فبين حدي الوهم والحقيقة تعيش الفلسطينية بتول، الشخصية المحورية في الرواية. حيث تحاصرها نبوءة عراف سامري، كما لو أن حبلًا ملتفًا حول جسدها، وهو ما يجعلها متعثرة بالخوف من المستقبل لوقت طويل. تجري الأحداث في دوامات، وتدور حول شخصيات متعددة، فلسطينية وعربية وغربية، لكنها توصلنا إلى مرسى بأن الحياة ليست هي من تتسبب في سجننا، وإنما القصص التي نصدقها عن أنفسنا.
سر متأخر
يسرد ناصيف ما في جرابه بطريقة ماكرة، من خلال إحداث تقسيط لمحتواه. فلا يكشف عنه دفعة واحدة، ويجعل القارئ شريكًا في الدوامات، حين يسحبه للشك في تحقق النبوءة من عدمه، ويتعمد أن يكشف عن سر الرواية في سطرها الأخير.
أتت لغة الرواية بسيطة واصفة لأدق التفاصيل، حيث صفات وثياب الشخصيات، على الطريقة الكلاسيكية في التوصيف، عبر 122 صفحة.
من السرد في الرواية: "كان يفكر بأنه عالم غريب ومضحك ومليء بالتهريج، بدليل وجود أشخاص مثل بتول، لم تكن هناك إمكانية منطقية للقائها مجددًا، فهو سوف يعود إلى فلسطين صباح الغد ولا يعرف عنوانها في تركيا، حتى هي نفسها، لم تكن تعرف عندما كانت تثرثر وتضحك وتبكي في غابة الكستناء، ولكنه راوده إحساس قوي بأنه سوف يلتقيها مرة أخرى".
أنف بينوكيو
تطغى التنشئة المريبة على شخصية بتول، وتصبح في صراع مع ذاتها وعائلتها والمجتمع من حولها.
لبتول أنف يشبه أنف بينوكيو، طويل وبارز بشكل شاذ، ما سبب لها تجرع وجبات متتالية من التنمر، منذ الطفولة. وفي شبابها اعتقدت بأنها صارت مطمعًا لأشخاص اعتقدوا بأنها تعيش أزمة أنفها، بالرغم من ثرائها. ولقد حاول الكثيرون التقرب منها، بهدف المال، لا الحب، لكن علاء العراقي غير تلك القناعة.
تلامس الرواية الشك حول الواقع، وكيفية إدارته. حيث رأيت ناصيف يقلب تربة الأشياء، بضربات من فأس خيالي. لقد حاول كسر اللوح الزجاجي الذي يحول دون المرور لأرض مليئة بالصراع، وهنا لا أتحدث عن الاحتلال من الجيش الإسرائيلي، وإنما القناعات التي يحملها الإنسان.
حمل "واختفى أنف أبي"، عنوان الرواية، إسقاطات على اختفاء الوهم، وانهيار برج الكذب الذي انبنت عليه حياة بتول. حيث عادت حرة من سجنها داخل سنوات طويلة، حاولت فيها التملص من نسبها لأبو رمان، الذي كانت تكرهه، وتكره الأنف الذي اعتقدت بأنه لصقه على وجهها بجيناته. لكن اكتشفت، من خلال مذكرات أبو كمال، بأن أمها هي من حملت ذلك الجين الشاذ، وقامت بتجميل أنفها، لتبدو متقبلة، في وقت مبكر من حياتها.
سيناريو مكتوب
انساقت بتول مع نبوءة السامري عاطف، الذي أخبرها بأنها ستتزوج وتنجب، ومن ثم تموت. ومنذذاك توقفت حياتها، وتحولت لسيناريو مكتوب في ذهنها، وعاشت رعبًا، في انتظار إسدال الستار على الجملة الأخيرة في النص.
لم تكن حياة الفتاة حقيقية، فالأب الوهمي، أبو رمان، لم يكن سوى ورطة في حياتها، بسلوكه السيء، وطريقته المشينة. كان أبو رمان جشعًا شرهًا في الجنس، يلبي رغباته بالعنف الجسدي والوحشية مع أمها، ومن ثم تحرشه بأخواتها، حتى طاولها الأمر عندما كبرت.
كرهت بتول وجه أبيها المزيف، ونقمت على كون أنفها يستطيل كما أنفه، بل فاق مطته. وحينما مات بسكتة قلبية بعد علاقة جنسية مع مومس، رقصت على قبره.
كان أبو رمان رمز الشر في الرواية، وعمد الكاتب لإيجاده لتبرير ضعف ثقة بتول بنفسها، حيث كان سببًا رئيسًا في صنع هويتها التي قبلت خرافة الكاهن، بفعل الضغط العصبي الذي ولده وجوده في حياتها.
يكتب ناصيف: "كان فتحي أبو رمان واحدًا من أثرياء القرية، يتقربون منه من أجل ماله فقط، بدأ حياته عاملًا في مصبنة سكبجي في نابلس، وكان بخيلًا يدخر ماله كله، إلا النزر اليسير، ويبيت في المصبنة، وعندما تقدم صاحبها في السن، كان فتحي قد ادخر ما يكفي من المال لشرائها، صرف معظم العمال وسد الفراغ بنفسه...".
حياة عادية
لعلّ أجمل ما في الرواية بنظري أنها لا تتحدث عن الاحتلال. فقد كانت رؤية جريئة من الكاتب، في عدم تناوله وجود أنف الاحتلال في كل صغيرة وكبيرة في الحياة الفلسطينية. فقد عرج بشكل بسيط على ذلك، معبرًا عن الجمود الذي تمضي من خلاله حياة الفلسطيني، بفعل الاحتلال. أما بقية العمل فكان مكرسًا لحياة الأشخاص، بعيدًا عن تلك السلطة البائسة للمحتل. فيقدمهم يحبون ويكرهون ويتناحرون بشكل اعتيادي، ولربما مثل هذا النوع من الروايات ضروري لإضفاء الطابع الإنساني الاعتيادي على الثقافة الفلسطينية، وإخراجها من قالب الضحية الدائمة للاحتلال، وهذا لا ينفي كونه مسببًا رئيسًا، ولو بالخفاء، في أزمات الفلسطينيين.
هنا يمكن مناقشة المسببات في انتشار الخرافة في المجتمع الفلسطيني، والتي من المؤكد أن الاحتلال يشكّل عاملًا مهمًا فيها. لربما هي طريقة فعالة في مواصلة بسط الكف على الكتلة الاجتماعية، والمزيد من الإحكام، بخلق سجون نفسية أعمق من سجن الواقع بأن يكون الفلسطيني محتلًا ومكبلًا من داخله، فلطالما قدم الاحتلال الخرافات والإشاعات مثل حيوان أليف يجرها لجانبه في كل مكان يدخله.
أما لحظة الكشف عن حقيقة العمل، وفتح الكاتب ليده للكشف عن السر، فجاءت في الفقرة الأخيرة. هذا الالتواء يصب في مصلحة فكرة العمل أيضًا، وكأن الحقيقة تشبه درجًا، لا يتم صعوده مرة واحدة.
تلك الميكانيزمات التي تتبعها المجتمعات في دحر الوهم والخرافات بطيئة جدًا، ومن هنا يمكن فهم مقصد الكاتب بأن المصير الحتمي للخرافات المزيد من الضياع والسقوط.
يفتح العمل على جدل حول قيمة الحياة، ومصادر بناء الذات. فنحن أمام سؤال جوهري، هل نحن من نبني الخرافة، أم هي من تبنينا؟ بناءً على القرار الذاتي، يصبح الشخص، ويكون. فسقطت بتول حين مشت بنبوءة العراف، فليس المهم هنا ما يقوله العراف، بل ما نصدقه نحن.
رموز
في الرواية رموز، يمكن ربطها بالنفسية التي سارت بها الأحداث، وشخصية بتول، كعمود فقري للرواية.
حيث جاء افتتاح الرواية بسقوط طائرة خلال السفر لتركيا، فكانت بتول وأخوها كمال الذي لا تعرفه، هما الناجيان الوحيدان. ذلك السقوط لربما يأخذنا لتفكيك العلاقة بين الحقيقة والخرافة، وتتبع المنحنى على الإحداثيات. فكان السقوط هو سقوط الحقيقة في حياة بتول، وتغلب الخرافة. لكن لحظة الكشف عن السر آخر العمل، حلقت بتول دون طائرة، وإلى الأبد.
وهنالك تمثال "علي ونينو"، في جورجيا، أورده الكاتب رمزًا للحب المستحيل، وتحديًا للموروث والتعاليم الاجتماعية والقيود الدينية، فهو في الأصل يحاكي ذلك. لكن التمثال تسبب في اعتصار جسد شخص، وقتله سريعًا، بدون رأفة. فهل كان الكاتب يرمز بذلك بأن الخرافة والتشققات الاجتماعية الناجمة عن الذاكرة الجمعية، تتسبب في تبديد الذات وتعتصرها؟
ويمكن إعادة النظر لاختفاء أنف بتول، بعد إجراء العملية، بانتهاء رحلة الكذب من حياتها، وانكشاف الحقيقة، والإجهاز على الخرافة. هذا لو ربطنا طول أنفها بقصة بينوكيو واستطالة الأنف بفعل الكذب.
هنالك تسارع في الأحداث في العمل، وحركة دائمة في مناطق مختلفة من السرد. وأرى أنه لو كان ذلك الإيقاع السردي أبطأ، لمنح المشهد المزيد من الجمال والتأمل، من ذلك ما بعد مشهد سقوط الطائرة، فقد كان مختصرًا سريعًا إثر ذلك.