثيفة من ثاني أكسيد الكربون قتلت أكثر من 1700 شخص في دقائق  (Getty)


تروي إحدى الأساطير أن الشيطان فرّ من الجحيم فشكّل، في يومٍ واحدٍ فقط، تلك القمم المسنّنة الحادة بعملٍ من أعمال الخراب الإلهي. وفي التراث الصربي– الكرواتي، يُقال إن ثلاثة إخوة خرجوا إلى الجبال للصيد بعد وفاة أبيهم، فالتقوا جنيةً فاتنة أسرتهم بجمالها، فتحوّل حبهم لها إلى صراعٍ دموي انتهى بموتهم جميعًا. حين عثرت أمهم على جثثهم ودفنتهم، ظهرت الجنية نادمةً تشرح ما حدث، لكن الأم، وقد أعياها الحزن، لعنتها، فارتدّ صدى نحيبها بين القمم، ليُخلّد الاسم الذي سيلازم تلك الجبال إلى الأبد: الجبال الملعونة.
على ضوء الجيوميثولوجيا، تعيد مايور قراءة هذه الحكايات؛ فحين تقول الأساطير إن "الجبال تشتعل" أو "الأرض تصرخ"، فإنها في جوهرها لا تصف خيالًا صرفًا، بل توثّق بكلماتٍ شعرية براكينَ حقيقية، وانبعاثاتٍ غازية، وانهياراتٍ أرضية غيّرت وجه الطبيعة، وخلّدتها الذاكرة في شكل أسطورة.

الجبال الغاضبة والأحجار المغرّدة

تُلفت مايور إلى أن هذه الحكايات تمتد عبر القارات، مكرّرةً الصور نفسها في ثقافاتٍ عديدة: من الأناضول إلى الألب، ومن خراسان القديمة إلى الإنديز، حيث يظهر الجبل في المخيال الشعبي ككائنٍ حيٍّ يتنفّس ويغضب ويعاقب البشر على تجاوزهم لحدود الطبيعة. وكأنّ الإنسان في كل مكان واجه الجبل بالطريقة نفسها. ولعلّنا نجد صدى واضحًا لفكرة الجبال الملعونة أو "الجبال الغاضبة" ممتدًا من الموروث الجاهلي إلى القصص الشعبي الإسلامي، مرورًا بالحكايات الجغرافية في كتب التراث. فجبل النار في الحجاز مثلًا، وجبل قاف الذي يُقال إنه يطوّق الأرض، وجبل الدخان في اليمن أو تبوك، كلّها تعبّر عن تلك الرؤية الكونية للجبل بوصفه كائنًا ذا إرادةٍ مهيبة، يختزن الغضب والعقاب كما يختزن المعادن والنار.
وإذا ما أعدنا قراءتها من منظور الجيوميثولوجيا، كما تفعل مايور، فسندرك أن تلك الجبال التي "تنفث النار" أو "تُصدر أصواتًا مريعة" ربما كانت بالفعل براكين خامدة أو نشطة في الماضي، وأن الأسطورة ما هي إلا ذاكرة بيئية احتفظت بها المجتمعات القديمة لتحذير أبنائها من الاقتراب من مناطق الخطر.
بل إن بعض النصوص العربية القديمة، كما عند ياقوت الحموي والمسعودي، تشير إلى أراضٍ "تتفجّر منها نارٌ كبريتية" أو "يعلوها دخانٌ دائم"، وهي أوصاف جيولوجية دقيقة لظواهر بركانية في الجزيرة العربية والشام.


لقد نجحت الذاكرة الجمعية في تحويل أثر الرعب الأول إلى خرافةٍ تُروى في أمسيات السمر، ودرسٍ أخلاقي أو ديني للشعوب؛ فالجبل الغاضب يصبح "ملعونًا"، والانفجار البركاني يتحوّل إلى "عقابٍ إلهي"، والقرى المدفونة إلى "مدن خاطئة خسفت بها الأرض".
وكما تحدّثت الأساطير عن الجبال الغاضبة، منحت الصخور أيضًا صوتًا ووعيًا خاصًّا بها، في حكاياتٍ لا تقلّ عجبًا، تصف مواقع في آسيا الوسطى وشمال أوروبا تتردد فيها أصواتٌ غامضة عند الغروب أو تغيّر الفصول. يعتقد الناس أن هذه الصخور "تُغنّي"، أو أنّ أرواحًا حبيسة تتحدث من داخلها، أو أنّها "تتنفّس" مثل كائنٍ حيّ.
مثل هذه الأصوات فسرها الأجداد بإشارةٍ من العالم السفلي أو من "الآلهة الحارسة" التي تحفظ المكان؛ فالصوت لديهم كان علامة الوجود والوعي، ولذلك اعتُبر تحرّك الجماد بالصوت خرقًا للنظام الطبيعي ودليلًا على قداسة المكان أو لعنته. بينما تنقلب الظاهرة رأسًا على عقب من منظور الجيوميثولوجيا، لتصبح مجرد تفاعل مع تغيّر درجات الحرارة أو الرياح؛ حين تتمدّد الصخور نهارًا بفعل الحرارة وتنكمش ليلًا، تُطلق ذبذباتٍ مسموعة تشبه الأنين أو الطنين. وفي بعض المواقع المعدنية، تُصدر الصخور أصواتًا أكثر صفاءً بسبب تذبذبات مغناطيسية أو تيارات كهربائية أرضية. إنها، بتعبيرها، "الأرض تتنفس فيزيائيًا، فيُسجّل الإنسان أنينها ميتافيزيقيًا".

لعنة الماء

تمتدّ الذاكرة نفسها في أساطير البحيرات الكاميرونية عن بحيراتٍ حيّةٍ تغضب وتنتقم، تتحرك أو تنفجر فجأةً فتبتلع من يقترب منها. وكان السكان القدماء يتجنّبون السكن قربها، معتبرينها موطن "الأرواح الشريرة"، بينما تجاهل الوافدون تلك التحذيرات، فاستقرّوا عند ضفاف بحيرة نيوس، ليدفعوا ثمن جرأتهم غاليًّا.
تحكي الذاكرة الشعبية أن زعيم قبيلة كوم شنق نفسه انتقامًا من قبيلةٍ غادرة، وأوصى ألّا يُمسّ جسده، محذرًا من البحيرة التي ستنشأ من تحلّله، لأنها ستكون مميتة. وعندما تجاهل خصومه الوصية واصطادوا فيها، انفجرت البحيرة وقتلتهم جميعًا!
وفي عام 1986، تحقق شبح الأسطورة مجددًا حين أطلقت بحيرة نيوس سحبًا كثيفة من ثاني أكسيد الكربون، قتلت أكثر من 1700 شخص في دقائق. لم يكن هناك حريق ولا دمار، بل موت صامت نزل كـ"لعنة الماء". لاحقًا، فسّر العلماء الكارثة بانفجارٍ غازي ناجم عن اضطراب في توازن مياه البحيرة البركانية، لكن السؤال عن السبب الأول للانفجار ظلّ لغزًا بين العلم والخرافة.
هكذا تستعين مايور بخبرتها الطويلة في قراءة النصوص القديمة وربطها بالبيانات الجيولوجية الحديثة؛ فلكل أسطورة عندها جذرٌ واقعي مادي، وكلّ خرافة تحمل "نواة من الحقيقة" إذا قرأناها بعيون العلم. لتمضي بنا في رحلة استكشاف مذهلة على تخوم الأسطورة والعلم والتاريخ، عبر كتالوج حيّ يضم 53 أسطورة، تمتد من أستراليا إلى البحرين. من أسطورة بركان بودج بيم الأسترالي التي يعود أصلها إلى أكثر من 36 ألف عام، إلى ينابيع النار التي تُفسَّر اليوم بظواهر الغازات المنبعثة من باطن الأرض؛ ومن حكاية المخلوق الأفريقي العملاق جوبار الذي وثّقه علم الحفريات باكتشاف ديناصور جديد، إلى السمك القط الياباني نامازو الذي كان رمزًا للتنبؤ بالزلازل، وصولًا إلى شجرة الحياة في البحرين التي أحيطت بالقداسة قرونًا طويلة حتى كُشف تاريخها العلمي في القرن السادس عشر.
وتختتم فصولها بما هو أكثر إدهاشًا: دراسة علم الزلازل الحيواني (Zooseismology) التي تثبت قدرة الحيوانات على استشعار الكوارث قبل وقوعها، وإلى أي مدى يمكن الاستفادة منه. وبعد أن تربط الماضي بالحاضر، تتأمل المستقبل، متسائلةً عن نوع الفولكلور الذي سيبتكره الإنسان بعد آلاف السنين، حين يحاول أحفادنا تفسير آثار تغيّر المناخ أو الزلازل الناتجة عن التكسير الهيدروليكي. هل ستظلّ ذاكرة الكوارث الكبرى حيّة في أساطير تروي غرق المدن الساحلية، وانفجار الجبال، وذوبان الجليد في بحيراتٍ من الحمم الحامضة؟
ربما تظهر حينها حكايات عن طيورٍ تتوهّج في الظلام أو صائدي كنوزٍ يخترقون جدرانًا مشعّة في كهوفٍ غائرة، لتغدو تلك القصص، كما تقول مايور، "جيوميثولوجيا المستقبل"، أي الأساطير الجيولوجية التي ستسعى الأجيال المقبلة عبرها إلى فهم ماضيها المفقود كما نفعل نحن اليوم مع الأساطير الأولى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.