}
عروض

"قبل هذا الصمت": استنطاق الغياب وتحويل الصمت إلى رؤيا

عماد الدين موسى

5 نوفمبر 2025
 


يتسم شِعر جولان حاجي، بشفافية تجمع بين الرهافة والإدهاش، حيث تتجلّى المفارقات الوجودية من خلال تناوله لحالات الصراع الداخلي. ثمة لعبة جمالية حميمية تتكرر في نصوصه، تتحول فيها الشجرة إلى رمزٍ للحياة المستمرة وسط فوضى الموت، ويغدو الضوء المتسلل من بين أغصانها إشارة إلى توقٍ خفيّ للخلاص من دوامة الصمت. هذا التوظيف الرمزي يعكس قدرة الشاعر على تقليب وجع الكينونة ضمن أطر فنية آسرة.

في كتابه الشِعري "قبل هذا الصمت"، الصادر عن دار APIC في الجزائر (2024)، يمزج الشاعر الكُردي السوري جولان حاجي بين العمق الشِعري والكثافة التعبيرية، ساعيًا إلى التقاط لحظات إنسانية مفصلية تُجسّد معاناة الذات في بحثها المحموم عن المعنى في عالم مضطرب؛ يقول الشاعر في قصيدة (عشق) التي لا تتجاوز سطرًا واحدًا: "الفجر صعودُ روحي إلى خدّيك"، جملة تختزل التوق إلى التماس البشري كخلاص وجودي.

يعتمد حاجي على بنية رمزية كثيفة، تتجاور مع لغة تصويرية متشابكة تعكس قلق الذات وتمزقات الوجود، لتتوالى المشاهد في سياقٍ أسلوبي سلس يتداخل فيه الذاتي بالجمعي، ويستدعي الوجودي عبر اليومي.

جداريّة الوجع الإنساني

يشكّل الكتاب جداريّة شِعرية تنبض بالوجع الإنساني والأسئلة الوجودية، حيث يتداخل الصوت الداخلي مع العوالم المحيطة في تجربة استثنائية تمتزج فيها الروح الصوفية بالرمزية المعاصرة. تنبثق الصور الشِعرية من رحم المعاناة، ونتشكّل في هيئة لوحات فنية تجمع بين الرؤى الحُلُمية والأبعاد الواقعية.

يتنقّل الشاعر بين ثنائيات الضوء والعتمة، الحياة والموت، ليعبّر عن تجارب إشكالية مشحونة بالتوتر والقلق. في قصيدة "المتلصّص"، تبرز صورة الضوء المتسلل من قلب الشجرة كمجاز للموت، حيث يلتقي الأمل بالمأساة في تمازج يثير التأمل. وتشكّل ثيمة الصمت محورًا أساسيًا في الكتاب، بوصفه فضاءً للتأمل والبحث عن الذات، حيث تتحوّل اللغة إلى معبر للكشف عن خبايا الروح، من خلال توظيف "الصمت" كقوة تواصلية تتجاوز الكلام، وتغوص في أعماق الهمّ الفردي والجمعي.

يحتفي الكتاب بالجمال المنبثق من قلب المعاناة، حيث يتشابك الإيقاع الداخلي للقصيدة مع موسيقى اللغة، ليخلق أجواء شِعرية تبعث على التأمل وتثير التفكير. لا يسعى الديوان إلى تقديم أجوبةٍ، بل يفتح أمام القارئ مساحات من التأويل، تتيح له إعادة اكتشاف المعاني المختبئة بين الكلمات.

فالتجربة الشِعرية هنا تسعى لإعادة تشكيل الواقع عبر لغة مكثفة وصور مدهشة، في دعوة صامتة لاستكشاف الذات في عزلتها، حيث يتحوّل الصمت إلى بوابة لعالم من الرؤى والتأملات الوجودية. يجمع الديوان بين الذاتية والكونية، بين الكلمة وصداها، في رحلة تستقصي معاني الوجود بعمق ورهافة، ليغدو رسالة تأملية تدعو إلى إعادة النظر في الصمت، لا بوصفه غيابًا، بل كحضور داخلي يفتح أبواب الرؤيا الشِعرية الرحبة.

جماليات العناوين

تنهض العناوين في هذا الديوان بوظيفة دلالية وجمالية أساسية، فهي تضيء المتن وتوسّع أفق القراءة. العنوان الرئيس "قبل هذا الصمت" يختزل لحظة ما قبل الانطفاء، ويعبر عن توتر داخلي بين الرغبة في البوح والانجذاب نحو الصمت، بين القول وما يُستعصى قوله.

تتكرّس هذه الجمالية في عناوين أخرى مثل "اختفاءات"، الذي يحيل إلى تلاشي الحضور وتواري الذكريات؛ و"العائلة النائمة"، بما يوحي به من سكون مشوب بالحزن والغياب؛ و"الخريف، هنا، ساحر وكبير"، الذي يحتفي بجماليات الأفول ويُشيد بلحظة الزوال كذروة حسية.

في قصيدة "اختفاءات"، يقول الشاعر: "أنا، يا أختي، أنتِ. كان حذاؤك فُلكًا صغيرًا لحيواناتٍ مذعورة هي نظراتي". وفي قصيدة "العائلة النائمة" نقرأ: "بمفتاحٍ مُعلَّق إلى خصرها، فتحتْ أُمُّنا بابًا كان الموتُ ينتظرها وراءه". أما في قصيدة "الخريف، هنا، ساحر وكبير"، فيعبّر حاجي عن هشاشة الطريق بقوله: "الطريق هشّمتِ المرآة ذات الوجهين وقواريرَ العطّارين/ ولم تترك لنا إلا الغيوم نسكنها".

تكشف هذه العناوين والمقاطع عن وعي شِعري يُدرك تداخل المفاهيم الكبرى؛ حيث يتحول الصمت من مجرد انقطاع عن الكلام إلى رمز لفقدان الذات، فيما يصبح الخريف فضاءً لتأمل التحوّلات الجذرية، والجماليات الكامنة في لحظة التلاشي.

بين الاغتراب والهويّة

يسبر حاجي في هذا الكتاب أغوار الذات الإنسانية، مستخدمًا شِعريّة تتسم بالعمق والشفافية، حيث تتقاطع لحظات التأمل مع صور المعاناة، ويتناغم الصمت، بوصفه حالة وجودية، مع الهمّ الإنساني العابر للحدود.

يُشيّد الكتاب بناءً شِعريًا محكمًا، يمزج بين التكثيف الرمزي والتعبير العاطفي، ويتفاعل فيه الحسّ الصوفي مع الحداثة الشِعرية ضمن نسيج من الصور المتشابكة. هذا التفاعل يُنتج توتّرًا دائمًا بين الكلمة ومعناها، بين الصوت وظلاله، كاشفة عن حالة من التذبذب المستمر بين الرغبة في البوح والانجذاب نحو الصمت.

"قبل هذا الصمت" يفتح أفقًا يتجاوز انعكاس الذات، وينهض كرحلة روحية تمتد من الفردي إلى الكلي، وتلامس القلق الإنساني المشترك. يُستحضر فيه الصمت كطاقة رؤيوية قادرة على إعادة تشكيل العالم من الداخل. كما يعالج ثيمات الاغتراب، والهوية، والانكسار، ويقترح من خلال لغته الشِعرية إمكانات للفداء والخلاص، حيث تتقاطع التجربة الشخصية مع الهمّ الإنساني الأوسع.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.